إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله، إنَّ من نعم الله على عباده أنِ اختصَّ بعضَ الأزمنة والأمكنة بمزيد عناية وفضل؛ ليزداد من اغتنمها ورعى حُرمتها إحسانًا، ويبوء من غَفَل عنها وأهملها خيبة ونقصانًا.
ألا وإنَّ من تلك الأزمنة الفاضلة التي أنعم الله بها على أمة محمد صلى الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهرَ الله الحرام.
شهر الله المحرم شهر عظيم من أشهر العام، وهو أحد الأشهر الحُرُم التي نهانا فيها مولانا أن نظلم فيهنَّ أنفسنا؛ لأنَّها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
قال ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرامًا، وعظَّم حرماتِهنَّ، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
عبادَ الله:
لقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر المحرم شهرَ الله الأصم؛ لشدة تحريمه.
عباد الله:
ومن فضائل شهر الله المحرَّم أنَّه يستحب الإكثار فيه من صيام النَّافلة؛ ففي الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم))؛ رواه مسلم.
قال ابن رجب - رحمه الله -: "سمى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الشهر شهر الله المحرم، فاختصه بإضافته إلى الله، وإضافته إلى الله تدُلُّ على شرفه وفضله، ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله - تعالى - وكان الصيام من بين الأعمال مختصًا بإضافته إلى الله، ناسب أن يَختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختص به وهو الصوم".
وقال أيضًا - رحمه الله تعالى -: "من صام من ذي الحجة، وصام من المحرم، خَتَم السنة بالطاعة، وافتتحها بالطاعة، فيُرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإنَّ من كان أول عمله طاعة، وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين".
عباد الله:
ومما اختصَّ اللهُ به شهرَ المحرم يومُه العاشر وهو عاشوراء، هذا اليوم الذي احتسب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الله أن يكفِّر لمن صامه السنة التي قبله؛ عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً سأل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن صيام عاشوراء، فقال: ((أحتسب على الله أنْ يكفر السنة التي قبله))؛ رواه مسلم.
وقد صامه النبي - صلى الله عليه وسلَّم - تعظيمًا لهذا اليوم، وهو يومٌ مبارك معظم منذ القدم، فاليهود أتباع موسى - عليه السَّلام - كانوا يعظمونه ويصومونه ويتخذونه عيدًا؛ وذلك لأنه اليوم الذي نَجَّى الله فيه موسى - عليه السَّلام - من فرعون وقومه؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح نَجَّى الله فيه بني إسرائيل من عدوِّهم، فصامه موسى"؛ أخرجه البخاري.
وكذلك النصارى كان لهم حظ من تعظيم هذا اليوم؛ بل قريش على وثنيَّتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه؛ تقول عائشة - رضي الله عنها -: "كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهليَّة، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصومه في الجاهلية".
ونحن المسلمين أحقُّ بصيام هذا اليوم من أولئك، فهو يوم نَجَّى الله فيه موسى، فنحن أحق بموسى منهم، فنصومه تعظيمًا له؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
عباد الله:
صوم عاشوراء وإن لم يكن واجبًا باتِّفاق جمهور العلماء، فهو من المستحبات التي ينبغي الحرص عليها، وذلك لما يأتي:
وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه.
ولتحري رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صيامَ هذا اليوم؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما رأيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتحرَّى صومَ يوم فضَّله على غيره إلاَّ هذا اليوم يوم عاشوراء"؛ أخرجه البخاري.
ولأن صيامه يكفر السنة الماضية؛ كما ورد في الحديث.
ولحرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على صيام صبيانِهم ذلك اليوم؛ تعويدًا لهم على الفضل؛ فعن الربيع بنت معوذ قالت: "أرسل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرًا، فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم))، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللُّعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطَّعام، أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار".
ولما ورد عن بعض السَّلف من صيام عاشوراء حتى وهُمْ في السَّفر؛ جاء ذلك عن ابن عباس وأبي إسحاق السبيعي والزهري وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - وكان الزهري يقول: رمضان له عدة من أيَّام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر.
عباد الله:
إن من فضل الله علينا أنْ وهبنا بصيام يوم واحد تكفيرَ ذنوب سنة كاملة، وهذه الذنوب التي يكفرها صيام يوم عاشوراء هي الذُّنوب الصَّغائر فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة وقبولها، كما أشار إلى ذلك العلماء المحقِّقون كابن تيمية وغيره - رحمة الله على الجميع.
واستمعوا - عبادَ الله - إلى الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - وهو يُحذر ممن يتصور أنَّ صيام عرفة وعاشوراء كافٍ في النَّجاة والمغفرة؛ حيث يقول - رحمه الله -: "لم يدرِ هذا المغتر أنَّ صوم رمضان والصَّلوات الخمس أعظمُ وأجلُّ من صيامِ يوم عرفة وعاشوراء، وهي إنَّما تكفر ما بينها إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة لا يَقْوَيان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام تركِ الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصَّغائر.
