عباد الله:
إنَّ لكلِّ أمةٍ ثقافتَها وحضارتها التي تتمسك بها، وتربِّي عليها أولادها، ولكلِّ حضارةٍ تاريخها الذي يُبيِّن بدايتها ويوضِّح تجربتها في الحياة، ويميزها عن غيرها من الأمم، ولقد كانت العربُ في جاهليَّتها تؤرِّخ بأيَّامها وأحداثِها الكبار ووقائعِها العظام، واستمرَّ ذلك في حياة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخلافةِ أبي بكر الصدّيقِ، وأوائل خلافةِ عمر الفاروق - رضِي الله عن الجميع - ثمَّ إنَّه مع اتِّساع الخلافةِ توافرتْ أسبابُ البحث عن تأريخٍ يعملُ به المسلمون ويجتمعون عليه؛ لتستقيم لهم شؤون دينهم ودنياهم، وقد تعدَّدت الأسباب التي يُروى أنَّ الخليفة عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - بدأ كتابة التَّاريخ لأجلها، ولا مانع من وقوعها جميعًا؛ إذ لا تعارُض بينها، فتكونُ كلُّها أسبابًا لبداية التأريخ عند المسلمين.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية": رُفع إلى عمرَ بن الخطاب صكٌّ مكتوبٌ عليه دينٌ لرجلٍ على رجلِ، ويحلُّ الدَّينُ في شعبان، فقال عمرُ - رضِي الله عنه -: أيُّ شعبانَ؟ أمن هذه السنة؟ أم التي قبلَها؟ أم التي بعدَها؟ ثمَّ جمع الناسَ فقال: ضعوا للنَّاس شيئًا يعرفونَ فيه حلولَ ديونِهم.
وجاء أيضًا في سبب البدء بالتاريخ الهجري: أنَّ أبا موسى الأشعريَّ كتبَ إلى عمرَ - رضي الله عنْهما - أنَّه يأتينا منك كُتبٌ ليسَ لها تأريخٌ، فجمع عمر الناس للمشورة فاستشارهم، فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرِّخ الفرسُ بملوكها، كلَّما هلكَ ملِكٌ أرَّخوا بولايةِ مَن بعده، فكرهَ الصَّحابة ذلك، وقال آخرون: بل أرِّخوا بتاريخ الرُّوم، فكرِهوا ذلكَ أيضًا، ثمَّ رأَوا أن يكون تاريخُ المسلمين مرتبطًا بِهادي البشريَّة محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال البعض: مِن عام مولده، وقال غيرهم: بل بِمبعثه، ورأى آخَرون من وفاته، قال ابن الجوزي - رحمه الله -: لم يؤرِّخوا بالبعث لأنَّ في وقتهِ خلافًا، ولا من وفاتِه لما في تذكُّره من الألم". اهـ.
أيُّها المسلمون:
مال عمرُ الفاروق - رضِي الله عنْه - إلى التاريخ بالهجرة لأنَّها فرَّقت بين الحق والباطلِ، ثمَّ تشاور الصَّحابة - رضوان الله عنهم - من أيِّ شهرٍ يكون ابتداء السنةِ، فقال بعضهم: من شهر رمضان لأنَّه الَّذي فيه أُنزل القرآن، وقال آخرون: بل من ربيع الأوَّل وقت مهاجرهِ، واختار عمرُ وعثمانُ وعليٌّ - رضي الله عنْهم - أن يكون ابتداءُ السنةِ من المحرَّمِ؛ لأنَّه شهرٌ حرامٌ يلي شهر ذي الحجَّة الذي يؤدِّي المسلِمون فيه حجَّهم الَّذي به تمام أرْكان دينِهم، ولأنَّ ابتِداء العزْم على الهجرةِ كان فيه؛ إذِ البيعةُ كانت في ذي الحجَّةِ، وهي مقدّمة للهجرةِ، وأوَّل هلالٍ هلَّ بعدَها المحرَّم، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من شهر المحرَّم.
وقد ذكر بعض العُلماء أنَّ في القرآن الكريم إشارةً إلى ابتِداء التَّاريخ الإسلامي بالهجرة، وذلك في قول الله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التَّوبة: 108].
