فاتقوا الله أيها المسلمون حقَّ التقوى، واعلموا أن الأعمار تُطوى، والآجال تَفنى؛ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
معاشر المسلمين:
دماءٌ تسيل، صراخٌ وعويل، جيوبٌ تشقَّق، وخدود تلطم، أشعارٌ ورثاء، مآتمُ وعزاء، تهديد ووعيد لمن قتل هذا الشهيدَ، نداءاتٌ واستغاثات، ضربٌ للرؤوس والقامات، وأنَّات وآهات تنادي: يا حسين، يا حسين، يا حسين.
إنَّها مشاهد مكررة يُحييها الرافضة في كلِّ عام؛ إحياءً لذكرى استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما.
فتعالوا - عباد الله - لنقترب من الحسين وحياته، وخبره واستشهاده؛ لنعرف بذلك مَن أحقُّ الناس بالحسين؟ ومن الذي غَدَر حقًّا بالحسين؟ ثم ما موقفُ أهل السنة والجماعة من هذه القضية وتوابعها؟
إخوة الإيمان:
ها هو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجرُّ إزاره مسرعًا قد سَمِعَ خبرًا خفق له فؤادُه، وتحركت من أجله لواعجُ شوقه، لقد ولدت فاطمةُ بنت محمد طفلاً.
دخل الجدُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ابنته، وحمل الوليدَ المبارك بين يديه، ثم أتى بتمرةٍ، فلاكها بريقه الشريف، وحنَّك الطفل بها، ثم التفت إلى علي، فقال: ((ما أسميته؟))، قال عليٌّ: جعفرًا، فاختار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذا المولود الجميل اسمًا لم يكن للناس به عهد من قبل، فقال: ((بل سمِّه الحُسين))، ولما بلغ الحسين يومه السابع من عمره، عقَّ عنه جدُّه محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكبشين.
عاش هذا الطفل، وترعرع في بيت النُّبوة الذي قال الله عنه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وامتلأ قلب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - محبةً ورحمةً بهذا الطفل الصغير، حتى سمَّاه: ريحانته، بل بلغ من مَحبَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - للحسين أنَّه كان لا يطيق سماعَ بكائه.
مرَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا على باب علي - رضي الله عنه - فسمع صوت الحسين يبكي، فنادى ابنته فاطمة: ((يا زهراء، أَمَا علمتِ أنَّ بكاءه يؤذيني، أما علمت أنَّ بكاءه يؤذيني)).
كَبر الحسين - رضي الله عنه - قليلاً، فكانت خُطُواته الصغيرة لا تخطئ مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - شوقًا لرؤية جده محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - تعلَّق هذا الوليد الصغير بجدِّه تعلُّقًا كبيرًا، فكان إذا سمع صوته هفَا له قلبُه، وأسرع نحوه يلاعبه، ويغرف من عطفه حنان الأبوَّة.
حدثتْنا كتب السنة أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يخطب بأصحابه يومًا، فدخل الحسن والحسين، عليهما ثوبان أحمران يعثران من المشي، فلم يصبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمام هذا المنظر وهو بشرٌ من البشر، فقطع خطبته ونزل من فوق منبره، فأقبل نحوَهما وضمَّهما إليه، فصعد بهما المنبر، ثم قال: ((صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ})) [التغابن: 15]، ثم قال: ((نظرتُ إلى هذين فلم أصبر))، ثم شرع في خطبته.
بل ربما دخل الحسين مسجدَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فامتَطَى ظهرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ساجد، فيطيلُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه السجدة؛ كراهيةَ أن يُعجله.
خرج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى طعام، وفي طريقه رأى الحسين يلعب، فتقدم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نحوه وبسط يديه، فجعل الحسين يفرُّ هاهنا وهاهنا، والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يضاحكه، ثم حمله فقال: ((حسين منِّي وأنا من حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ حسينًا، حسين سبطٌ من الأسباط))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، وحسنه الألباني.
يكفي الحسينَ بن علي - رضي الله عنهما - شرفًا وفضلاً وفخرًا قولُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه: ((الحسن والحسين سيدَا شباب أهل الجنة)):
وقبل أن يفارق النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الدنيا بلحَظات يسيرات، لم ينسَ أن يودِّع الحسين وأخاه الحسن بقبلاتٍ حارَّات، ثم أوصى بهما خيرًا.
تألم الحسين - رضي الله عنه - وهو في ربيعه السادس لوفاة جده - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحزن عليه حزنًا شديدًا؛ فقد كان الجد في حياته والدًا رحيمًا، ومربيًا عظيمًا، ولم يمضِ من الأيام ستة أشهر إلا والأحزان تتجدَّد في قلب ذلك الصبيِّ الصغير، لقد فُجِع بفاجعة عظيمة؛ توفِّيت أمُّه فاطمة الزهراء سيدة نساء الجنة.
لا تَسَلْ بعد ذلك عن مرارات الحزن وزفرات الأشجان التي كان يدافعها ذلك القلب البريء.
لا عليك يا حسين، ولا تغتمَّ ولا تجزع.
