أما بعدُ:
فأوصيكم - أيُّها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
أيُّها المسلمون:
المؤمن الذي رضي بالله - تعالى - ربًّا، واتخذه وحده لا شريك له إلهًا معبودًا، وعلم حقيقة الحياة الدنيا، وفقه سر وجوده فيها، وتيقن أنه مبتلى فيها على كلِّ حال، لا تراه إلا متَّصلاً بربِّه في كل حين، موجهًا إليه قلبه بصبر ويقين، شاكرًا في السراء، صابرًا في الضراء؛ ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره له كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له)).
إن المؤمن العاقل الحصيف يعلم أنه في ابتلاء مستمر ما بقيتْ روحه في جسده، وأن عليه لربّه في كلّ حال وظائف وحقوقًا لا بد من أدائها، ومِن ثَم فهو لا ينشغل بنعيم الدنيا وعافيتها عما قد يحصل له فيها من مصائب وابتلاءات، ولا تلهيه أيام سرورها عما قد يُمنَى به في دروبها من حوادث ونكبات، ولا تنسيه سعة العيش ما قد يعقبها من ضِيق أو ينغِّصها من مشكلات.
ولقد شهدنا في هذه البلاد المبارَكة سنين عددًا من الأمن التامّ، والرخاء الشامل، وتوالتْ علينا - بفضْل الله - أعوام الخيرات والبَركات، حتى ظن بعضُنا أنهم قد أعطوا كل هذا لعلو قدرهم عند ربهم، وخيّل لآخرين منَّا أن لهم ما ليس لغيرهم من الناس، فنسوا ما أصاب الآباء والأجداد، بل نسوا ربهم الذي أنعم عليهم، ووسع لهم في أرزاقهم، فأصابهم الترهُّل، واستسلموا للكسَل، وركنوا إلى الخمول، واستثقلوا العمل، وألهتهم الدُّنيا عن الدِّين، وتمادى بهم الغرور حتى ظنُّوا أن لن يُقدر عليهم، ثم لما ظهرت النُّذر في الآونة الأخيرة مذكرةً للناسين، منبّهةً للغافلين، وعلم الموفَّقون أن لذنوبهم نصيبًا فيما أصابهم، وحلَّ بهم، وصاروا على خوف مما قدموا، وخشية مما بين أيديهم، فجعل بعضهم يُذَكِّر بعضًا بواجب التوبة إلى الله، ولزوم الرّجوع إلى حماه، ونادوا بضرورة العودة إلى الطريق الصحيح، والتمسُّك بالصِّراط المستقيم.
في هذا الوقت الذي لم يبق فيه من خيارٍ إلا التضرُّع والاستكانة، ورفع الأكفّ بالدُّعاء، واللهج بالاستغفار، يخرج من يخرج مُصرًّا على ربط الناس بالأسباب المادية البحْتة، مُزيِّنًا لهم أوضاعهم، ممتدحًا أحوالهم، وكأنه يريد أن ينسيهم ما ذكّروا به، أو كأنه يرمي إلى أن يخدّرهم ويخدعهم؛ ليتمادوا في عصيانهم، ويمضوا في غيِّهم، وينسوا ربهم، إلى أن يأخذهم بشديد بطشه أخذ عزيز مقتدر.
وإن من الأسف أن يأخذ بعض الصالحين في ذلك منهج الغافلين، فيذهبوا في ترف علميّ ونقاش لا طائل من ورائه، فيتساءلوا: هل تلك السّيول التي هدمتْ أحياءً بأكملها، وأهلكتْ كثيرًا من الأنفس، هل هي عذاب وعقوبة نزلتْ على أصحابها على قدر ذنوبهم؟ أو هو ابتلاء شدّد عليهم على قدر دينهم؟! ويكثر النِّقاش، ويطول الكلام، ويدلي كلٌّ برأيه ويستدلّ، وينسى في خضمِّ ذلك أن لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق بربِّه إزاء هذه الظواهر شعورًا ذا دلالة أعمق، وفقه أدق، مِلْؤُه الرهبة والخوْف من العذاب، وأنه لم يمنعه من هذا الشُّعور العظيم ما كان عليه هو ومجتمعه من ظهور صلاح وغلبة طاعة، وانتشار خير، وتحرٍّ لبرٍّ، وسير بجهاد، وقيام بإصلاح، وأمْر بالمعروف، ونَهْي عن المنكر، وتوبة واستغفار وتقوى؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الرِّيح قال: ((اللهم إنّي أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به))، وإذا تخيلت السماء تغيَّر لونُه، وخرج ودخل، وأقبَل وأدْبَر، فإذا مطرت سرِّي عنه، فعرفتْ ذلك عائشة فسألتْه فقال: ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24])).
