السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا متزوجة من ستِّ سنوات، وعندي ولدٌ عمْرُه أربعُ سنوات ونصف، من سنتين بدأ زوجي يشكُّ فِيَّ، وتحوَّلت حياتي إلى جحيم، ومن أربعة شهور وأنا موجودة في بيت أخي في (جَدة)، مع العلم أنه أنا وزوجي نعيش في (الجبيل)، زوجي يرفض العلاج، وعندما طلبْتُ الطلاقَ، اقترح والد زوجي أن ننتقل إلى (جدة)، فأكون قريبةً من أهلي وأهله، وافقت على هذا الاقتراح؛ لأنه ربما يكون تغييرُ البيئة يُساهم في علاج المشكلة، وفعلاً قدَّم زوجي طلبَ النقل، لكنَّ النقل قد يأخذ فترةً طويلة - سنة أو أكثر - وأنا الآن في حَيرة من أمري، لا أعرف ماذا أفعل؟ وكيف يمكن أن أصل بأسرتي إلى بَرِّ الأمان؟ مع العلم أن زوجي غيورٌ جدًّا، وعصبي جدًّا، لقد تعِبْتُ كثيرًا، وأحتاج إلى مشورتكم، هل في هذه الحالة يكون الانفصال هو الحل؟ المشكلة أن ولدي حساس، ويسأل عن والده، بل ويريد أن يعود إلى بيتنا في (الجبيل)، ماذا أفعل؟ هل يمكن أن تنتهي مشكلة الشك من غير علاج؟ كيف يمكن أن أساعد زوجي على التخلص من هذا المرض؟ أنا أعتقد أن زوجي مريضٌ بمرض الشك؛ لأنه من وجهة نظري ليست هناك مواقفُ حقيقية دعتْهُ للشك، بالإضافة إلى أنه غيور جدًّا أساسًا، حتى لا يسمح لي بمشاهدة التلفاز، ثم إن أهل زوجي كلَّهم معي، ويرون أن زوجي بحاجة للعلاج؛ لأن الأسباب التي دعته للشك واهيةٌ جدًّا، بل قد لا تكون هناك أسباب، أنا وزوجي ملتزمان، وقد خرجْتُ بإرادتي ورغبتي وبتأييد كل مَن حولي، وأنا حقيقة لا أرغب في الطلاق إذا وافق على أن يتم علاجه، وظيفة زوجي مدخل بيانات في البحرية، عمره 39 عامًا، بشهادة الثانوية العامة، وأنا شهادتي جامعية (دراسات إسلامية)، أكملت السنة المنهجية من الماجستير، وتوقَّفْتُ أثناء الرسالة؛ لأن الجامعة رفضت طلب التمديد وتزوجت، أريد أن أعرف: كيف يمكن أن أقنع زوجي بالعلاج؟ هو طيب وعاطفي، ولكن هذه الوساوس غلبت على عقله، وهو لا يريد الطلاق ولا يريد العلاج.
الجواب:
مقـدمة:
الغَيْرَة في أصلها طبعٌ محمود، فإنّ الغَيرةَ على المحارم من مفاخرنا والنخوةَ طبعٌ فينا نحن العرب، وهو طبع هذَّبَه الإسلام ورشَّدَه، فأقرّ منه ما يمنع من المحرَّمات وكشف العورات وما يدفع إلى العفاف والفضيلة. وهذه الغيرة المحمودة مقياسها الشرع، فما أنكره الشرع أنكرناه وما قَبِله قبلناه، فليس منا ذلك الرجل الذي لا يبالي أن تكشف امرأته عورتها أمام الأجانب، رأسَها وذراعيها وساقيها وصدرها ونحرها! أو أن تختلط بالرجال بلا ضرورة وتباسطهم وتتبادل معهم الهزل والمزاح. لا، هذا كله مرفوض وهو تفريط، لكن عكسه مرفوض أيضاً، وهو الإفراط الذي نهى عنه الشرع وحذّرَنا منه النبي صلى الله عليه وسلم: الغَيرة التي تُخرج الرجل عن طوره إن غابت امرأته ساعة في زيارة والدتها أو جارتها، فيتهمها ويحقق معها تحقيق القاضي في الجريمة النكراء، يظن أنها ما غابت إلا لزيارة صديق أو لقاء عشيق! هذه هي الغيرة المذمومة، غيرة الجاهلية التي تنغّص حياة الزوجين وتقلب البيت ناراً مسعَّرة، ولا تنشأ إلا عن سوء الظن وضعف الثقة.
وقد وردت الأحاديث في التحذير من الثانية والحثّ على الأولى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم المسافرَ الغائبَ عن طرق زوجه ليلاً، أي العودة المفاجئة بليلٍ وكأنه يخوّنها أو يشكّ فيها؛ أخرج البخاري ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً"، وأخرج مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً، يتخوّنهم أو يتلمّس عثراتهم". وللحديث روايات أخرى بالمعنى ذاته. وبالمقابل نجد الحديث الذي أخرجه النسائي عن ابن عمر وصحّحه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب وفي صحيح الجامع: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديّوث، ورجلة النساء". والقول الفصل الجامع في المسألة هو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره، فأما ما يحب فالغيرة في الريبة، وأما ما يكره فالغيرة في غير ريبة" (أخرجه النسائي وابن ماجه وصحّحه الألباني).
فالغيرة المطلوبة هي الغيرة المتوسطة المعتدلة، التي تحافظ على حدود الله وترعى شرعه من غيرِما تضييق على الزوجة من زوجها (أو على الزوج من زوجته، وهذا ليس محل جوابنا اليوم).