فوالله لن ينساك أصحاب محمد وأحباب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
لقد عاش الحسين - رضي الله عنه - بعد وفاة الجد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حياة الإكرام واقعًا محسوسًا، فكان الأصحاب - رضي الله عنهم - يكرمونه إكرامًا للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحبونه محبةً للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
كيف لا، وقد كان أشبهَ الناس بالحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فقد كان مُحَيَّاه يذكِّر الأصحابَ بمحمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقد وفَّى الصدِّيق - رضي الله عنه - بصاحبه في الغار، فكان أبو بكر وهو ابن الستين عامًا يعطف ويحنو على الحسين الشيءَ الكثير؛ كان إذا رآه يُقْبِل عليه ويبشُّ له، كان - رضي الله عنه - يقول للناس: ارقُبُوا محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في آل بيته.
فاضَتْ عيناه - رضي الله عنه - من الدموع، وهو يقول لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لَقرابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي.
أما الفاروق - رضي الله عنه - فقد كان يُجِلُّ الحسين، ويوقِّر الحسين، ويحب الحسين؛ كيف لا، والحسين صِهْرُ الفاروق - رضي الله عنهم؟! فقد تزوَّج عمر أختَ الحسين، أمَّ كلثوم بنت عليٍّ - رضي الله عنهما - ولما أنشأ عمر - رضي الله عنه - الديوان، كان يفرض للحسن والحسين كما يفرض لأهل بدر؛ محبةً وإكرامًا للسِّبْطَين.
فتح المسلمون بلاد الفرس، وجِيء ببنت يَزْدَجِرْد ملِك الفرس إلى عمر - رضي الله عنه - وكانت من أجمل النساء، فلم يستأثرها عمر لنفسه ولا لذريته وأقاربه، وإنما أهداها إلى أحب الناس إليه، أهداها للحسين بن علي - رضي الله عنهما - فتزوَّجها وأنجبت له عليَّ بن الحسين زين العابدين.
وهو الوحيد الذي بقي من نسل الحسين، ثم جاء عثمان - رضي الله عنه - فحفظ للحسين فضله ومكانته، وكان قريبًا من قلب عثمان - رضي الله عنه - لقرابته منه؛ فقد كان عثمان - رضي الله عنه - زوج خالتَيِ الحسين: رقية وأم كلثوم، بنتيْ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعاش الحسين - رضي الله عنه - حياةَ الإكرام أيضًا في زمن معاوية - رضي الله عنه - فكان معاوية - رضي الله عنه - يبعث للحسن والحسين من العطاء الشيءَ الكثير، وكان للحسين شرفُ المشاركة مع الجيش الذي بعثَه معاوية لفتْح القسطنطينية، الذين قال عنهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوَّل جيشٍ من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم))؛ رواه البخاري في "صحيحه".
وهكذا كانت محبة بقية الأصحاب - رضي الله عنهم - للحسين - رضي الله عنه - كان ابن عباس يأخذ الرِّكاب للحسين إذا ركب، ويرى هذا من النِّعَم عليه، ورأى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الحسين بن علي يمشي بجوار الكعبة، فقال: هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء.
إخوة الإيمان:
في سنة ستين للهجرة بُويِع يزيد بن معاوية بالخلافة، وتألم الحسين - رضي الله عنه - من هذه البيعة؛ لأنه كان يرى أن هناك مَن هو أحقُّ بالخلافة من يزيد من أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يبايع الحسين - رضي الله عنه - يزيدَ بن معاوية، وترك الناسَ وشأنَهم، وجاوَر مكة يتعبَّد لله - تعالى.
سمع أهل الكوفة أن الحسين بن عليٍّ - رضي الله عنه - لم يُبايِع، وكانوا أصحاب تاريخ مليء بالفتنة والشِّقَاق، وكانوا يُظْهِرون الميل لعليٍّ وشيعته. أرسل أهل الكوفة الرسائلَ والكتبَ يدعون الحسين للبيعة، وتتابعت الرسائل إلى الحسين حتى بلغت أكثر من خمسمائة كتاب، عندها أرسل الحسين ابنَ عمه مسلم بن عقيل ليستوثق الخبر، وصل مسلم بن عقيل الكوفة، فوجد الناس يريدون الحسين، وجعل يأخذ البَيْعة للحسين في دار هانئ بن عروة حتى بايعه ثمانية عشر ألفًا من أهل الكوفة، وقيل: ثلاثون ألفًا، ثم كتب مسلم بن عقيلٍ إلى ابن عمه الحسين: أن اقدِم فقد تمت البيعة لك.
وصلت الأخبار ليزيد بن معاوية عن بيعة أهل الكوفة، فأمر واليَه على البصرة عبيدالله بن زياد أن يضمَّ الكوفة إليه، وأمَره أن يمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين، ولم يأمر يزيدُ بقتل الحسين، وإنما أمَر أن يُمْنَع من الكوفة.
عَلِم مسلم بن عقيل أن عبيدالله بن زياد يريد ضمَّ الكوفة، فخرج مسلم بن عقيل ومعه أربعة آلاف ممن بايَعه من شيعة الكوفة، وتوجَّه بجيشه وحاصَر عبيدالله بنَ زياد في قصره، وشدَّد عليه الحصار.
أما عبيدالله بن زياد المحاصَر، فعرف بمكْرِه ودهائِه كيف يفرِّق شيعة الكوفة عن مسلم بن عقيل؛ فأرسل إلى رؤساء القبائل في الكوفة وأعطاهم من الأموال ما يخذلهم عن نصرة الحسين ومسلم بن عقيل.