ففي قوله: "من أوَّل يوم" إشارة إلى أنَّ ذلك اليوم ينبغي أن يكون هو أوَّل أيَّام التَّاريخ عند المسلمين، وهو ما فهِمه الصَّحابة - رضِي الله عنْهم - فجعلوا ابتداء التَّاريخ الإسلامي من هجرة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أيها المسلمون:
إنَّ من نعمةِ الله على عباده، ورحمتِه بهم أن جعل معرِفة السنين والشهور مرتبطًا بسَير القمر وتنقُّله في منازله؛ لأنه علامةٌ في السَّماء ظاهرةٌ وبيِّنةٌ، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب، فمتى رُئِي الهلال من أوَّل اللَّيل دخل الشَّهر الجديد وخرجَ الشَّهر السَّابق، وهكذا يعرفُ الناس مواقيتَ عبادتِهم، وتواريخ أيَّامِهم؛ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، قال تقي الدين - رحِمه الله -: "فأخبر أنَّها مواقيتُ للناسِ، وهذا عامٌّ في جميع أمورِهم". اهـ.
عباد الله:
لقد كان اليهود والنَّصارى يعتمِدون سابقًا في تأريخهم وتقويمهم على التَّقويم القمري المتمثِّل في التأريخ الهجْري، ثمَّ مع مرور الأيَّام حرَّفوا وبدَّلوا من تلقاءِ أنفُسِهم؛ قال شيخ الإسلام - رحِمه الله -: "وقد بلغني أنَّ الشَّرائع قبلنا أيضًا إنَّما علَّقَت الأحكام بالأهلَّةِ، وإنما بدَّل من بدَّل من أتباعهِم، وما جاءت به الشريعةُ هو أكملُ الأمور وأحسنها وأبْينها وأصحُّها وأبعدُها عن الاضطرابِ".
أيُّها المسلمون:
إنَّ مما يجهلهُ البعض أنَّ التأريخ الميلادي مرتبطٌ بدينَين باطلين، أوَّلهُما: النَّصرانيَّة؛ حيث جعلوا بداية التَّأريخ النَّصراني من أوَّل السنة الميلاديَّة؛ نسبةً إلى ميلاد المسيح - عليه السلام - ويكون بدايةُ العام عندهم من الأوَّل من شهر يناير، وهو يوم ختان المسيح - عليه السلام - وهذا التَّاريخ والتقويم تمَّ باختلاقٍ من قِبَل بعض الملوك والرُّهبان النصارى، وقد أقرَّ بعضُ الباحثين النَّصارى بخطأ ذلك.
وأمَّا الدين الآخر الَّذي ارتبط به هذا التَّأريخ، فهو وثنيَّة الرومان؛ وذلك أنَّ الأشهُر الميلاديَّة الَّتي تتكوَّن منها السَّنة عندهم تعود في الأصْل لتمجيد اثني عشر إلهًا مزعومًا من آلهة الرومان، كما تعود إلى تَمجيد قادة من قوَّاد الرومان، وعلى سبيل المثال لا الحصرِ: شهر (يناير) اسمٌ لإلهِهِم يانوس وهو إله الشَّمس، وشهر (مارس) اسم لإله الحرْب وحامي الرومانيين عندهم، أمَّا شهرا يوليو وأغسطس فهُما اسمان لقائدَين من قوَّاد الرومان.
عباد الله:
إنَّ التأريخ الميلادي والشهور الإفرنجيَّة نتاجُ عملٍ بشريٍّ خالصٍ مولودٍ في بيئة رومانيَّةٍ، وحضانةٍ نصرانيَّةٍ، نشأ برعاية القياصرةِ وتعديلات البابوات والرهبان، غير مبنيٍّ على حسابٍ علمي صحيحٍ، بعضُها واحدٌ وثلاثون يومًا، وبعضها ثمانية وعِشرون يومًا، وبعضُها بين ذلك، ولا يُعلم لهذا الاختلاف من سبب حقيقي محسوسٍ أو معقولٍ؛ ولهذا طرحت في الآونةِ الأخيرة مشروعاتٌ لتغْيير هذه الأشهر على وجهٍ ينضبط، لكنَّها عورضت من قِبَل الكنيسة والرهبان تعصبًا لباطلهم وتقليدًا لجهَّالِهم.