المشكلة:
لا شك أن هذه المشكلة حالةٌ مَرَضية تحتاج إلى تدخّل طبي، لكنها ليست صعبة لدرجة تجعلها عصيّة على العلاج، لذلك لن أميل أبداً إلى اقتراحك بعلاج المشكلة بالانفصال، على الأقل ليس قبل اليأس الكامل من العلاج. إن قراراً كهذا يملكه الزوجان بالكامل عندما يكونان بلا أولاد، أما حينما يصبح الأولاد جزءاً من المعادلة فإن الكفاح إلى اللحظة الأخيرة الممكنة يصبح هو الاختيار الأفضل، ولا سيما حينما يكون الأطفال معلَّقين بالوالدَين أو بأحدهما. ولا ننسَ أن الحياة في أسرة مستقرة حقٌّ أصلي من حقوق الطفولة لا ينبغي الاستهانة به أبداً.
إن هذه مشكلة صعبة بالفعل، لكنها ليست من أعقد المشكلات قاطبة. لنبدأ بالقسم الجيد منها:
(أ) أنت امرأة ناضجة وعاقلة ومتفهِّمة، استطعت أن تفهمي مشكلة زوجك بشكل جيد، وأبديت رغبة صادقة في علاجه وصبراً محموداً على هذا العلاج، ومن الواضح أيضاً أنك وفيّة ومخلصة، وهذا أمر تؤجَرين عليه في الآخرة، وأرجو أن يساعدك في الدنيا بإذن الله.
(ب) أهل الزوج متفهِّمون ومتعاونون، وهي حالة غير شائعة، فالمشهور في مثل هذه الحالات أن يميل الأهل مع ابنهم -على ما به من علل- وأن يتعاطفوا معه ويتخذوا الكَنّة خصماً. ولا تسأليني لماذا، فإننا نعيش في دار ظلم لا دار عدل، وما أقلَّ المنصفين فيها وما أكثرَ الباغين، فاحمدي الله الذي جعل أحماءك (أهل زوجك) من المنصفين لا من الباغين.
(ج) زوجك -كما وصفتِه- طيب وعاطفي ومُحِبّ، وهو متشبث بك ولا يريد الطلاق، وهذه نقطة قوة في العلاج بإذن الله.
(د) المرض عمره قصير، فقد بدأت الحالة منذ سنتين فقط كما تقولين، مع أنكما متزوجان منذ ست سنوات، وهذا يعني أن المرض ليست له جذور وراثية وأنه ليس مرضاً مزمناً، فإن أكثر من نصف المصابين بمثل هذه العلل تمتد إصاباتهم إلى مراحل الطفولة المبكرة.
أما القسم السيئ من المشكلة (الذي تعرفينه بشكل جيد وقد أشرت إليه بوضوح) فهو تمنّع زوجك ومقاومته للعلاج.
لنشخّص المشكلة أولاً: لقد كان وصفك للمشكلة وافياً وواضحاً، وهو يدل على ثقافة ووعي قليلَين في الناس، ومن هذا الوصف نستطيع الجزم بأن زوجك يعاني من حالة "وَسْواس قهري" اتخذت من جانب الشك والغيرة متنفَّساً لها. وهل تعرفين ما هو الوسواس القهري؟ كما يبدو من اسمه فإنه حالة عقلية تسيطر على المرء بصورة لاإرادية، أي أن المرء يفقد القدرة على صدّها أو رفضها أو منع عقله من الاستجابة لها، وهذه الحالة ليست من النوع "الطبيعي" الذي يعتبره أسوياءُ الناس أمراً مقبولاً، بل هي أقرب إلى الشذوذ والغرابة.
على سبيل المثال: قد يصاب المريض بحالة عقلية يعاني فيها من "الخوف من الفَقْد" فيبدأ بادّخار وتخزين أشياء لا قيمة لها، كأغطية قوارير المياه البلاستيكية أو المصابيح (اللمبات) المحترقة، وهو يدرك -غالباً- أنه يقوم بعمل غريب لكنه لا يستطيع دفعه، لذلك نجده يخبئ هذه الأشياء في أمكنة عجيبة حتى لا يعثر عليها أحد. وقد يتجه وسواس المريض إلى عدم الثقة من إتمام العمل الذي يعمله، فيعيد قَفْل الباب أكثر من مرة، ثم يعود إليه ويفحصه من جديد ليتأكد من قَفْله مثلاً، وقد يستمر في جمع الأرقام مرات ومرات ولا يصل إلى الاطمئنان حتى لو تكررت النتيجة ذاتها... وقد يتمثل الوسواس في جانب من جوانب العبادة، فترى المريض يعيد تكبيرة الإحرام عدة مرات قبل الشروع في الصلاة ظناً منه أن النية لم ترافق التكبيرة، أو يعيد غسل العضو الواحد في الوضوء عشر مرات يخشى أن الماء لم يبلغه. ومثل هذا الشخص سمّاه الفقهاء في كتبهم "مُوَسْوِساً"، كذا بكسر الواو الثانية على أنه اسم فاعل، والصواب -من فهمنا المعاصر للحالة النفسية- أن نسمّيه "موَسْوَساً" بفتحها على أنه اسم مفعول، لأنه يقوم بعمل قسري لاإرادي كما رأينا.