فجعل عُبَّادُ المال ينفرون ويتفرَّقون عن مسلم بن عقيل حتى أمسى وليس معه أحد، فوقع مسلم بن عقيل في قبضة ابن زياد فأمر بقتله، فطلب أن يكتب للحسين يخبره بحقيقة خيانة شيعة أهل الكوفة، فكتب كتابًا للحسين هذا نصه: "ارجِع بأهلك، ولا يغرنَّك أهل الكوفة؛ فقد كذَبوني وكذَبوك، وليس لكاذب رأيٌ".
أما الحسين بن علي - رضي الله عنه - فلم يعلم بما حصل لابن عمه وخيانة أهل الكوفة له، فخرج ظنًّا منه أنَّ البيعة قد تمت له هناك.
خرج الحسين - رضي الله عنه - من مكة، وليس على وجه الأرض مَن يوازيه في الفضل، وخرج معه سبعون من أهل بيته من أولاده وإخوانه وأبناء إخوانه.
حاول الصحابة - رضي الله عنهم - منْع الحسين وثنيَه عن الخروج ففشلوا، بل إن عبدالله بن عمر بن الخطاب لحق به بعد ثلاث ليالٍ حتى وصل إليه فقال: أين تريد؟ قال: إلى العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم، فقال له ابن عمر: لا تأتيهم، لا تأتيهم، فأبى - رضي الله عنه - فلما رأى ابن عمر إصرارَه ضمَّه وقال: أستودِعك الله من قتيل.
مضى الحسين - رضي الله عنه - إلى العراق، وقبل وصوله علم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، فهمَّ أن يرجع، إلا أن أبناء مسلم بن عقيل الذين كانوا معه طلبوا ثأر أبيهم، فنزل على رأيهم وواصل المسير، أما عبيدالله بن زياد، فقد أرسل جيوشه لمنْع الحسين من الكوفة، فالتقى الجمعان في أرض كربلاء في العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة؛ الحسين ومعه سبعون من أهل بيته، وجيش ابن زياد بقيادة شمر بن ذي الجَوْشَن، وعمر بن سعد، وعددهم خمسة آلاف رجل.
رأى الحسين عدمَ التكافؤ بينه وبين خصمه؛ فعرض عليهم ثلاثة أمور:
- إما أن يتركوه أن يرجع من حيث أتى.
- أو أن ينطلق إلى ثغر من ثغور المسلمين للجهاد.
- أو أن يتركوه يذهب إلى يزيد بالشام.
فأبى عليه شمر - الذي كان بالأمس من شيعة علي، ها هو اليوم يقاتل ابنَ علي - أبى إلا أن يُرْبَط أسيرًا، وينزل على حكْم عبيدالله بن زياد أو القتال؛ فقال الحسين: لا والله لا أنزل على حكم ابن زياد أبدًا، واصطفَّ الجيشان، وتجهَّز الجميع للقتال.
هنا رفع الحسين - رضي الله عنه - يديه إلى السماء ودعَا على أهل الكوفة قائلاً: اللهم إن متعتهم إلى حين ففرِّقهم فِرَقًا، واجعلهم طرائق قِدَدًا، ولا تُرْضِي الولاةَ عنهم أبدًا؛ فإنهم دعَونَا لينصرونا، ثم عدَوْا علينا فقتلونا، وهذا الدعاء ذكرتْه كتب الشيعة أيضًا.
وبدأ القتال وحمي الوَطِيس، وكان يومًا عصيبًا على الحسين - رضي الله عنه - يرى أهل بيته يتساقطون بين يديه صَرْعَى واحدًا تِلْوَ الآخر حتى بقي - رضي الله عنه - وحده، فتقدم إليه شمر بن ذي الجَوْشَن، فرماه برُمحه في رقبته، ثم طعنه فسقط - رضي الله عنه - شهيدًا، وفاضت روحه الطاهرة إلى باريها، وهكذا قُتِل سيد المسلمين في عصره، قُتِل ريحانة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - قُتِل الزاهد العابد المبشَّر بالجنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدْي سيد المرسلين، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى.
أما بعد؛ فيا إخوة الإيمان:
وبعد هذا العَرْض لمقتَل الحسين - رضي الله عنه - يبقى السؤال الأهمُّ: مَن قتَل الحسين؟ أهم أهل السنة ؟ أم بنو أمية كما يزعم الرافضة.
إن الحقيقة التي ينبغي أن يَعِيَها الجميع : أن قتَلة الحسين هم أهل الكوفة الذين دعوه للبيعة ثم خانوه، وحتى لا يكون الكلام تجنيًا ورجمًا بالتُّهَم نستنطق كتبَ الشيعة لتؤكِّد لنا بجلاء ووضوح أن الذين دَعَوْه لنصرته ومبايعته هم الذين قتلوه، ثم ذرفوا الدموع على موته!
جاء في كتاب "أعيان الشيعة"، لسيدهم محسن الأمين، قال: بايَع الحسينَ عشرون ألفًا من أهل العراق، غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه.
ويقول محدِّث الشيعة عباس القُمِّي في كتابه "منتهى الآمال": تواترت الكتب إلى الحسين حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب من عديمي الوفاء.