أيُّها المسلمون:
أمَّا التقويم الهجري فهو هويَّة أمَّةٍ، وتاريخ حضارةٍ امتدَّت عبر أربعة عشر قرنًا من الزَّمان، لم نكن نؤرِّخ فيها إلاَّ بهذا التأريخ، ومن هنا ارتبطتْ أمجادُنا وأيَّامنا ومآثرنا بهذا التأريخ الَّذي تحوَّلْنا عنه إلى غيرهِ؛ نتيجةً لأحوالنا وأوضاعنا، وأثرًا من آثار الغزو الفكري الذي امتدَّ في بلداننا.
عباد الله:
لقد حرَص الأعداءُ بشتَّى صنوفهم - الكافرون والمشركون والمنافقون والعلمانيون - على عزْل الأمَّة عن تاريخها، وتجْهيل الشُّعوب الإسلامية به قرونًا متواليةً، ففي القرْن الثاني عشر الهجري أرادت الدَّولة العثمانيَّة تَحديث جيشها وسلاحها، فطلبت مساعدة الدولِ الأوروبية العظمى فوافقت على مساعدتها بشروطٍ، منها: إلغاء التقْويم الهجري في الدَّولة العثمانيَّة، فأذعنت لضغوطها، وفي القرْن الثالث عشر الهجري أراد خديوي مصر أن يستقْرِض مبلغًا من الذَّهب من بعض الدُّول الأوربيَّة لتغطية مصاريف قناةِ السُّويس، وافقوا مقابلَ ستَّة شروطٍ، منها: إلغاء التقويم الهجري في مصر، فتمَّ إلغاؤه سنة 1292هـ، واستبدلَ به التقويم الميلادي.
عباد الله:
يا للعَجَب الَّذي لا ينقضي ممَّن يترك هذا الشَّرع القويم في باب التاريخ، وهو يرى أمَّة اليهود لا تزال تؤرِّخُ بتاريخها، وأمَّة النَّصارى تؤرِّخُ بتاريخها مع ما في تاريخِهم من اختلالٍ علميٍّ ودينيٍّ! فما بال فئامٍ من المسلمين أبتْ إلاَّ التشبُّه بالنَّصارى واليهود حتى في تأْريخهم؟! ولو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلوه وراءَهم؛ كما أخبر بذلك المصطفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
الخطبة الثانية
أيُّها المسلمون:
العمل بالتاريخ الهجْري دين يتقرَّب به العبد إلى ربِّه؛ لارتباطِه بالهلالِ الَّذي ترتبِط به الكثير من العبادات، وبتجاهُل التاريخ الهجري تَضييع المعالم الشرعيَّة والشَّعائر العباديَّة، فلا يدري المسلم مثلاً: ما الأشهُر الحرمُ الَّتي أوْجب الله على المؤمنين احترامَها؟ ولا يعلم أشْهُر الحجِّ ومواسم العبادة، وهذا التَّاريخ الهجري أجمعَ الصَّحابةُ عليه، ولا تجتمع الأُمَّة على ضلالةٍ، ويُلاحظ في اجتماع الصَّحابةِ - رضوان الله عليهم - أنَّهم ربطوه بيومِ الهجرة العظيمة وكرِهوا تواريخ الأُمم الأخرى، ومن ضمْنِها التاريخ الميلادي، وهذا الإجْماع منهم على اختِيار الهجرة درسٌ في الاعتزاز بالمبادئ، حتَّى يعلم كلُّ مسلمٍ أنَّ التَّابع محتقرٌ دائمًا، معدودٌ في ذيْل القائمة، وأنَّ المعتزَّ بمبدئهِ الَّذي لا يقبل فيه مساومةً محترمٌ حتَّى من الأعداء.