ومن المغرورين مَن يظنُّ أن طاعته أكثر من معاصيه؛ لأنَّه لا يُحاسب نفسه على سيئاته ولا يتفقد ذنوبه، وإذا عمل طاعةً حفظها واعتبرها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة، ثم يغتاب المسلمين ويُمزِّق أعراضَهم، ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبدًا يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذَّابين والنمامين إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك من محض غرور"، انتهى كلامه - رحمه الله.
عباد الله:
وأمَّا مراتب صيام عاشوراء، فقد ثَبَت أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - صام يوم عاشوراء، وثبت عنه أنَّه قال: ((لئن بقيت إلى قابل، لأصومَنَّ التاسع))، والحديثان في صحيح مسلم.
فصام - عليه الصلاة والسَّلام - اليومَ العاشر فعلاً، وهَمَّ بصيام التاسع، والهم هنا يأتي يحاكي الفعل، فهاتان مرتبتان ثابتتان في السنة: صيام التاسع والعاشر، ففي صيام العاشر إدراك للفضل، وفي صيام التاسع معه تحقيق آكد لمخالفة اليهود، وذهب بعضُ العلماء إلى أن مراتب صيام يوم عاشوراء ثلاث مراتب: صيام التاسع والعاشر، أو صيام العاشر والحادي عشر، أو صيام التاسع والعاشر والحادي عشر، وذهب فريق من العلماء إلى زيادة مرتبة رابعة، وهي صيام العاشر وحده.
وهنا أمر يكثُر السؤال عنه، وهو: ما العمل إذا اشتبه أوَّل الشهر؟ فلم يُدْرَ أيُّ يوم هو العاشر أم التاسع؟ فيقال ما ذكره الإمام أحمد - رحمه الله -: "فإنِ اشتبه عليه أول الشهر، صام ثلاثةَ أيام، وإنَّما يفعل ذلك؛ ليتيقن صوم التاسع والعاشر، فمن لم يعرفْ دخولَ هلال محرم، وأراد الاحتياط للعاشر، بنى على ذي الحجة ثلاثين كما هي القاعدة، ثم صام التاسع والعاشر".
بارك الله لي ولكم في الوَحْيَين...
الخطبة الثانية
عبادَ الله:
مما يتعلق بيوم عاشوراء ما أحدثه بعضُ الناس من البدع فيه، فقد سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - عمَّا يفعله بعض الناس بيوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمُصافحة، وطبخ الحبوب وإظهار السُّرور وغير ذلك، فهل في ذلك عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حديث صحيح؟ وإذا لم يردْ في ذلك حديث صحيح، فهل يكون فعل ذلك بدعة؟ وهل لفعل الطائفة الأخرى من المآتم والحزن والعطش وغير ذلك من الندب والنِّياحة وشق الجيوب، هل لذلك أصل أو لا؟
فأجاب - رحمه الله -: لم يرد في شيء من ذلك حديثٌ صحيح عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا، لا عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا عن الصَّحابة، ولا عن التابعين، لا صحيحًا ولا ضعيفًا.
ثم ذكر - رحمه الله - ملخصًا لما مَرَّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث، ومقتل الحسين - رضي الله عنه - يوم عاشوراء، وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك، فقال - رحمه الله -: فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إمَّا مُلحدة مُنافقة، وإمَّا ضالة غاوية، تظهر موالاته، وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهليَّة من لطم الخدود، وشقِّ الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهليَّة - يشير إلى فعل الروافض - فكل ما زينه الشيطان لأهل الضَّلال والغي من اتِّخاذ يوم عاشوراء مأتمًا، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلاَّ تجديد للحزن والتعصُّب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسُّل بذلك إلى سب السابقين الأولين، ثم ختم كلامه - رحمه الله - بهذه الكلمة: وشر هؤلاء - يعني الروافض - وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يُحصيه الرجل الفصيح في الكلام.
عبادَ الله:
وأمَّا سائر الأمور مثل: اتِّخاذ طعام خارج عن العادة، أو تجديد لباس وتوسيع نفقة، أو شراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فعل عبادة مُختصة - كصلاة مختصة به - أو قصد الذَّبح، أو ادِّخار لحوم الأضاحي؛ ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال، أو الاختضاب، أو الاغتسال، أو التصافح، أو التزاوُر، أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك - فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنَّها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبَّها أحد من أئمة المسلمين.
اللَّهم اجعلنا من أهل سنة نبيك محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأحيِنَا على الإسلام وأمتنا، ثم صلوا - رحمكم الله - على النعمة المسداة.