ولعلك لاحظت أنني -لمّا قلت إن المريض يدرك غرابة ما يقوم به- أنني استعملت كلمة "غالباً" ولم أطلق القول، ذلك لأن المصابين بالوسواس القهري على نوعين؛ أحدهما أهون من الآخر، وأخشى أن زوجك مصاب بالنوع الأصعب. النوع الأول اضطرابٌ يصيب الأفكار، ومن ثَمّ ينشأ عن الأفكار المعتلَّة سلوكٌ غريب. هذا النوع ينتمي إلى "الاضطرابات الوُهامية". وكما يوحي الاسم، "الوُهام"، فإنه "مرض يتوهم المريض فيه غيرَ الحقيقة".
وهذه فائدة لغوية في السياق: كثير من أسماء الأمراض تأتي في اللغة العربية على وزن "فُعال"، فقد سُمعت عن العرب ألفاظ مثل صُداع وسُعال وزُكام وبُحاح ودُوار وهُلاس (وهو مرض السُّلّ) وفُواق وخُناق، إلخ، ومن ثَمّ فقد أقرّ مجمع اللغة العربية في مصر قياسية هذه الصيغة مطلقاً لكل داء أو مرض (من "فَعَل" اللازم المفتوح العين)؛ وعليه فإن كلمة "الوُهام" يُفهَم منها على الفور أنها تعبير عن مرض نفسي عَرَضه الرئيسي هو "سيطرة الأوهام على عقل المريض".
أعود إلى الموضوع: النوع الأصعب من نوعَي الوسواس هو "الوُهام"، ومن أشكاله الموصوفة في الطب النفسي نوع ينطبق على حالتنا هذه ويدعى "الغيرة الوُهامية" أو "وُهام الخيانة الزوجية"، وهو اضطراب عقلي معروف تنشأ عنه الأعراض التي ذكرتِها في رسالتك، بعضها أو كلها، أو غيرها أحياناً. أما النوع الآخر الأهون فهو "الأفكار التسلطيّة". لماذا اعتبرنا هذا النوع أهون من الأول؟ لأن المريض في هذه الحالة يدرك أنّ الفكرةَ التي سيطرت على عقله -قسراً ورغماً عنه- فكرةٌ غير صحيحة، لكنها تتسلط عليه بدرجة لا يستطيع قهرها، فهي تسلطية وقهرية لكنها غير مضلِّلة، فتراه -مثلاً- على يقين من أنه قد تطهّر بالاستنجاء على الوجه الشرعي المطلوب، لكنه يعيد الكَرّة مرّةً بعد مرّة، ويزداد الضغط النفسي عليه شدّةً وهو يسمع صياح المنتظرين في الخارج يريدون كلهم دورة المياه التي شغلها لوقت طويل (لا سيما إذا كان في مكان عام مزدحم، كحمّامات المشاعر في الحج مثلاً) لكنه لا يستطيع حسم أمره والمغادرة!
من الواضح أن زوجك لا ينتمي إلى مرضى هذا النوع، وهذا هو السبب الذي يجعله رافضاً للعلاج، بل مقاوِماً له من حيث المبدأ. وهذا يعقّد الموضوع بلا ريب، لكني سوف أطمئنك: إن هذه الحالة لا تبدو من النوع الخفيف، لكنها ليست من النوع الشديد المتطرف أيضاً بحمد الله. انظري إلى مقدار الحرية الذي ما زلت تتمتعين به: لقد سمح لك بالسفر والإقامة بعيداً عنه، وهذا بذاته دليل على درجة غير متطرفة من الغيرة. إن الغيرة في حدّها المَرَضي الأقصى تغدو غير محتمَلة أبداً، وقد يكون من أعراضها أن يحبس الزوجُ زوجتَه في البيت ويقفل عليها الباب بالمفتاح ويصادر كل وسائل الاتصال الممكنة من بين يديها، بل إنها قد تصل -في بعض الحالات المَرَضية المتطرفة- إلى الإيذاء الجسدي، وهذا أيضاً يتفاوت بين الضرب والإهانة في كثير من الأحيان، وصولاً إلى القتل! لا تستغربي، إنها درجة من "الاضطراب العقلي الحاد" يسجّل الأطباءُ في العالم عدداً منها كل عام، ولعل حالة الشاعر المشهور "ديك الجن" الذي قتل جاريته "دُنْيا" -خوفاً من أن تقع عليها عين رجل سواه- كانت من هذا النوع الشاذ الخطير! هذا إذا صدقت في قصته الأخبارُ.
هذا كله هو التشخيص، وهو -كما ترين- ليس مشجِّعاً جداً لكنه ليس مُؤْيِساً بالتأكيد. وما العلاج؟ أولاً تفاءلي وانظري إلى العناصر الإيجابية في المشكلة، وقد بدأت حديثي بها، وأضيفُ إليها الآن الأهم: هذه الحالة معروفة جداً في الطب النفسي ولها علاج جيد إن شاء الله، نجح بنسبة تجاوزت تسعين بالمئة في كثير من الحالات. وأقترح عليك أن تمشي في طريقين من طرق العلاج في آنٍ معاً:
(1) اتجهي إلى الله الذي هو الشافي من كل داء، ما علمنا من الأدواء وما لم نعلم، فادعيه في كل يوم وفي كل ساعة من ساعات الصفاء. وهذا رمضان شهر الطاعة والمغفرة، فعسى أن تكوني فيه إلى الله أقرب وإلى إجابة الدعاء أدنى، فاسألي الله لزوجك الشفاء ولكما التوفيق في حياة زوجية سعيدة في هذه الدنيا وعيشة رضيّة في دار النعيم في الآخرة. وأكثري من الرُّقَى بكل ما تعلمين من آيات وأدعية، وعلى رأسها الفاتحة وآية الكرسي والمعوَّذات، وكلها وردت فيها أحاديث صحيحة لا أريد أن أطيل جوابي هذا بذكرها، تجدينها في مظانّها من كتب الأدعية والحديث، بل أنت أعلم بها مني وأنت طالبة الماجستير في الدراسات الإسلامية، وفقك الله.