عباد الله:
إنَّ التَّأريخ بالتَّاريخ الميلادي فيه تشبُّهٌ وتقليدٌ للكفَّار وتبعيَّةٌ لهم، وهذا إثمٌ عظيمٌ وذنبٌ كبير، وقد قال تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((ليس منَّا مَن تشبَّه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود والنَّصارى))، وقد نَهى العُلماء عن تسميةِ الشُّهور بالأسماء الأعجميَّة، سُئِل الإمام أحمد - رحمه الله - فقيل له: إنَّ للفرس أيَّامًا وشهورًا يسمُّونَها بأسماءٍ لا تُعرف، فكره ذلك أشدَّ الكراهيةِ.
وبناءً على ما سبق؛ فاستِخْدام التاريخ الميلادي بمفْردِه دون غيره محرَّم، ومن اضطرَّ إلى استخدامه، فإن أمكنه أن يُضيفَ إلى التَّاريخ الميلادي ما يُقابله بالتَّاريخ الهجري وجبَ عليْه ذلك؛ حفاظًا على شعار الأمَّة الإسلاميَّة وتخفيفًا من المفسدةِ الواقعة بالأخْذ بالتَّاريخ الميلادي، والقاعِدة الشرعيَّة تنصُّ على أنَّه: إذا لم يمكن قطْع المفسدةِ جملةً بأسبابِها ودواعيها، فإنَّ التَّقليل من آثارِها والحدّ من انتشارها مطلوبٌ، وهو من مقاصد الشَّرعِ المطهَّر، وأمَّا إذا كان نظام البلد يَمنع من الإشارة للتَّقويم الهجْري، فيجب على الأفْراد بذْل ما يستطيعون من الإنكار والنُّصْح ومراعاة الأمور، والموازنة بين المصالِح والمفاسد، حتَّى يكشف الله الغمَّة، والله نسأل أن يردَّ الأمَّة إلى رشْدِها، ويعيد إليْها عزَّها ومجدها، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
ثمَّ صلُّوا - رحِمكم الله - على هادي البشريَّة محمَّد بن عبدالله.
إنَّ لكلِّ أمةٍ ثقافتَها وحضارتها التي تتمسك بها، وتربِّي عليها أولادها، ولكلِّ حضارةٍ تاريخها الذي يُبيِّن بدايتها ويوضِّح تجربتها في الحياة، ويميزها عن غيرها من الأمم، ولقد كانت العربُ في جاهليَّتها تؤرِّخ بأيَّامها وأحداثِها الكبار ووقائعِها العظام، واستمرَّ ذلك في حياة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخلافةِ أبي بكر الصدّيقِ، وأوائل خلافةِ عمر الفاروق - رضِي الله عن الجميع - ثمَّ إنَّه مع اتِّساع الخلافةِ توافرتْ أسبابُ البحث عن تأريخٍ يعملُ به المسلمون ويجتمعون عليه؛ لتستقيم لهم شؤون دينهم ودنياهم، وقد تعدَّدت الأسباب التي يُروى أنَّ الخليفة عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - بدأ كتابة التَّاريخ لأجلها، ولا مانع من وقوعها جميعًا؛ إذ لا تعارُض بينها، فتكونُ كلُّها أسبابًا لبداية التأريخ عند المسلمين.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية": رُفع إلى عمرَ بن الخطاب صكٌّ مكتوبٌ عليه دينٌ لرجلٍ على رجلِ، ويحلُّ الدَّينُ في شعبان، فقال عمرُ - رضِي الله عنه -: أيُّ شعبانَ؟ أمن هذه السنة؟ أم التي قبلَها؟ أم التي بعدَها؟ ثمَّ جمع الناسَ فقال: ضعوا للنَّاس شيئًا يعرفونَ فيه حلولَ ديونِهم.