أما بعد:
عباد الله، إنَّ من نعم الله على عباده أنِ اختصَّ بعضَ الأزمنة والأمكنة بمزيد عناية وفضل؛ ليزداد من اغتنمها ورعى حُرمتها إحسانًا، ويبوء من غَفَل عنها وأهملها خيبة ونقصانًا.
ألا وإنَّ من تلك الأزمنة الفاضلة التي أنعم الله بها على أمة محمد صلى الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهرَ الله الحرام.
شهر الله المحرم شهر عظيم من أشهر العام، وهو أحد الأشهر الحُرُم التي نهانا فيها مولانا أن نظلم فيهنَّ أنفسنا؛ لأنَّها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
قال ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرامًا، وعظَّم حرماتِهنَّ، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
عبادَ الله:
لقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر المحرم شهرَ الله الأصم؛ لشدة تحريمه.
عباد الله:
ومن فضائل شهر الله المحرَّم أنَّه يستحب الإكثار فيه من صيام النَّافلة؛ ففي الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم))؛ رواه مسلم.
قال ابن رجب - رحمه الله -: "سمى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الشهر شهر الله المحرم، فاختصه بإضافته إلى الله، وإضافته إلى الله تدُلُّ على شرفه وفضله، ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله - تعالى - وكان الصيام من بين الأعمال مختصًا بإضافته إلى الله، ناسب أن يَختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختص به وهو الصوم".
وقال أيضًا - رحمه الله تعالى -: "من صام من ذي الحجة، وصام من المحرم، خَتَم السنة بالطاعة، وافتتحها بالطاعة، فيُرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإنَّ من كان أول عمله طاعة، وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين".
عباد الله:
ومما اختصَّ اللهُ به شهرَ المحرم يومُه العاشر وهو عاشوراء، هذا اليوم الذي احتسب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الله أن يكفِّر لمن صامه السنة التي قبله؛ عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً سأل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن صيام عاشوراء، فقال: ((أحتسب على الله أنْ يكفر السنة التي قبله))؛ رواه مسلم.
وقد صامه النبي - صلى الله عليه وسلَّم - تعظيمًا لهذا اليوم، وهو يومٌ مبارك معظم منذ القدم، فاليهود أتباع موسى - عليه السَّلام - كانوا يعظمونه ويصومونه ويتخذونه عيدًا؛ وذلك لأنه اليوم الذي نَجَّى الله فيه موسى - عليه السَّلام - من فرعون وقومه؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح نَجَّى الله فيه بني إسرائيل من عدوِّهم، فصامه موسى"؛ أخرجه البخاري.
وكذلك النصارى كان لهم حظ من تعظيم هذا اليوم؛ بل قريش على وثنيَّتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه؛ تقول عائشة - رضي الله عنها -: "كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهليَّة، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصومه في الجاهلية".
ونحن المسلمين أحقُّ بصيام هذا اليوم من أولئك، فهو يوم نَجَّى الله فيه موسى، فنحن أحق بموسى منهم، فنصومه تعظيمًا له؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
عباد الله:
صوم عاشوراء وإن لم يكن واجبًا باتِّفاق جمهور العلماء، فهو من المستحبات التي ينبغي الحرص عليها، وذلك لما يأتي:
وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه.
ولتحري رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صيامَ هذا اليوم؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما رأيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتحرَّى صومَ يوم فضَّله على غيره إلاَّ هذا اليوم يوم عاشوراء"؛ أخرجه البخاري.
ولأن صيامه يكفر السنة الماضية؛ كما ورد في الحديث.
ولحرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على صيام صبيانِهم ذلك اليوم؛ تعويدًا لهم على الفضل؛ فعن الربيع بنت معوذ قالت: "أرسل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرًا، فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم))، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللُّعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطَّعام، أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار".
ولما ورد عن بعض السَّلف من صيام عاشوراء حتى وهُمْ في السَّفر؛ جاء ذلك عن ابن عباس وأبي إسحاق السبيعي والزهري وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - وكان الزهري يقول: رمضان له عدة من أيَّام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر.
عباد الله:
إن من فضل الله علينا أنْ وهبنا بصيام يوم واحد تكفيرَ ذنوب سنة كاملة، وهذه الذنوب التي يكفرها صيام يوم عاشوراء هي الذُّنوب الصَّغائر فقط، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة وقبولها، كما أشار إلى ذلك العلماء المحقِّقون كابن تيمية وغيره - رحمة الله على الجميع.
واستمعوا - عبادَ الله - إلى الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - وهو يُحذر ممن يتصور أنَّ صيام عرفة وعاشوراء كافٍ في النَّجاة والمغفرة؛ حيث يقول - رحمه الله -: "لم يدرِ هذا المغتر أنَّ صوم رمضان والصَّلوات الخمس أعظمُ وأجلُّ من صيامِ يوم عرفة وعاشوراء، وهي إنَّما تكفر ما بينها إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة لا يَقْوَيان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام تركِ الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصَّغائر.