أنا أثق بالطب النفسي وأعتمد عليه بعد الله في مثل هذه الحالات، لكنّي أؤمن أيضاً بالتداخل الكبير بين الأمراض النفسية والإصابات الروحانية، تلك التي تنشأ من العين والحسد والسحر وغيره. كثيرون يؤمنون بتأثير هذه القوى لكنهم لا يحاولون التفكير في ماهيّة التأثير، أما أنا فأظن أن هذه الأمور الغيبية أسبابٌ للمرض كالأمور الحسية المادية. وهذا أمر لا يصعب تصديقه، فإذا قبلنا أن "جرثومة" صغيرة لا تراها العين لصغرها يمكن أن تطرح أقوى الناس وأن تقضي عليه، فلماذا لا نقبل أن مثل هذا الأثر السيئ يمكن أن يتسبب به "كائنٌ" غيرُها لا نراه لعلة غير الصِّغَر، علة لا نعرفها لكنّا نعرف أنها موجودة بالخبر اليقين: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}؟ وإذا كان تأثير "الجسم المادي الصغير" (الجرثوم) متجهاً إلى الجزء المادي من الإنسان، وهو البدن، فإن الذي يُفهَم بداهةً أن يتجه تأثير الكائن الآخر غير المادي إلى غير البدن، وهو النفس، ومحل الإصابات النفسية سيكون الدماغ الذي تجري فيه عمليات التفكير والتقدير بوسائط كهربائية وكيماوية يعرفها أهل الاختصاص، فيكفي إحداث أي اضطراب في التدفق الكهربي بين العَصبونات (الخلايا العصبية في الدماغ) أو في كيمياء الدماغ لإحداث العلّة في نفسية الإنسان وفي تفكيره.
وقد ورد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق، تُدخل الجملَ القِدْر والرجلَ القبر (حسَّنَه الألباني في السلسلة الصحيحة)،والحديث لم يذكر طبيعة الإصابة لكنه قرر الأذى الذي ينشأ بسببها، ومثله حديث سهل بن حنيف المشهور، وكذلك الآثار الأخرى التي تتحدث عن السحر والحسد، كلها تركز على الضرر دون توضيح الآليّة. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن هذه الأمور كلها أسباب لمرض حقيقي، فهي تُمرِض الإنسان كما تُمرضه الجراثيم والحُمَات (الفيروسات). وكما يلجأ المريض إلى العلاج الطبي في حالة إصابته بالمرض الذي تتسبب به كائنات معلومة فليلجأ إلى العلاج الطبي حينما يصيبه المرض الناشئ من عين أو حسد أو سحر أو نحوه. وفي هذه النقطة سوف يلتقي الفريقان اللذان طالت الخصومة بينهما: الأطباء النفسيون الذين لا يرون إلا المرض الظاهر ويعالجونه بالعقاقير وغيرها من الأدوات المعروفة عندهم، وأولئك الذين يصرّون على إرجاع العلّة إلى العين والسحر وما شابههما.
(2) الدعاء والرقية هما أحد وجهَي العلاج من كل داء، وإني لأفزع إليهما حتى فيما ظاهرُه المرض العضوي الصريح، كالصُّداع وألم المفاصل وسواهما، لكنني ألجأ إليهما وأنا أفتح علبة الأقراص وأتناول قرصين من الباراسيتامول (البانادول أو غيره)، وأرى أنني بذلك أهتدي بهدي ديننا العظيم الذي أمرَنا نبيُّه الكريم بالتداوي والبحث عن الدواء، وأتناوله القرصين وأنا على يقين من أنهما يُذهبان الصداع بأمر الله وبقدرة الله.
وكذلك أنت افعلي: لا تستسلمي، بل احرصي على علاج زوجك علاجاً طبياً حقيقياً بأيدي أطباء نفسيين ثقات ومحترفين. وألقي بالعبء الأكبر في هذا الأمر على أهله، أبيه خاصة ومن له تأثير فيه، لا عليك ولا على أهلك، فإنه سوف يتقبل هذا الأمر منهم أكثر من تقبله منكم، وهو سيخفف الضغط النفسي عليك في هذه المرحلة، وتذكري: إن سلامتك النفسية مهمة جداً لتمدّي إليه يد العون، ولو أنك ضعفت أو أصابك خلل نفسي -لا سمح الله- فسوف تتعقد الأمور كثيراً.
إن العلاج لا يقوم به هواة قطعاً ولا يمكن تقديمه من بُعد، بل لا بد من طبيب نفسي يطّلع على الحالة ويقوم بمداواتها. وأنا أرجو أن تتأكدوا -أنت أو غيرك ممن سيراجع الطبيب- من تزويده بالمعلومات الكاملة، وأحسب أن من الجزئيات المهمة التي ستساعده على تحليل المشكلة ووصف العلاج معرفة العمر القصير للمرض من ناحية، ومعرفة المستوى الثقافي لكل منكما، فأنت قريبة من الحصول على درجة الماجستير وهو حاصل على الثانوية لا غير، وإن لم أكن مخطئاً فإن هذه الجزئية قد تكون هي القادح الرئيسي للمرض، لكنني لا أستطيع الجزم بسبب بعدي عن الوصف التاريخي الدقيق للحالة.