وجاء أيضًا في سبب البدء بالتاريخ الهجري: أنَّ أبا موسى الأشعريَّ كتبَ إلى عمرَ - رضي الله عنْهما - أنَّه يأتينا منك كُتبٌ ليسَ لها تأريخٌ، فجمع عمر الناس للمشورة فاستشارهم، فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرِّخ الفرسُ بملوكها، كلَّما هلكَ ملِكٌ أرَّخوا بولايةِ مَن بعده، فكرهَ الصَّحابة ذلك، وقال آخرون: بل أرِّخوا بتاريخ الرُّوم، فكرِهوا ذلكَ أيضًا، ثمَّ رأَوا أن يكون تاريخُ المسلمين مرتبطًا بِهادي البشريَّة محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال البعض: مِن عام مولده، وقال غيرهم: بل بِمبعثه، ورأى آخَرون من وفاته، قال ابن الجوزي - رحمه الله -: لم يؤرِّخوا بالبعث لأنَّ في وقتهِ خلافًا، ولا من وفاتِه لما في تذكُّره من الألم". اهـ.
أيُّها المسلمون:
مال عمرُ الفاروق - رضِي الله عنْه - إلى التاريخ بالهجرة لأنَّها فرَّقت بين الحق والباطلِ، ثمَّ تشاور الصَّحابة - رضوان الله عنهم - من أيِّ شهرٍ يكون ابتداء السنةِ، فقال بعضهم: من شهر رمضان لأنَّه الَّذي فيه أُنزل القرآن، وقال آخرون: بل من ربيع الأوَّل وقت مهاجرهِ، واختار عمرُ وعثمانُ وعليٌّ - رضي الله عنْهم - أن يكون ابتداءُ السنةِ من المحرَّمِ؛ لأنَّه شهرٌ حرامٌ يلي شهر ذي الحجَّة الذي يؤدِّي المسلِمون فيه حجَّهم الَّذي به تمام أرْكان دينِهم، ولأنَّ ابتِداء العزْم على الهجرةِ كان فيه؛ إذِ البيعةُ كانت في ذي الحجَّةِ، وهي مقدّمة للهجرةِ، وأوَّل هلالٍ هلَّ بعدَها المحرَّم، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من شهر المحرَّم.
وقد ذكر بعض العُلماء أنَّ في القرآن الكريم إشارةً إلى ابتِداء التَّاريخ الإسلامي بالهجرة، وذلك في قول الله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التَّوبة: 108].
ففي قوله: "من أوَّل يوم" إشارة إلى أنَّ ذلك اليوم ينبغي أن يكون هو أوَّل أيَّام التَّاريخ عند المسلمين، وهو ما فهِمه الصَّحابة - رضِي الله عنْهم - فجعلوا ابتداء التَّاريخ الإسلامي من هجرة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أيها المسلمون:
إنَّ من نعمةِ الله على عباده، ورحمتِه بهم أن جعل معرِفة السنين والشهور مرتبطًا بسَير القمر وتنقُّله في منازله؛ لأنه علامةٌ في السَّماء ظاهرةٌ وبيِّنةٌ، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب، فمتى رُئِي الهلال من أوَّل اللَّيل دخل الشَّهر الجديد وخرجَ الشَّهر السَّابق، وهكذا يعرفُ الناس مواقيتَ عبادتِهم، وتواريخ أيَّامِهم؛ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، قال تقي الدين - رحِمه الله -: "فأخبر أنَّها مواقيتُ للناسِ، وهذا عامٌّ في جميع أمورِهم". اهـ.
عباد الله:
لقد كان اليهود والنَّصارى يعتمِدون سابقًا في تأريخهم وتقويمهم على التَّقويم القمري المتمثِّل في التأريخ الهجْري، ثمَّ مع مرور الأيَّام حرَّفوا وبدَّلوا من تلقاءِ أنفُسِهم؛ قال شيخ الإسلام - رحِمه الله -: "وقد بلغني أنَّ الشَّرائع قبلنا أيضًا إنَّما علَّقَت الأحكام بالأهلَّةِ، وإنما بدَّل من بدَّل من أتباعهِم، وما جاءت به الشريعةُ هو أكملُ الأمور وأحسنها وأبْينها وأصحُّها وأبعدُها عن الاضطرابِ".