هكذا كان أعلم الخلق بربِّه يخاف العذاب إذا رأى نُذره، لم يَبْدُر إلى ذهنه - عليه الصلاة والسلام - أن يتمدح بأنه رسول الله، وأن الأمة مؤمنة من العذاب ما دام فيها، أو أنه يعيش في خير القرون بين أولئك الصحب الأبرار والثّلة الأخيار، ومن ثَم فإن من الخطأ الذي وقع فيه بعض من بلوا بتزكية النُّفوس اليوم، وأغرقوا في الأخذ بجانب الرجاء: أن زعموا أن العذاب خاصٌّ بمن ظهرتْ منهم الكبائر، وانتشرتْ فيهم الموبقات، وجاهروا بالمعاصي، واستمرؤوا السيئات، وعم فيهم الفساد وطمَّ، وانقطع فيهم الخير بالكلية، وصارتْ حالهم شرًّا محضًا، وإنه وإن سلم بأن من كان كذلك فهو أولى بوقوع العذاب وأحقّ به، إلا أننا نوقن بأن من تزكية النفس التي لا مكان لها، أن يزعم أحدٌ أنه بمفازة من العذاب، أو في مأمنٍ مِن وقوعه؛ لأن ذنوبه صغيرة، وسيئاته قليلة، أو لأن مخالفاته محدودة، وأخطاءَه معدودة، وإنه لو كان الأمر كذلك لما كان لخوف أعرف الخلق بربِّه معنًى إلا سوء الظنِّ بربِّه - وحاشاه ذلك.
وهل يستطيع أحدٌ من هؤلاء المتشدِّقين المتفيهقين، المبتلين بامتداح أنفسهم والإعجاب بما هم عليه، أن يزعم أن مجتمعًا - أنى كانتْ صفته، ومستوى الإيمان فيه - أفضل من مجتمع محمد وأصحابه، أو أقلّ منهم أخطاءً وذنوبًا؟! وهل كان - عليه الصلاة والسلام - بخوفه من العذاب متهمًا لأصحابه بالسّوء، أو حاكمًا عليهم بالفساد؟! سبحانك، هذا بهتان عظيم!
ومن هنا فإنه عندما تحلّ بالناس عقوبة، أو يبلون بمصيبة، فإن الواجب عليهم أن يتَّهموا أنفسهم، ويخشوا ذنوبهم، وأن يتوبوا إلى ربِّهم ويستعتبوا، فإن التوبة وظيفة المؤمن في كلِّ وقت، وقد كان نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - كثير الاستغفار على كلِّ أحواله؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والله إنّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))؛ رواه البخاريّ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيُّها الناس، توبوا إلى الله؛ فإنّي أتوب إليه في اليوم مائة مرة))؛ رواه مسلم.
إن الاستغفار هو الأمان للأمة من العذاب، وبه يكون المتاع الحسن، بسببه تدرّ الخيرات وتنزل البركات، وتخضرّ الجنات؛ قال - سبحانه -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وقال - سبحانه -: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3]، وقال - جل وعلا -: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، وقال - تعالى -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 11، 12].