أسأل الله له العافية، وأن يردّ السعادة والتفاهم إلى حياتكما ويجمعكما على طاعته ومرضاته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا متزوجة من ستِّ سنوات، وعندي ولدٌ عمْرُه أربعُ سنوات ونصف، من سنتين بدأ زوجي يشكُّ فِيَّ، وتحوَّلت حياتي إلى جحيم، ومن أربعة شهور وأنا موجودة في بيت أخي في (جَدة)، مع العلم أنه أنا وزوجي نعيش في (الجبيل)، زوجي يرفض العلاج، وعندما طلبْتُ الطلاقَ، اقترح والد زوجي أن ننتقل إلى (جدة)، فأكون قريبةً من أهلي وأهله، وافقت على هذا الاقتراح؛ لأنه ربما يكون تغييرُ البيئة يُساهم في علاج المشكلة، وفعلاً قدَّم زوجي طلبَ النقل، لكنَّ النقل قد يأخذ فترةً طويلة - سنة أو أكثر - وأنا الآن في حَيرة من أمري، لا أعرف ماذا أفعل؟ وكيف يمكن أن أصل بأسرتي إلى بَرِّ الأمان؟ مع العلم أن زوجي غيورٌ جدًّا، وعصبي جدًّا، لقد تعِبْتُ كثيرًا، وأحتاج إلى مشورتكم، هل في هذه الحالة يكون الانفصال هو الحل؟ المشكلة أن ولدي حساس، ويسأل عن والده، بل ويريد أن يعود إلى بيتنا في (الجبيل)، ماذا أفعل؟ هل يمكن أن تنتهي مشكلة الشك من غير علاج؟ كيف يمكن أن أساعد زوجي على التخلص من هذا المرض؟ أنا أعتقد أن زوجي مريضٌ بمرض الشك؛ لأنه من وجهة نظري ليست هناك مواقفُ حقيقية دعتْهُ للشك، بالإضافة إلى أنه غيور جدًّا أساسًا، حتى لا يسمح لي بمشاهدة التلفاز، ثم إن أهل زوجي كلَّهم معي، ويرون أن زوجي بحاجة للعلاج؛ لأن الأسباب التي دعته للشك واهيةٌ جدًّا، بل قد لا تكون هناك أسباب، أنا وزوجي ملتزمان، وقد خرجْتُ بإرادتي ورغبتي وبتأييد كل مَن حولي، وأنا حقيقة لا أرغب في الطلاق إذا وافق على أن يتم علاجه، وظيفة زوجي مدخل بيانات في البحرية، عمره 39 عامًا، بشهادة الثانوية العامة، وأنا شهادتي جامعية (دراسات إسلامية)، أكملت السنة المنهجية من الماجستير، وتوقَّفْتُ أثناء الرسالة؛ لأن الجامعة رفضت طلب التمديد وتزوجت، أريد أن أعرف: كيف يمكن أن أقنع زوجي بالعلاج؟ هو طيب وعاطفي، ولكن هذه الوساوس غلبت على عقله، وهو لا يريد الطلاق ولا يريد العلاج.
الجواب:
مقـدمة:
الغَيْرَة في أصلها طبعٌ محمود، فإنّ الغَيرةَ على المحارم من مفاخرنا والنخوةَ طبعٌ فينا نحن العرب، وهو طبع هذَّبَه الإسلام ورشَّدَه، فأقرّ منه ما يمنع من المحرَّمات وكشف العورات وما يدفع إلى العفاف والفضيلة. وهذه الغيرة المحمودة مقياسها الشرع، فما أنكره الشرع أنكرناه وما قَبِله قبلناه، فليس منا ذلك الرجل الذي لا يبالي أن تكشف امرأته عورتها أمام الأجانب، رأسَها وذراعيها وساقيها وصدرها ونحرها! أو أن تختلط بالرجال بلا ضرورة وتباسطهم وتتبادل معهم الهزل والمزاح. لا، هذا كله مرفوض وهو تفريط، لكن عكسه مرفوض أيضاً، وهو الإفراط الذي نهى عنه الشرع وحذّرَنا منه النبي صلى الله عليه وسلم: الغَيرة التي تُخرج الرجل عن طوره إن غابت امرأته ساعة في زيارة والدتها أو جارتها، فيتهمها ويحقق معها تحقيق القاضي في الجريمة النكراء، يظن أنها ما غابت إلا لزيارة صديق أو لقاء عشيق! هذه هي الغيرة المذمومة، غيرة الجاهلية التي تنغّص حياة الزوجين وتقلب البيت ناراً مسعَّرة، ولا تنشأ إلا عن سوء الظن وضعف الثقة.
وقد وردت الأحاديث في التحذير من الثانية والحثّ على الأولى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم المسافرَ الغائبَ عن طرق زوجه ليلاً، أي العودة المفاجئة بليلٍ وكأنه يخوّنها أو يشكّ فيها؛ أخرج البخاري ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً"، وأخرج مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً، يتخوّنهم أو يتلمّس عثراتهم". وللحديث روايات أخرى بالمعنى ذاته. وبالمقابل نجد الحديث الذي أخرجه النسائي عن ابن عمر وصحّحه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب وفي صحيح الجامع: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديّوث، ورجلة النساء". والقول الفصل الجامع في المسألة هو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره، فأما ما يحب فالغيرة في الريبة، وأما ما يكره فالغيرة في غير ريبة" (أخرجه النسائي وابن ماجه وصحّحه الألباني).
فالغيرة المطلوبة هي الغيرة المتوسطة المعتدلة، التي تحافظ على حدود الله وترعى شرعه من غيرِما تضييق على الزوجة من زوجها (أو على الزوج من زوجته، وهذا ليس محل جوابنا اليوم).