وذكر المؤرخ الشيعيُّ اليعقوبي في "تاريخه": أنه لما دخل عليُّ بن الحسين الكوفةَ رأى نساءها يبكين ويصرخن، فقال: هؤلاء يبكين علينَا، فمَن قتلنا؟! أي: مَن قتلنا غيرهم؟!
عباد الله:
وأما أهل السنة والجماعة فيعدُّون قتل الحسين - رضي الله عنه - فاجعةً عظيمة، وجرحًا غائرًا في جسد الأمة، وأن قاتليه هم من شرار الخلق وأفسق الخليقة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما مَن قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وعزاء أهل السنة والجماعة في الحسين أنه عاش حميدًا، ومات شهيدًا، ولا يقولون إلا ما يُرضِي ربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يضربون لهذه المصيبة خدًّا، ولا يشقُّون لها جيبًا، ولا يحيون معها معالم الجاهلية الأولى.
هذا موقف سلَف الأمة من قتل الحسين، وممَّن قُتِل قبل الحسين؛ كعليِّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب - رضي الله عن الجميع.
إخوة الإيمان:
وإن مما ينبغي أن يَعِيَه المسلمون أيضًا مع أفعال الرافضة في إحيائهم لذكرى مقتل الحسين:
أن الرافضة ما حفظوا وحافظوا على هذه البدعة وإحياء شعائرها إلا لهدفين رئيسَين:
الأول: إحياء جَذْوَة التشيع في قلوب أصحابه، والمحافظة على ديمومة مذهبهم وبقائه؛ يقول إمامهم في هذا العصر الخميني: إن البكاء على الشهيد يُعَدُّ إبقاءً على اتِّقاد الثورة وتأجُّجها.
ويقول أيضًا: فبذكْر مصائبهم بقي هذا الدين حيًّا في الأمة.
أما هدفهم الآخَر في إحياء عاشوراء: فهو شحْن القلوب وتجييش النفوس على أعداء آل البيت - زعموا - ومَن هم أعداء آل بيت؟ هم مَن لا يؤمن بولايتهم على التصور الشيعي.
ينادي الرافضة في هذا اليوم، يا لثَارَاتِ الحسين، والثأر لحقِّ آل البيت، وأين هم قتلة الحسين؟ لقد أكل عليهم الزمان وشرب.
خان ابن العلقمي الخليفة العباسي واستباح بغدادَ بحجَّة الثأر للحسين، وأعمَل إسماعيل الصفوي السيفَ في أهل العراق، وأجرى فيها شلالات الدماء بحجة الثأر للحسين، وما زال الرافضة في كل زمان يسفكون دماء السنة بحجة الثأر للحسين.
والآن تُهْدَم المساجد في العراق وتُبْقَر البطون، وتُحْرَق الجثث وتُغْتَصَب العذارى باسم الثأر للحسين، ومع كل مُحَرَّم تزداد جرأة وشراسة الرافضة على أهل السنة؛ حتى يعلم الجميع أن شعائر عاشوراء إنما هي في الحقيقة حِقَن لشحْن نفوس الأتباع ضدَّ أهل السنة والجماعة.
يقول الهالك الخميني: يجب التذكير في عاشوراء بالمصائب والمظالم التي يرتكبها الظالمون في كل عصر، وبالأخصِّ في هذا العصر الذي هو عصر مظلومية العالم الإسلامي على يد أمريكا وروسيا والوهابيين.
أيها المؤمنون:
لقد تجاوز الرافضة قضية البكاء على الحسين، إلى المتاجرة بدم الحسين؛ لتحقيق مكاسب سياسية؛ ففي كل عاشوراء يطلُّ علينا ساداتهم ليُظْهِروا للمسلمين أنهم هم المدافِعُون المنافِحُون عن قضايا الأمة ومقدَّساتها وأراضيها المسلوبة.
والكل يعلم والتاريخ يشهد أن الرافضة لم يكونوا يومًا ما مصدر عز المسلمين، ولم تكن لهم فتوحاتٌ في التاريخ تُذْكَر، ولا تحرير للمقدَّسات يُشْكَر، وإنَّما هم خنجر يطعن في جسد المسلمين، وشوكة تُذْكِي الفُرْقَة بين المسلمين.
وأخيرًا عباد الله:
فإن كان للعقل والمنطق صوتٌ فحُقَّ له أن يتساءل: هل إحياء عاشوراء وتأجيج نفوس الأتباع على سواد المسلمين من أهل السنة يخدم الوحدة المزعومة التي ينادي بها الشيعة صباحًا ومساء؟!
هل مآتمهم تلك وما فيها من تربية الأتباع على شتْم ولعْن خِيَار هذه الأمة يُساعِد على خلق جوٍّ هادئٍ بين الفريقين، أم هو نفخ في النار، وإيقاظ الفتن النائمة؟! والفتنة نائمة لُعِن موقظها.
اللهم صل على محمد ......
معاشر المسلمين:
دماءٌ تسيل، صراخٌ وعويل، جيوبٌ تشقَّق، وخدود تلطم، أشعارٌ ورثاء، مآتمُ وعزاء، تهديد ووعيد لمن قتل هذا الشهيدَ، نداءاتٌ واستغاثات، ضربٌ للرؤوس والقامات، وأنَّات وآهات تنادي: يا حسين، يا حسين، يا حسين.