ولقد بين الله - تعالى - لعباده أن التضرُّع والاستكانة إليه سبب من أسباب دفْع العذاب، وحذر من الغفلة وقسوة القلوب، وتزْيين الشياطين؛ فقال - جل وعلا -: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]، وقال - سبحانه -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 42 - 45]، وقال - جل وعلا -: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]، إلى أن قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99]، ألا فأين الضراعة التي ذكر الله بها في كتابه؟! وأين الاستكانة؟! أين الإيمانُ والتقوى؟! أين الاستغفار والتوبة والإنابة؟! لقد توعَّد قوم يونس بالعذاب، فبادروا بالإيمان فنجاهم الله؛ قال - تعالى -: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]، ألا فلنعترف بذنوبنا، ولنقرَّ بعيوبنا، ولنحذر الإصرار على التقصير والتمادي في الغي والضلال؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبدَ إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه))؛ متفق عليه.
ثم لنأمر بالمعروف، ولنَنْه عن المُنكر؛ فإن ذلك من أسباب دفع العذاب ورفعه؛ قال - تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)).
الخطبة الثانية
أمَّا بعدُ:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه ولا تعصوه، وكونوا معه يكن معكم، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
أيُّها المسلمون:
إن عيش المؤمن ويده على قلبه خوفًا من أن تصيبه مصيبة بسبب ذنوبه ومعاصيه، خير له من أن يسرح في دنياه ويمرح، ويتمادى في غيِّه مصرًّا على ذنوبه، غافلاً عما يجري حوله؛ حتى تطرقه الحوادث وهو نائم.
في البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا))، وهذا - أيّها المسلمون - هو شأن الناس قديمًا وحديثًا، فالمسلم المتيقِّظ الضمير الحيّ القلب، لا تراه إلا دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح وإن كثُر، ويخشى من عمله السيّئ وإن صغُر، وأما الفاجر المظلم قلبه، فهو قليل المعرفة بربِّه، فلذلك يقلّ خوفه، ويستهين بالمعصية؛ قال ابن بطال - رحمه الله -: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله - تعالى - من كلّ ذنب؛ صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن الله - تعالى - قد يعذّب على القليل؛ فإنه لا يسأل عما يفعل - سبحانه وتعالى.
ألا فلنتَّقِ الله - عباد الله -:
ولنتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - محذِّرًا من احتقار الذُّنوب، والاستهانة بالمعاصي؛ حيث قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذّنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))؛ رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني.
فأوصيكم - أيُّها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
أيُّها المسلمون:
المؤمن الذي رضي بالله - تعالى - ربًّا، واتخذه وحده لا شريك له إلهًا معبودًا، وعلم حقيقة الحياة الدنيا، وفقه سر وجوده فيها، وتيقن أنه مبتلى فيها على كلِّ حال، لا تراه إلا متَّصلاً بربِّه في كل حين، موجهًا إليه قلبه بصبر ويقين، شاكرًا في السراء، صابرًا في الضراء؛ ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره له كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له)).
إن المؤمن العاقل الحصيف يعلم أنه في ابتلاء مستمر ما بقيتْ روحه في جسده، وأن عليه لربّه في كلّ حال وظائف وحقوقًا لا بد من أدائها، ومِن ثَم فهو لا ينشغل بنعيم الدنيا وعافيتها عما قد يحصل له فيها من مصائب وابتلاءات، ولا تلهيه أيام سرورها عما قد يُمنَى به في دروبها من حوادث ونكبات، ولا تنسيه سعة العيش ما قد يعقبها من ضِيق أو ينغِّصها من مشكلات.