المشكلة:
لا شك أن هذه المشكلة حالةٌ مَرَضية تحتاج إلى تدخّل طبي، لكنها ليست صعبة لدرجة تجعلها عصيّة على العلاج، لذلك لن أميل أبداً إلى اقتراحك بعلاج المشكلة بالانفصال، على الأقل ليس قبل اليأس الكامل من العلاج. إن قراراً كهذا يملكه الزوجان بالكامل عندما يكونان بلا أولاد، أما حينما يصبح الأولاد جزءاً من المعادلة فإن الكفاح إلى اللحظة الأخيرة الممكنة يصبح هو الاختيار الأفضل، ولا سيما حينما يكون الأطفال معلَّقين بالوالدَين أو بأحدهما. ولا ننسَ أن الحياة في أسرة مستقرة حقٌّ أصلي من حقوق الطفولة لا ينبغي الاستهانة به أبداً.
إن هذه مشكلة صعبة بالفعل، لكنها ليست من أعقد المشكلات قاطبة. لنبدأ بالقسم الجيد منها:
(أ) أنت امرأة ناضجة وعاقلة ومتفهِّمة، استطعت أن تفهمي مشكلة زوجك بشكل جيد، وأبديت رغبة صادقة في علاجه وصبراً محموداً على هذا العلاج، ومن الواضح أيضاً أنك وفيّة ومخلصة، وهذا أمر تؤجَرين عليه في الآخرة، وأرجو أن يساعدك في الدنيا بإذن الله.
(ب) أهل الزوج متفهِّمون ومتعاونون، وهي حالة غير شائعة، فالمشهور في مثل هذه الحالات أن يميل الأهل مع ابنهم -على ما به من علل- وأن يتعاطفوا معه ويتخذوا الكَنّة خصماً. ولا تسأليني لماذا، فإننا نعيش في دار ظلم لا دار عدل، وما أقلَّ المنصفين فيها وما أكثرَ الباغين، فاحمدي الله الذي جعل أحماءك (أهل زوجك) من المنصفين لا من الباغين.
(ج) زوجك -كما وصفتِه- طيب وعاطفي ومُحِبّ، وهو متشبث بك ولا يريد الطلاق، وهذه نقطة قوة في العلاج بإذن الله.
(د) المرض عمره قصير، فقد بدأت الحالة منذ سنتين فقط كما تقولين، مع أنكما متزوجان منذ ست سنوات، وهذا يعني أن المرض ليست له جذور وراثية وأنه ليس مرضاً مزمناً، فإن أكثر من نصف المصابين بمثل هذه العلل تمتد إصاباتهم إلى مراحل الطفولة المبكرة.
أما القسم السيئ من المشكلة (الذي تعرفينه بشكل جيد وقد أشرت إليه بوضوح) فهو تمنّع زوجك ومقاومته للعلاج.
لنشخّص المشكلة أولاً: لقد كان وصفك للمشكلة وافياً وواضحاً، وهو يدل على ثقافة ووعي قليلَين في الناس، ومن هذا الوصف نستطيع الجزم بأن زوجك يعاني من حالة "وَسْواس قهري" اتخذت من جانب الشك والغيرة متنفَّساً لها. وهل تعرفين ما هو الوسواس القهري؟ كما يبدو من اسمه فإنه حالة عقلية تسيطر على المرء بصورة لاإرادية، أي أن المرء يفقد القدرة على صدّها أو رفضها أو منع عقله من الاستجابة لها، وهذه الحالة ليست من النوع "الطبيعي" الذي يعتبره أسوياءُ الناس أمراً مقبولاً، بل هي أقرب إلى الشذوذ والغرابة.
على سبيل المثال: قد يصاب المريض بحالة عقلية يعاني فيها من "الخوف من الفَقْد" فيبدأ بادّخار وتخزين أشياء لا قيمة لها، كأغطية قوارير المياه البلاستيكية أو المصابيح (اللمبات) المحترقة، وهو يدرك -غالباً- أنه يقوم بعمل غريب لكنه لا يستطيع دفعه، لذلك نجده يخبئ هذه الأشياء في أمكنة عجيبة حتى لا يعثر عليها أحد. وقد يتجه وسواس المريض إلى عدم الثقة من إتمام العمل الذي يعمله، فيعيد قَفْل الباب أكثر من مرة، ثم يعود إليه ويفحصه من جديد ليتأكد من قَفْله مثلاً، وقد يستمر في جمع الأرقام مرات ومرات ولا يصل إلى الاطمئنان حتى لو تكررت النتيجة ذاتها... وقد يتمثل الوسواس في جانب من جوانب العبادة، فترى المريض يعيد تكبيرة الإحرام عدة مرات قبل الشروع في الصلاة ظناً منه أن النية لم ترافق التكبيرة، أو يعيد غسل العضو الواحد في الوضوء عشر مرات يخشى أن الماء لم يبلغه. ومثل هذا الشخص سمّاه الفقهاء في كتبهم "مُوَسْوِساً"، كذا بكسر الواو الثانية على أنه اسم فاعل، والصواب -من فهمنا المعاصر للحالة النفسية- أن نسمّيه "موَسْوَساً" بفتحها على أنه اسم مفعول، لأنه يقوم بعمل قسري لاإرادي كما رأينا.
ولعلك لاحظت أنني -لمّا قلت إن المريض يدرك غرابة ما يقوم به- أنني استعملت كلمة "غالباً" ولم أطلق القول، ذلك لأن المصابين بالوسواس القهري على نوعين؛ أحدهما أهون من الآخر، وأخشى أن زوجك مصاب بالنوع الأصعب. النوع الأول اضطرابٌ يصيب الأفكار، ومن ثَمّ ينشأ عن الأفكار المعتلَّة سلوكٌ غريب. هذا النوع ينتمي إلى "الاضطرابات الوُهامية". وكما يوحي الاسم، "الوُهام"، فإنه "مرض يتوهم المريض فيه غيرَ الحقيقة".