إنَّها مشاهد مكررة يُحييها الرافضة في كلِّ عام؛ إحياءً لذكرى استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما.
فتعالوا - عباد الله - لنقترب من الحسين وحياته، وخبره واستشهاده؛ لنعرف بذلك مَن أحقُّ الناس بالحسين؟ ومن الذي غَدَر حقًّا بالحسين؟ ثم ما موقفُ أهل السنة والجماعة من هذه القضية وتوابعها؟
إخوة الإيمان:
ها هو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجرُّ إزاره مسرعًا قد سَمِعَ خبرًا خفق له فؤادُه، وتحركت من أجله لواعجُ شوقه، لقد ولدت فاطمةُ بنت محمد طفلاً.
دخل الجدُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ابنته، وحمل الوليدَ المبارك بين يديه، ثم أتى بتمرةٍ، فلاكها بريقه الشريف، وحنَّك الطفل بها، ثم التفت إلى علي، فقال: ((ما أسميته؟))، قال عليٌّ: جعفرًا، فاختار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذا المولود الجميل اسمًا لم يكن للناس به عهد من قبل، فقال: ((بل سمِّه الحُسين))، ولما بلغ الحسين يومه السابع من عمره، عقَّ عنه جدُّه محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكبشين.
عاش هذا الطفل، وترعرع في بيت النُّبوة الذي قال الله عنه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وامتلأ قلب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - محبةً ورحمةً بهذا الطفل الصغير، حتى سمَّاه: ريحانته، بل بلغ من مَحبَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - للحسين أنَّه كان لا يطيق سماعَ بكائه.
مرَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا على باب علي - رضي الله عنه - فسمع صوت الحسين يبكي، فنادى ابنته فاطمة: ((يا زهراء، أَمَا علمتِ أنَّ بكاءه يؤذيني، أما علمت أنَّ بكاءه يؤذيني)).
كَبر الحسين - رضي الله عنه - قليلاً، فكانت خُطُواته الصغيرة لا تخطئ مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - شوقًا لرؤية جده محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - تعلَّق هذا الوليد الصغير بجدِّه تعلُّقًا كبيرًا، فكان إذا سمع صوته هفَا له قلبُه، وأسرع نحوه يلاعبه، ويغرف من عطفه حنان الأبوَّة.
حدثتْنا كتب السنة أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يخطب بأصحابه يومًا، فدخل الحسن والحسين، عليهما ثوبان أحمران يعثران من المشي، فلم يصبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمام هذا المنظر وهو بشرٌ من البشر، فقطع خطبته ونزل من فوق منبره، فأقبل نحوَهما وضمَّهما إليه، فصعد بهما المنبر، ثم قال: ((صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ})) [التغابن: 15]، ثم قال: ((نظرتُ إلى هذين فلم أصبر))، ثم شرع في خطبته.
بل ربما دخل الحسين مسجدَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فامتَطَى ظهرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ساجد، فيطيلُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه السجدة؛ كراهيةَ أن يُعجله.
خرج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى طعام، وفي طريقه رأى الحسين يلعب، فتقدم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نحوه وبسط يديه، فجعل الحسين يفرُّ هاهنا وهاهنا، والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يضاحكه، ثم حمله فقال: ((حسين منِّي وأنا من حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ حسينًا، حسين سبطٌ من الأسباط))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، وحسنه الألباني.
يكفي الحسينَ بن علي - رضي الله عنهما - شرفًا وفضلاً وفخرًا قولُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه: ((الحسن والحسين سيدَا شباب أهل الجنة)):
يَا أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ حُبُّكُمُ فَرْضٌ مِنَ اللهِ فِي القُرْآنِ أَنْزَلَهُ كَفَاكُمُ مِنْ عَظِيمِ القَدْرِ أَنَّكُمُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُمْ لاَ صَلاَةَ لَهُ |
وقبل أن يفارق النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الدنيا بلحَظات يسيرات، لم ينسَ أن يودِّع الحسين وأخاه الحسن بقبلاتٍ حارَّات، ثم أوصى بهما خيرًا.
تألم الحسين - رضي الله عنه - وهو في ربيعه السادس لوفاة جده - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحزن عليه حزنًا شديدًا؛ فقد كان الجد في حياته والدًا رحيمًا، ومربيًا عظيمًا، ولم يمضِ من الأيام ستة أشهر إلا والأحزان تتجدَّد في قلب ذلك الصبيِّ الصغير، لقد فُجِع بفاجعة عظيمة؛ توفِّيت أمُّه فاطمة الزهراء سيدة نساء الجنة.
لا تَسَلْ بعد ذلك عن مرارات الحزن وزفرات الأشجان التي كان يدافعها ذلك القلب البريء.
لا عليك يا حسين، ولا تغتمَّ ولا تجزع.