ولقد شهدنا في هذه البلاد المبارَكة سنين عددًا من الأمن التامّ، والرخاء الشامل، وتوالتْ علينا - بفضْل الله - أعوام الخيرات والبَركات، حتى ظن بعضُنا أنهم قد أعطوا كل هذا لعلو قدرهم عند ربهم، وخيّل لآخرين منَّا أن لهم ما ليس لغيرهم من الناس، فنسوا ما أصاب الآباء والأجداد، بل نسوا ربهم الذي أنعم عليهم، ووسع لهم في أرزاقهم، فأصابهم الترهُّل، واستسلموا للكسَل، وركنوا إلى الخمول، واستثقلوا العمل، وألهتهم الدُّنيا عن الدِّين، وتمادى بهم الغرور حتى ظنُّوا أن لن يُقدر عليهم، ثم لما ظهرت النُّذر في الآونة الأخيرة مذكرةً للناسين، منبّهةً للغافلين، وعلم الموفَّقون أن لذنوبهم نصيبًا فيما أصابهم، وحلَّ بهم، وصاروا على خوف مما قدموا، وخشية مما بين أيديهم، فجعل بعضهم يُذَكِّر بعضًا بواجب التوبة إلى الله، ولزوم الرّجوع إلى حماه، ونادوا بضرورة العودة إلى الطريق الصحيح، والتمسُّك بالصِّراط المستقيم.
في هذا الوقت الذي لم يبق فيه من خيارٍ إلا التضرُّع والاستكانة، ورفع الأكفّ بالدُّعاء، واللهج بالاستغفار، يخرج من يخرج مُصرًّا على ربط الناس بالأسباب المادية البحْتة، مُزيِّنًا لهم أوضاعهم، ممتدحًا أحوالهم، وكأنه يريد أن ينسيهم ما ذكّروا به، أو كأنه يرمي إلى أن يخدّرهم ويخدعهم؛ ليتمادوا في عصيانهم، ويمضوا في غيِّهم، وينسوا ربهم، إلى أن يأخذهم بشديد بطشه أخذ عزيز مقتدر.
وإن من الأسف أن يأخذ بعض الصالحين في ذلك منهج الغافلين، فيذهبوا في ترف علميّ ونقاش لا طائل من ورائه، فيتساءلوا: هل تلك السّيول التي هدمتْ أحياءً بأكملها، وأهلكتْ كثيرًا من الأنفس، هل هي عذاب وعقوبة نزلتْ على أصحابها على قدر ذنوبهم؟ أو هو ابتلاء شدّد عليهم على قدر دينهم؟! ويكثر النِّقاش، ويطول الكلام، ويدلي كلٌّ برأيه ويستدلّ، وينسى في خضمِّ ذلك أن لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق بربِّه إزاء هذه الظواهر شعورًا ذا دلالة أعمق، وفقه أدق، مِلْؤُه الرهبة والخوْف من العذاب، وأنه لم يمنعه من هذا الشُّعور العظيم ما كان عليه هو ومجتمعه من ظهور صلاح وغلبة طاعة، وانتشار خير، وتحرٍّ لبرٍّ، وسير بجهاد، وقيام بإصلاح، وأمْر بالمعروف، ونَهْي عن المنكر، وتوبة واستغفار وتقوى؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الرِّيح قال: ((اللهم إنّي أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به))، وإذا تخيلت السماء تغيَّر لونُه، وخرج ودخل، وأقبَل وأدْبَر، فإذا مطرت سرِّي عنه، فعرفتْ ذلك عائشة فسألتْه فقال: ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24])).
هكذا كان أعلم الخلق بربِّه يخاف العذاب إذا رأى نُذره، لم يَبْدُر إلى ذهنه - عليه الصلاة والسلام - أن يتمدح بأنه رسول الله، وأن الأمة مؤمنة من العذاب ما دام فيها، أو أنه يعيش في خير القرون بين أولئك الصحب الأبرار والثّلة الأخيار، ومن ثَم فإن من الخطأ الذي وقع فيه بعض من بلوا بتزكية النُّفوس اليوم، وأغرقوا في الأخذ بجانب الرجاء: أن زعموا أن العذاب خاصٌّ بمن ظهرتْ منهم الكبائر، وانتشرتْ فيهم الموبقات، وجاهروا بالمعاصي، واستمرؤوا السيئات، وعم فيهم الفساد وطمَّ، وانقطع فيهم الخير بالكلية، وصارتْ حالهم شرًّا محضًا، وإنه وإن سلم بأن من كان كذلك فهو أولى بوقوع العذاب وأحقّ به، إلا أننا نوقن بأن من تزكية النفس التي لا مكان لها، أن يزعم أحدٌ أنه بمفازة من العذاب، أو في مأمنٍ مِن وقوعه؛ لأن ذنوبه صغيرة، وسيئاته قليلة، أو لأن مخالفاته محدودة، وأخطاءَه معدودة، وإنه لو كان الأمر كذلك لما كان لخوف أعرف الخلق بربِّه معنًى إلا سوء الظنِّ بربِّه - وحاشاه ذلك.