وهذه فائدة لغوية في السياق: كثير من أسماء الأمراض تأتي في اللغة العربية على وزن "فُعال"، فقد سُمعت عن العرب ألفاظ مثل صُداع وسُعال وزُكام وبُحاح ودُوار وهُلاس (وهو مرض السُّلّ) وفُواق وخُناق، إلخ، ومن ثَمّ فقد أقرّ مجمع اللغة العربية في مصر قياسية هذه الصيغة مطلقاً لكل داء أو مرض (من "فَعَل" اللازم المفتوح العين)؛ وعليه فإن كلمة "الوُهام" يُفهَم منها على الفور أنها تعبير عن مرض نفسي عَرَضه الرئيسي هو "سيطرة الأوهام على عقل المريض".
أعود إلى الموضوع: النوع الأصعب من نوعَي الوسواس هو "الوُهام"، ومن أشكاله الموصوفة في الطب النفسي نوع ينطبق على حالتنا هذه ويدعى "الغيرة الوُهامية" أو "وُهام الخيانة الزوجية"، وهو اضطراب عقلي معروف تنشأ عنه الأعراض التي ذكرتِها في رسالتك، بعضها أو كلها، أو غيرها أحياناً. أما النوع الآخر الأهون فهو "الأفكار التسلطيّة". لماذا اعتبرنا هذا النوع أهون من الأول؟ لأن المريض في هذه الحالة يدرك أنّ الفكرةَ التي سيطرت على عقله -قسراً ورغماً عنه- فكرةٌ غير صحيحة، لكنها تتسلط عليه بدرجة لا يستطيع قهرها، فهي تسلطية وقهرية لكنها غير مضلِّلة، فتراه -مثلاً- على يقين من أنه قد تطهّر بالاستنجاء على الوجه الشرعي المطلوب، لكنه يعيد الكَرّة مرّةً بعد مرّة، ويزداد الضغط النفسي عليه شدّةً وهو يسمع صياح المنتظرين في الخارج يريدون كلهم دورة المياه التي شغلها لوقت طويل (لا سيما إذا كان في مكان عام مزدحم، كحمّامات المشاعر في الحج مثلاً) لكنه لا يستطيع حسم أمره والمغادرة!
من الواضح أن زوجك لا ينتمي إلى مرضى هذا النوع، وهذا هو السبب الذي يجعله رافضاً للعلاج، بل مقاوِماً له من حيث المبدأ. وهذا يعقّد الموضوع بلا ريب، لكني سوف أطمئنك: إن هذه الحالة لا تبدو من النوع الخفيف، لكنها ليست من النوع الشديد المتطرف أيضاً بحمد الله. انظري إلى مقدار الحرية الذي ما زلت تتمتعين به: لقد سمح لك بالسفر والإقامة بعيداً عنه، وهذا بذاته دليل على درجة غير متطرفة من الغيرة. إن الغيرة في حدّها المَرَضي الأقصى تغدو غير محتمَلة أبداً، وقد يكون من أعراضها أن يحبس الزوجُ زوجتَه في البيت ويقفل عليها الباب بالمفتاح ويصادر كل وسائل الاتصال الممكنة من بين يديها، بل إنها قد تصل -في بعض الحالات المَرَضية المتطرفة- إلى الإيذاء الجسدي، وهذا أيضاً يتفاوت بين الضرب والإهانة في كثير من الأحيان، وصولاً إلى القتل! لا تستغربي، إنها درجة من "الاضطراب العقلي الحاد" يسجّل الأطباءُ في العالم عدداً منها كل عام، ولعل حالة الشاعر المشهور "ديك الجن" الذي قتل جاريته "دُنْيا" -خوفاً من أن تقع عليها عين رجل سواه- كانت من هذا النوع الشاذ الخطير! هذا إذا صدقت في قصته الأخبارُ.
هذا كله هو التشخيص، وهو -كما ترين- ليس مشجِّعاً جداً لكنه ليس مُؤْيِساً بالتأكيد. وما العلاج؟ أولاً تفاءلي وانظري إلى العناصر الإيجابية في المشكلة، وقد بدأت حديثي بها، وأضيفُ إليها الآن الأهم: هذه الحالة معروفة جداً في الطب النفسي ولها علاج جيد إن شاء الله، نجح بنسبة تجاوزت تسعين بالمئة في كثير من الحالات. وأقترح عليك أن تمشي في طريقين من طرق العلاج في آنٍ معاً:
(1) اتجهي إلى الله الذي هو الشافي من كل داء، ما علمنا من الأدواء وما لم نعلم، فادعيه في كل يوم وفي كل ساعة من ساعات الصفاء. وهذا رمضان شهر الطاعة والمغفرة، فعسى أن تكوني فيه إلى الله أقرب وإلى إجابة الدعاء أدنى، فاسألي الله لزوجك الشفاء ولكما التوفيق في حياة زوجية سعيدة في هذه الدنيا وعيشة رضيّة في دار النعيم في الآخرة. وأكثري من الرُّقَى بكل ما تعلمين من آيات وأدعية، وعلى رأسها الفاتحة وآية الكرسي والمعوَّذات، وكلها وردت فيها أحاديث صحيحة لا أريد أن أطيل جوابي هذا بذكرها، تجدينها في مظانّها من كتب الأدعية والحديث، بل أنت أعلم بها مني وأنت طالبة الماجستير في الدراسات الإسلامية، وفقك الله.