فوالله لن ينساك أصحاب محمد وأحباب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
لقد عاش الحسين - رضي الله عنه - بعد وفاة الجد - صلَّى الله عليه وسلَّم - حياة الإكرام واقعًا محسوسًا، فكان الأصحاب - رضي الله عنهم - يكرمونه إكرامًا للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحبونه محبةً للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
كيف لا، وقد كان أشبهَ الناس بالحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فقد كان مُحَيَّاه يذكِّر الأصحابَ بمحمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقد وفَّى الصدِّيق - رضي الله عنه - بصاحبه في الغار، فكان أبو بكر وهو ابن الستين عامًا يعطف ويحنو على الحسين الشيءَ الكثير؛ كان إذا رآه يُقْبِل عليه ويبشُّ له، كان - رضي الله عنه - يقول للناس: ارقُبُوا محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في آل بيته.
فاضَتْ عيناه - رضي الله عنه - من الدموع، وهو يقول لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لَقرابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي.
وَمَا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ خِلاَفَتَهُ إِلاَّ انْحَنَى مُرْهَفَ الوِجْدَانِ وَابْتَسَمَا وَقَالَ قَوْلَةَ إِجْلاَلٍ وَمَرْحَمَةٍ قَرَابَةُ المُصْطَفَى أَوْلَى بِنَا رَحِمَا |
أما الفاروق - رضي الله عنه - فقد كان يُجِلُّ الحسين، ويوقِّر الحسين، ويحب الحسين؛ كيف لا، والحسين صِهْرُ الفاروق - رضي الله عنهم؟! فقد تزوَّج عمر أختَ الحسين، أمَّ كلثوم بنت عليٍّ - رضي الله عنهما - ولما أنشأ عمر - رضي الله عنه - الديوان، كان يفرض للحسن والحسين كما يفرض لأهل بدر؛ محبةً وإكرامًا للسِّبْطَين.
فتح المسلمون بلاد الفرس، وجِيء ببنت يَزْدَجِرْد ملِك الفرس إلى عمر - رضي الله عنه - وكانت من أجمل النساء، فلم يستأثرها عمر لنفسه ولا لذريته وأقاربه، وإنما أهداها إلى أحب الناس إليه، أهداها للحسين بن علي - رضي الله عنهما - فتزوَّجها وأنجبت له عليَّ بن الحسين زين العابدين.
وهو الوحيد الذي بقي من نسل الحسين، ثم جاء عثمان - رضي الله عنه - فحفظ للحسين فضله ومكانته، وكان قريبًا من قلب عثمان - رضي الله عنه - لقرابته منه؛ فقد كان عثمان - رضي الله عنه - زوج خالتَيِ الحسين: رقية وأم كلثوم، بنتيْ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعاش الحسين - رضي الله عنه - حياةَ الإكرام أيضًا في زمن معاوية - رضي الله عنه - فكان معاوية - رضي الله عنه - يبعث للحسن والحسين من العطاء الشيءَ الكثير، وكان للحسين شرفُ المشاركة مع الجيش الذي بعثَه معاوية لفتْح القسطنطينية، الذين قال عنهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوَّل جيشٍ من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم))؛ رواه البخاري في "صحيحه".
وهكذا كانت محبة بقية الأصحاب - رضي الله عنهم - للحسين - رضي الله عنه - كان ابن عباس يأخذ الرِّكاب للحسين إذا ركب، ويرى هذا من النِّعَم عليه، ورأى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الحسين بن علي يمشي بجوار الكعبة، فقال: هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء.
إخوة الإيمان:
في سنة ستين للهجرة بُويِع يزيد بن معاوية بالخلافة، وتألم الحسين - رضي الله عنه - من هذه البيعة؛ لأنه كان يرى أن هناك مَن هو أحقُّ بالخلافة من يزيد من أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يبايع الحسين - رضي الله عنه - يزيدَ بن معاوية، وترك الناسَ وشأنَهم، وجاوَر مكة يتعبَّد لله - تعالى.
سمع أهل الكوفة أن الحسين بن عليٍّ - رضي الله عنه - لم يُبايِع، وكانوا أصحاب تاريخ مليء بالفتنة والشِّقَاق، وكانوا يُظْهِرون الميل لعليٍّ وشيعته. أرسل أهل الكوفة الرسائلَ والكتبَ يدعون الحسين للبيعة، وتتابعت الرسائل إلى الحسين حتى بلغت أكثر من خمسمائة كتاب، عندها أرسل الحسين ابنَ عمه مسلم بن عقيل ليستوثق الخبر، وصل مسلم بن عقيل الكوفة، فوجد الناس يريدون الحسين، وجعل يأخذ البَيْعة للحسين في دار هانئ بن عروة حتى بايعه ثمانية عشر ألفًا من أهل الكوفة، وقيل: ثلاثون ألفًا، ثم كتب مسلم بن عقيلٍ إلى ابن عمه الحسين: أن اقدِم فقد تمت البيعة لك.
وصلت الأخبار ليزيد بن معاوية عن بيعة أهل الكوفة، فأمر واليَه على البصرة عبيدالله بن زياد أن يضمَّ الكوفة إليه، وأمَره أن يمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين، ولم يأمر يزيدُ بقتل الحسين، وإنما أمَر أن يُمْنَع من الكوفة.
عَلِم مسلم بن عقيل أن عبيدالله بن زياد يريد ضمَّ الكوفة، فخرج مسلم بن عقيل ومعه أربعة آلاف ممن بايَعه من شيعة الكوفة، وتوجَّه بجيشه وحاصَر عبيدالله بنَ زياد في قصره، وشدَّد عليه الحصار.