وهل يستطيع أحدٌ من هؤلاء المتشدِّقين المتفيهقين، المبتلين بامتداح أنفسهم والإعجاب بما هم عليه، أن يزعم أن مجتمعًا - أنى كانتْ صفته، ومستوى الإيمان فيه - أفضل من مجتمع محمد وأصحابه، أو أقلّ منهم أخطاءً وذنوبًا؟! وهل كان - عليه الصلاة والسلام - بخوفه من العذاب متهمًا لأصحابه بالسّوء، أو حاكمًا عليهم بالفساد؟! سبحانك، هذا بهتان عظيم!
ومن هنا فإنه عندما تحلّ بالناس عقوبة، أو يبلون بمصيبة، فإن الواجب عليهم أن يتَّهموا أنفسهم، ويخشوا ذنوبهم، وأن يتوبوا إلى ربِّهم ويستعتبوا، فإن التوبة وظيفة المؤمن في كلِّ وقت، وقد كان نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - كثير الاستغفار على كلِّ أحواله؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والله إنّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))؛ رواه البخاريّ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيُّها الناس، توبوا إلى الله؛ فإنّي أتوب إليه في اليوم مائة مرة))؛ رواه مسلم.
إن الاستغفار هو الأمان للأمة من العذاب، وبه يكون المتاع الحسن، بسببه تدرّ الخيرات وتنزل البركات، وتخضرّ الجنات؛ قال - سبحانه -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وقال - سبحانه -: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3]، وقال - جل وعلا -: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، وقال - تعالى -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 11، 12].
ولقد بين الله - تعالى - لعباده أن التضرُّع والاستكانة إليه سبب من أسباب دفْع العذاب، وحذر من الغفلة وقسوة القلوب، وتزْيين الشياطين؛ فقال - جل وعلا -: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]، وقال - سبحانه -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 42 - 45]، وقال - جل وعلا -: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]، إلى أن قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99]، ألا فأين الضراعة التي ذكر الله بها في كتابه؟! وأين الاستكانة؟! أين الإيمانُ والتقوى؟! أين الاستغفار والتوبة والإنابة؟! لقد توعَّد قوم يونس بالعذاب، فبادروا بالإيمان فنجاهم الله؛ قال - تعالى -: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]، ألا فلنعترف بذنوبنا، ولنقرَّ بعيوبنا، ولنحذر الإصرار على التقصير والتمادي في الغي والضلال؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبدَ إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه))؛ متفق عليه.
ثم لنأمر بالمعروف، ولنَنْه عن المُنكر؛ فإن ذلك من أسباب دفع العذاب ورفعه؛ قال - تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)).
الخطبة الثانية
أمَّا بعدُ:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه ولا تعصوه، وكونوا معه يكن معكم، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
أيُّها المسلمون:
إن عيش المؤمن ويده على قلبه خوفًا من أن تصيبه مصيبة بسبب ذنوبه ومعاصيه، خير له من أن يسرح في دنياه ويمرح، ويتمادى في غيِّه مصرًّا على ذنوبه، غافلاً عما يجري حوله؛ حتى تطرقه الحوادث وهو نائم.
يَا رَاقِدَ اللَّيْلِ مَسْرُورًا بِأَوَّلِهِ إِنَّ الحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارَا |
ألا فلنتَّقِ الله - عباد الله -:
ولنتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - محذِّرًا من احتقار الذُّنوب، والاستهانة بالمعاصي؛ حيث قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذّنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))؛ رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني.
الشيخ عبدالله بن محمد البصري
مآآآآجده
مآآآآجده