أيُّها المسلمون:
إنَّ مما يجهلهُ البعض أنَّ التأريخ الميلادي مرتبطٌ بدينَين باطلين، أوَّلهُما: النَّصرانيَّة؛ حيث جعلوا بداية التَّأريخ النَّصراني من أوَّل السنة الميلاديَّة؛ نسبةً إلى ميلاد المسيح - عليه السلام - ويكون بدايةُ العام عندهم من الأوَّل من شهر يناير، وهو يوم ختان المسيح - عليه السلام - وهذا التَّاريخ والتقويم تمَّ باختلاقٍ من قِبَل بعض الملوك والرُّهبان النصارى، وقد أقرَّ بعضُ الباحثين النَّصارى بخطأ ذلك.
وأمَّا الدين الآخر الَّذي ارتبط به هذا التَّأريخ، فهو وثنيَّة الرومان؛ وذلك أنَّ الأشهُر الميلاديَّة الَّتي تتكوَّن منها السَّنة عندهم تعود في الأصْل لتمجيد اثني عشر إلهًا مزعومًا من آلهة الرومان، كما تعود إلى تَمجيد قادة من قوَّاد الرومان، وعلى سبيل المثال لا الحصرِ: شهر (يناير) اسمٌ لإلهِهِم يانوس وهو إله الشَّمس، وشهر (مارس) اسم لإله الحرْب وحامي الرومانيين عندهم، أمَّا شهرا يوليو وأغسطس فهُما اسمان لقائدَين من قوَّاد الرومان.
عباد الله:
إنَّ التأريخ الميلادي والشهور الإفرنجيَّة نتاجُ عملٍ بشريٍّ خالصٍ مولودٍ في بيئة رومانيَّةٍ، وحضانةٍ نصرانيَّةٍ، نشأ برعاية القياصرةِ وتعديلات البابوات والرهبان، غير مبنيٍّ على حسابٍ علمي صحيحٍ، بعضُها واحدٌ وثلاثون يومًا، وبعضها ثمانية وعِشرون يومًا، وبعضُها بين ذلك، ولا يُعلم لهذا الاختلاف من سبب حقيقي محسوسٍ أو معقولٍ؛ ولهذا طرحت في الآونةِ الأخيرة مشروعاتٌ لتغْيير هذه الأشهر على وجهٍ ينضبط، لكنَّها عورضت من قِبَل الكنيسة والرهبان تعصبًا لباطلهم وتقليدًا لجهَّالِهم.
أيُّها المسلمون:
أمَّا التقويم الهجري فهو هويَّة أمَّةٍ، وتاريخ حضارةٍ امتدَّت عبر أربعة عشر قرنًا من الزَّمان، لم نكن نؤرِّخ فيها إلاَّ بهذا التأريخ، ومن هنا ارتبطتْ أمجادُنا وأيَّامنا ومآثرنا بهذا التأريخ الَّذي تحوَّلْنا عنه إلى غيرهِ؛ نتيجةً لأحوالنا وأوضاعنا، وأثرًا من آثار الغزو الفكري الذي امتدَّ في بلداننا.
عباد الله:
لقد حرَص الأعداءُ بشتَّى صنوفهم - الكافرون والمشركون والمنافقون والعلمانيون - على عزْل الأمَّة عن تاريخها، وتجْهيل الشُّعوب الإسلامية به قرونًا متواليةً، ففي القرْن الثاني عشر الهجري أرادت الدَّولة العثمانيَّة تَحديث جيشها وسلاحها، فطلبت مساعدة الدولِ الأوروبية العظمى فوافقت على مساعدتها بشروطٍ، منها: إلغاء التقْويم الهجري في الدَّولة العثمانيَّة، فأذعنت لضغوطها، وفي القرْن الثالث عشر الهجري أراد خديوي مصر أن يستقْرِض مبلغًا من الذَّهب من بعض الدُّول الأوربيَّة لتغطية مصاريف قناةِ السُّويس، وافقوا مقابلَ ستَّة شروطٍ، منها: إلغاء التقويم الهجري في مصر، فتمَّ إلغاؤه سنة 1292هـ، واستبدلَ به التقويم الميلادي.