أنا أثق بالطب النفسي وأعتمد عليه بعد الله في مثل هذه الحالات، لكنّي أؤمن أيضاً بالتداخل الكبير بين الأمراض النفسية والإصابات الروحانية، تلك التي تنشأ من العين والحسد والسحر وغيره. كثيرون يؤمنون بتأثير هذه القوى لكنهم لا يحاولون التفكير في ماهيّة التأثير، أما أنا فأظن أن هذه الأمور الغيبية أسبابٌ للمرض كالأمور الحسية المادية. وهذا أمر لا يصعب تصديقه، فإذا قبلنا أن "جرثومة" صغيرة لا تراها العين لصغرها يمكن أن تطرح أقوى الناس وأن تقضي عليه، فلماذا لا نقبل أن مثل هذا الأثر السيئ يمكن أن يتسبب به "كائنٌ" غيرُها لا نراه لعلة غير الصِّغَر، علة لا نعرفها لكنّا نعرف أنها موجودة بالخبر اليقين: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}؟ وإذا كان تأثير "الجسم المادي الصغير" (الجرثوم) متجهاً إلى الجزء المادي من الإنسان، وهو البدن، فإن الذي يُفهَم بداهةً أن يتجه تأثير الكائن الآخر غير المادي إلى غير البدن، وهو النفس، ومحل الإصابات النفسية سيكون الدماغ الذي تجري فيه عمليات التفكير والتقدير بوسائط كهربائية وكيماوية يعرفها أهل الاختصاص، فيكفي إحداث أي اضطراب في التدفق الكهربي بين العَصبونات (الخلايا العصبية في الدماغ) أو في كيمياء الدماغ لإحداث العلّة في نفسية الإنسان وفي تفكيره.
وقد ورد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق، تُدخل الجملَ القِدْر والرجلَ القبر (حسَّنَه الألباني في السلسلة الصحيحة)،والحديث لم يذكر طبيعة الإصابة لكنه قرر الأذى الذي ينشأ بسببها، ومثله حديث سهل بن حنيف المشهور، وكذلك الآثار الأخرى التي تتحدث عن السحر والحسد، كلها تركز على الضرر دون توضيح الآليّة. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن هذه الأمور كلها أسباب لمرض حقيقي، فهي تُمرِض الإنسان كما تُمرضه الجراثيم والحُمَات (الفيروسات). وكما يلجأ المريض إلى العلاج الطبي في حالة إصابته بالمرض الذي تتسبب به كائنات معلومة فليلجأ إلى العلاج الطبي حينما يصيبه المرض الناشئ من عين أو حسد أو سحر أو نحوه. وفي هذه النقطة سوف يلتقي الفريقان اللذان طالت الخصومة بينهما: الأطباء النفسيون الذين لا يرون إلا المرض الظاهر ويعالجونه بالعقاقير وغيرها من الأدوات المعروفة عندهم، وأولئك الذين يصرّون على إرجاع العلّة إلى العين والسحر وما شابههما.
(2) الدعاء والرقية هما أحد وجهَي العلاج من كل داء، وإني لأفزع إليهما حتى فيما ظاهرُه المرض العضوي الصريح، كالصُّداع وألم المفاصل وسواهما، لكنني ألجأ إليهما وأنا أفتح علبة الأقراص وأتناول قرصين من الباراسيتامول (البانادول أو غيره)، وأرى أنني بذلك أهتدي بهدي ديننا العظيم الذي أمرَنا نبيُّه الكريم بالتداوي والبحث عن الدواء، وأتناوله القرصين وأنا على يقين من أنهما يُذهبان الصداع بأمر الله وبقدرة الله.
وكذلك أنت افعلي: لا تستسلمي، بل احرصي على علاج زوجك علاجاً طبياً حقيقياً بأيدي أطباء نفسيين ثقات ومحترفين. وألقي بالعبء الأكبر في هذا الأمر على أهله، أبيه خاصة ومن له تأثير فيه، لا عليك ولا على أهلك، فإنه سوف يتقبل هذا الأمر منهم أكثر من تقبله منكم، وهو سيخفف الضغط النفسي عليك في هذه المرحلة، وتذكري: إن سلامتك النفسية مهمة جداً لتمدّي إليه يد العون، ولو أنك ضعفت أو أصابك خلل نفسي -لا سمح الله- فسوف تتعقد الأمور كثيراً.
إن العلاج لا يقوم به هواة قطعاً ولا يمكن تقديمه من بُعد، بل لا بد من طبيب نفسي يطّلع على الحالة ويقوم بمداواتها. وأنا أرجو أن تتأكدوا -أنت أو غيرك ممن سيراجع الطبيب- من تزويده بالمعلومات الكاملة، وأحسب أن من الجزئيات المهمة التي ستساعده على تحليل المشكلة ووصف العلاج معرفة العمر القصير للمرض من ناحية، ومعرفة المستوى الثقافي لكل منكما، فأنت قريبة من الحصول على درجة الماجستير وهو حاصل على الثانوية لا غير، وإن لم أكن مخطئاً فإن هذه الجزئية قد تكون هي القادح الرئيسي للمرض، لكنني لا أستطيع الجزم بسبب بعدي عن الوصف التاريخي الدقيق للحالة.
أسأل الله له العافية، وأن يردّ السعادة والتفاهم إلى حياتكما ويجمعكما على طاعته ومرضاته.
أ. مجاهد ديرانية
مآآآجى
مآآآجى