ومن المغرورين مَن يظنُّ أن طاعته أكثر من معاصيه؛ لأنَّه لا يُحاسب نفسه على سيئاته ولا يتفقد ذنوبه، وإذا عمل طاعةً حفظها واعتبرها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة، ثم يغتاب المسلمين ويُمزِّق أعراضَهم، ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبدًا يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذَّابين والنمامين إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك من محض غرور"، انتهى كلامه - رحمه الله.
عباد الله:
وأمَّا مراتب صيام عاشوراء، فقد ثَبَت أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - صام يوم عاشوراء، وثبت عنه أنَّه قال: ((لئن بقيت إلى قابل، لأصومَنَّ التاسع))، والحديثان في صحيح مسلم.
فصام - عليه الصلاة والسَّلام - اليومَ العاشر فعلاً، وهَمَّ بصيام التاسع، والهم هنا يأتي يحاكي الفعل، فهاتان مرتبتان ثابتتان في السنة: صيام التاسع والعاشر، ففي صيام العاشر إدراك للفضل، وفي صيام التاسع معه تحقيق آكد لمخالفة اليهود، وذهب بعضُ العلماء إلى أن مراتب صيام يوم عاشوراء ثلاث مراتب: صيام التاسع والعاشر، أو صيام العاشر والحادي عشر، أو صيام التاسع والعاشر والحادي عشر، وذهب فريق من العلماء إلى زيادة مرتبة رابعة، وهي صيام العاشر وحده.
وهنا أمر يكثُر السؤال عنه، وهو: ما العمل إذا اشتبه أوَّل الشهر؟ فلم يُدْرَ أيُّ يوم هو العاشر أم التاسع؟ فيقال ما ذكره الإمام أحمد - رحمه الله -: "فإنِ اشتبه عليه أول الشهر، صام ثلاثةَ أيام، وإنَّما يفعل ذلك؛ ليتيقن صوم التاسع والعاشر، فمن لم يعرفْ دخولَ هلال محرم، وأراد الاحتياط للعاشر، بنى على ذي الحجة ثلاثين كما هي القاعدة، ثم صام التاسع والعاشر".
بارك الله لي ولكم في الوَحْيَين...
الخطبة الثانية
عبادَ الله:
مما يتعلق بيوم عاشوراء ما أحدثه بعضُ الناس من البدع فيه، فقد سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - عمَّا يفعله بعض الناس بيوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمُصافحة، وطبخ الحبوب وإظهار السُّرور وغير ذلك، فهل في ذلك عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حديث صحيح؟ وإذا لم يردْ في ذلك حديث صحيح، فهل يكون فعل ذلك بدعة؟ وهل لفعل الطائفة الأخرى من المآتم والحزن والعطش وغير ذلك من الندب والنِّياحة وشق الجيوب، هل لذلك أصل أو لا؟
فأجاب - رحمه الله -: لم يرد في شيء من ذلك حديثٌ صحيح عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا، لا عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا عن الصَّحابة، ولا عن التابعين، لا صحيحًا ولا ضعيفًا.
ثم ذكر - رحمه الله - ملخصًا لما مَرَّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث، ومقتل الحسين - رضي الله عنه - يوم عاشوراء، وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك، فقال - رحمه الله -: فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إمَّا مُلحدة مُنافقة، وإمَّا ضالة غاوية، تظهر موالاته، وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهليَّة من لطم الخدود، وشقِّ الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهليَّة - يشير إلى فعل الروافض - فكل ما زينه الشيطان لأهل الضَّلال والغي من اتِّخاذ يوم عاشوراء مأتمًا، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلاَّ تجديد للحزن والتعصُّب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسُّل بذلك إلى سب السابقين الأولين، ثم ختم كلامه - رحمه الله - بهذه الكلمة: وشر هؤلاء - يعني الروافض - وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يُحصيه الرجل الفصيح في الكلام.
عبادَ الله:
وأمَّا سائر الأمور مثل: اتِّخاذ طعام خارج عن العادة، أو تجديد لباس وتوسيع نفقة، أو شراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فعل عبادة مُختصة - كصلاة مختصة به - أو قصد الذَّبح، أو ادِّخار لحوم الأضاحي؛ ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال، أو الاختضاب، أو الاغتسال، أو التصافح، أو التزاوُر، أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك - فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنَّها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبَّها أحد من أئمة المسلمين.
اللَّهم اجعلنا من أهل سنة نبيك محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأحيِنَا على الإسلام وأمتنا، ثم صلوا - رحمكم الله - على النعمة المسداة.
الشيخ أحمد الفقيهي
مآآآآآآجده
مآآآآآآجده