أما عبيدالله بن زياد المحاصَر، فعرف بمكْرِه ودهائِه كيف يفرِّق شيعة الكوفة عن مسلم بن عقيل؛ فأرسل إلى رؤساء القبائل في الكوفة وأعطاهم من الأموال ما يخذلهم عن نصرة الحسين ومسلم بن عقيل.
فجعل عُبَّادُ المال ينفرون ويتفرَّقون عن مسلم بن عقيل حتى أمسى وليس معه أحد، فوقع مسلم بن عقيل في قبضة ابن زياد فأمر بقتله، فطلب أن يكتب للحسين يخبره بحقيقة خيانة شيعة أهل الكوفة، فكتب كتابًا للحسين هذا نصه: "ارجِع بأهلك، ولا يغرنَّك أهل الكوفة؛ فقد كذَبوني وكذَبوك، وليس لكاذب رأيٌ".
أما الحسين بن علي - رضي الله عنه - فلم يعلم بما حصل لابن عمه وخيانة أهل الكوفة له، فخرج ظنًّا منه أنَّ البيعة قد تمت له هناك.
خرج الحسين - رضي الله عنه - من مكة، وليس على وجه الأرض مَن يوازيه في الفضل، وخرج معه سبعون من أهل بيته من أولاده وإخوانه وأبناء إخوانه.
حاول الصحابة - رضي الله عنهم - منْع الحسين وثنيَه عن الخروج ففشلوا، بل إن عبدالله بن عمر بن الخطاب لحق به بعد ثلاث ليالٍ حتى وصل إليه فقال: أين تريد؟ قال: إلى العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم، فقال له ابن عمر: لا تأتيهم، لا تأتيهم، فأبى - رضي الله عنه - فلما رأى ابن عمر إصرارَه ضمَّه وقال: أستودِعك الله من قتيل.
مضى الحسين - رضي الله عنه - إلى العراق، وقبل وصوله علم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، فهمَّ أن يرجع، إلا أن أبناء مسلم بن عقيل الذين كانوا معه طلبوا ثأر أبيهم، فنزل على رأيهم وواصل المسير، أما عبيدالله بن زياد، فقد أرسل جيوشه لمنْع الحسين من الكوفة، فالتقى الجمعان في أرض كربلاء في العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة؛ الحسين ومعه سبعون من أهل بيته، وجيش ابن زياد بقيادة شمر بن ذي الجَوْشَن، وعمر بن سعد، وعددهم خمسة آلاف رجل.
رأى الحسين عدمَ التكافؤ بينه وبين خصمه؛ فعرض عليهم ثلاثة أمور:
- إما أن يتركوه أن يرجع من حيث أتى.
- أو أن ينطلق إلى ثغر من ثغور المسلمين للجهاد.
- أو أن يتركوه يذهب إلى يزيد بالشام.
فأبى عليه شمر - الذي كان بالأمس من شيعة علي، ها هو اليوم يقاتل ابنَ علي - أبى إلا أن يُرْبَط أسيرًا، وينزل على حكْم عبيدالله بن زياد أو القتال؛ فقال الحسين: لا والله لا أنزل على حكم ابن زياد أبدًا، واصطفَّ الجيشان، وتجهَّز الجميع للقتال.
هنا رفع الحسين - رضي الله عنه - يديه إلى السماء ودعَا على أهل الكوفة قائلاً: اللهم إن متعتهم إلى حين ففرِّقهم فِرَقًا، واجعلهم طرائق قِدَدًا، ولا تُرْضِي الولاةَ عنهم أبدًا؛ فإنهم دعَونَا لينصرونا، ثم عدَوْا علينا فقتلونا، وهذا الدعاء ذكرتْه كتب الشيعة أيضًا.
وبدأ القتال وحمي الوَطِيس، وكان يومًا عصيبًا على الحسين - رضي الله عنه - يرى أهل بيته يتساقطون بين يديه صَرْعَى واحدًا تِلْوَ الآخر حتى بقي - رضي الله عنه - وحده، فتقدم إليه شمر بن ذي الجَوْشَن، فرماه برُمحه في رقبته، ثم طعنه فسقط - رضي الله عنه - شهيدًا، وفاضت روحه الطاهرة إلى باريها، وهكذا قُتِل سيد المسلمين في عصره، قُتِل ريحانة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - قُتِل الزاهد العابد المبشَّر بالجنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدْي سيد المرسلين، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى.
أما بعد؛ فيا إخوة الإيمان:
وبعد هذا العَرْض لمقتَل الحسين - رضي الله عنه - يبقى السؤال الأهمُّ: مَن قتَل الحسين؟ أهم أهل السنة ؟ أم بنو أمية كما يزعم الرافضة.
إن الحقيقة التي ينبغي أن يَعِيَها الجميع : أن قتَلة الحسين هم أهل الكوفة الذين دعوه للبيعة ثم خانوه، وحتى لا يكون الكلام تجنيًا ورجمًا بالتُّهَم نستنطق كتبَ الشيعة لتؤكِّد لنا بجلاء ووضوح أن الذين دَعَوْه لنصرته ومبايعته هم الذين قتلوه، ثم ذرفوا الدموع على موته!