عباد الله:
يا للعَجَب الَّذي لا ينقضي ممَّن يترك هذا الشَّرع القويم في باب التاريخ، وهو يرى أمَّة اليهود لا تزال تؤرِّخُ بتاريخها، وأمَّة النَّصارى تؤرِّخُ بتاريخها مع ما في تاريخِهم من اختلالٍ علميٍّ ودينيٍّ! فما بال فئامٍ من المسلمين أبتْ إلاَّ التشبُّه بالنَّصارى واليهود حتى في تأْريخهم؟! ولو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلوه وراءَهم؛ كما أخبر بذلك المصطفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
الخطبة الثانية
أيُّها المسلمون:
العمل بالتاريخ الهجْري دين يتقرَّب به العبد إلى ربِّه؛ لارتباطِه بالهلالِ الَّذي ترتبِط به الكثير من العبادات، وبتجاهُل التاريخ الهجري تَضييع المعالم الشرعيَّة والشَّعائر العباديَّة، فلا يدري المسلم مثلاً: ما الأشهُر الحرمُ الَّتي أوْجب الله على المؤمنين احترامَها؟ ولا يعلم أشْهُر الحجِّ ومواسم العبادة، وهذا التَّاريخ الهجري أجمعَ الصَّحابةُ عليه، ولا تجتمع الأُمَّة على ضلالةٍ، ويُلاحظ في اجتماع الصَّحابةِ - رضوان الله عليهم - أنَّهم ربطوه بيومِ الهجرة العظيمة وكرِهوا تواريخ الأُمم الأخرى، ومن ضمْنِها التاريخ الميلادي، وهذا الإجْماع منهم على اختِيار الهجرة درسٌ في الاعتزاز بالمبادئ، حتَّى يعلم كلُّ مسلمٍ أنَّ التَّابع محتقرٌ دائمًا، معدودٌ في ذيْل القائمة، وأنَّ المعتزَّ بمبدئهِ الَّذي لا يقبل فيه مساومةً محترمٌ حتَّى من الأعداء.
عباد الله:
إنَّ التَّأريخ بالتَّاريخ الميلادي فيه تشبُّهٌ وتقليدٌ للكفَّار وتبعيَّةٌ لهم، وهذا إثمٌ عظيمٌ وذنبٌ كبير، وقد قال تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((ليس منَّا مَن تشبَّه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود والنَّصارى))، وقد نَهى العُلماء عن تسميةِ الشُّهور بالأسماء الأعجميَّة، سُئِل الإمام أحمد - رحمه الله - فقيل له: إنَّ للفرس أيَّامًا وشهورًا يسمُّونَها بأسماءٍ لا تُعرف، فكره ذلك أشدَّ الكراهيةِ.
وبناءً على ما سبق؛ فاستِخْدام التاريخ الميلادي بمفْردِه دون غيره محرَّم، ومن اضطرَّ إلى استخدامه، فإن أمكنه أن يُضيفَ إلى التَّاريخ الميلادي ما يُقابله بالتَّاريخ الهجري وجبَ عليْه ذلك؛ حفاظًا على شعار الأمَّة الإسلاميَّة وتخفيفًا من المفسدةِ الواقعة بالأخْذ بالتَّاريخ الميلادي، والقاعِدة الشرعيَّة تنصُّ على أنَّه: إذا لم يمكن قطْع المفسدةِ جملةً بأسبابِها ودواعيها، فإنَّ التَّقليل من آثارِها والحدّ من انتشارها مطلوبٌ، وهو من مقاصد الشَّرعِ المطهَّر، وأمَّا إذا كان نظام البلد يَمنع من الإشارة للتَّقويم الهجْري، فيجب على الأفْراد بذْل ما يستطيعون من الإنكار والنُّصْح ومراعاة الأمور، والموازنة بين المصالِح والمفاسد، حتَّى يكشف الله الغمَّة، والله نسأل أن يردَّ الأمَّة إلى رشْدِها، ويعيد إليْها عزَّها ومجدها، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
ثمَّ صلُّوا - رحِمكم الله - على هادي البشريَّة محمَّد بن عبدالله.
الشيخ أحمد الفقيهي
مجووووووده
مجووووووده