جاء في كتاب "أعيان الشيعة"، لسيدهم محسن الأمين، قال: بايَع الحسينَ عشرون ألفًا من أهل العراق، غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه.
ويقول محدِّث الشيعة عباس القُمِّي في كتابه "منتهى الآمال": تواترت الكتب إلى الحسين حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب من عديمي الوفاء.
وذكر المؤرخ الشيعيُّ اليعقوبي في "تاريخه": أنه لما دخل عليُّ بن الحسين الكوفةَ رأى نساءها يبكين ويصرخن، فقال: هؤلاء يبكين علينَا، فمَن قتلنا؟! أي: مَن قتلنا غيرهم؟!
عباد الله:
وأما أهل السنة والجماعة فيعدُّون قتل الحسين - رضي الله عنه - فاجعةً عظيمة، وجرحًا غائرًا في جسد الأمة، وأن قاتليه هم من شرار الخلق وأفسق الخليقة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما مَن قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وعزاء أهل السنة والجماعة في الحسين أنه عاش حميدًا، ومات شهيدًا، ولا يقولون إلا ما يُرضِي ربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يضربون لهذه المصيبة خدًّا، ولا يشقُّون لها جيبًا، ولا يحيون معها معالم الجاهلية الأولى.
هذا موقف سلَف الأمة من قتل الحسين، وممَّن قُتِل قبل الحسين؛ كعليِّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب - رضي الله عن الجميع.
إخوة الإيمان:
وإن مما ينبغي أن يَعِيَه المسلمون أيضًا مع أفعال الرافضة في إحيائهم لذكرى مقتل الحسين:
أن الرافضة ما حفظوا وحافظوا على هذه البدعة وإحياء شعائرها إلا لهدفين رئيسَين:
الأول: إحياء جَذْوَة التشيع في قلوب أصحابه، والمحافظة على ديمومة مذهبهم وبقائه؛ يقول إمامهم في هذا العصر الخميني: إن البكاء على الشهيد يُعَدُّ إبقاءً على اتِّقاد الثورة وتأجُّجها.
ويقول أيضًا: فبذكْر مصائبهم بقي هذا الدين حيًّا في الأمة.
أما هدفهم الآخَر في إحياء عاشوراء: فهو شحْن القلوب وتجييش النفوس على أعداء آل البيت - زعموا - ومَن هم أعداء آل بيت؟ هم مَن لا يؤمن بولايتهم على التصور الشيعي.
ينادي الرافضة في هذا اليوم، يا لثَارَاتِ الحسين، والثأر لحقِّ آل البيت، وأين هم قتلة الحسين؟ لقد أكل عليهم الزمان وشرب.
خان ابن العلقمي الخليفة العباسي واستباح بغدادَ بحجَّة الثأر للحسين، وأعمَل إسماعيل الصفوي السيفَ في أهل العراق، وأجرى فيها شلالات الدماء بحجة الثأر للحسين، وما زال الرافضة في كل زمان يسفكون دماء السنة بحجة الثأر للحسين.
والآن تُهْدَم المساجد في العراق وتُبْقَر البطون، وتُحْرَق الجثث وتُغْتَصَب العذارى باسم الثأر للحسين، ومع كل مُحَرَّم تزداد جرأة وشراسة الرافضة على أهل السنة؛ حتى يعلم الجميع أن شعائر عاشوراء إنما هي في الحقيقة حِقَن لشحْن نفوس الأتباع ضدَّ أهل السنة والجماعة.
يقول الهالك الخميني: يجب التذكير في عاشوراء بالمصائب والمظالم التي يرتكبها الظالمون في كل عصر، وبالأخصِّ في هذا العصر الذي هو عصر مظلومية العالم الإسلامي على يد أمريكا وروسيا والوهابيين.
أيها المؤمنون:
لقد تجاوز الرافضة قضية البكاء على الحسين، إلى المتاجرة بدم الحسين؛ لتحقيق مكاسب سياسية؛ ففي كل عاشوراء يطلُّ علينا ساداتهم ليُظْهِروا للمسلمين أنهم هم المدافِعُون المنافِحُون عن قضايا الأمة ومقدَّساتها وأراضيها المسلوبة.
والكل يعلم والتاريخ يشهد أن الرافضة لم يكونوا يومًا ما مصدر عز المسلمين، ولم تكن لهم فتوحاتٌ في التاريخ تُذْكَر، ولا تحرير للمقدَّسات يُشْكَر، وإنَّما هم خنجر يطعن في جسد المسلمين، وشوكة تُذْكِي الفُرْقَة بين المسلمين.
وأخيرًا عباد الله:
فإن كان للعقل والمنطق صوتٌ فحُقَّ له أن يتساءل: هل إحياء عاشوراء وتأجيج نفوس الأتباع على سواد المسلمين من أهل السنة يخدم الوحدة المزعومة التي ينادي بها الشيعة صباحًا ومساء؟!
هل مآتمهم تلك وما فيها من تربية الأتباع على شتْم ولعْن خِيَار هذه الأمة يُساعِد على خلق جوٍّ هادئٍ بين الفريقين، أم هو نفخ في النار، وإيقاظ الفتن النائمة؟! والفتنة نائمة لُعِن موقظها.
اللهم صل على محمد ......
الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان
مآآآآآآجده
مآآآآآآجده