كُلَّمَا مَرَّ زَمَانٌ وَمُحَيَّاهُ تَجَدَّدْ وَرَأَيْنَا مِنْ يَهُودٍ أَسْوَدًا مِنْ بَعْدِ أَسْوَدْ وَوُجُوهًا لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ مَمْسُوخٍ وَأنْكَدْ ذَكَّرَ الأَطْرَفُ مِنْهُ إِذْ رَأَيْنَاهُ بِأَتْلَدْ فَصَرَخْنَا فِي احْتِرَاقٍ: يَا لَثَارَاتِ مُحَمَّدْ |
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ناصر المظلومين، وقاصم المتجبِّرين، والصلاةُ والسلام على سيدنا ونبينا محمدٍ النازل عليه في سورة "المؤمنون": {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
بعدُ:
فإنَّ هذه الصفحات غايةُ المستطاع، وجهدُ المقلِّ - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - في سبيل تأدية واجبٍ لا يتبدلُ ولا يتغير ما تعاقب الليلُ والنهار، وتتالت السُّنون، لَزِمَ في عُنُقِ كلِّ مسلمٍ تجاه قضية الصراع الإسلامي العربي - اليهوديّ الصهيوني.
ولقد اتخذتُ من ذكرى الفاجعة الأليمة من عدوان الصهاينة الفجَّارِ على قطاع غزة العامَ الماضي منطلقًا لعملٍ، فكرتُه التذكير الدائم والمستمر لأبناء هذه الأمة بحقيقة هذا العدوّ الأثيم؛ خصوصًا وأنَّ المسلمين والعرب يتعرضون لعملية إنساءٍ وإلهاءٍ مدروسةٍ ومنظمة ومُمنهجة.
فكان الواجبُ أن يُنهضَ إلى مُحاربة أولئكم الأعداء وأذنابِهم بسلاحهم، ومقارعتهم بأدواتِهم، أفما قال الأولون: "لا يفُلُّ الحديدَ إلا الحديد"؟
والذي نويتُهُ - يسَّرَ الله تعالى لي وللمسلمين مَحابَّهُ وسبل مرضاتِه - أن يكون لهذا التذكار إصدار سنويٌّ في ذكرى هذه الفاجعة الأليمة، ينبثقُ شعاعُهُ من موْقعٍ إلكترونيٍّ إسلاميٍّ كبير؛ هو هذا الموقعُ الطيب "موقع الألوكة".
ولقد ضمّ هذا الإصدارُ أربعَ موادَّ، وسمّيتُهُ باسمِ قصيدةٍ هي إحدى فقراته.
وإنني أدعو كلّ أخٍ يرغَبُ بالمشاركة في إثراءِ هذا العمل في إصداراته التالية إلى شدِّ العضُد؛ ليكبُرُ هذا المشروعُ (الألوكيُّ) عامًا بعد عام.
وأسأل اللهَ - تعالى في جلالِه - أن يُقرَّ أعيُنَ المسلمين، ويشفيَ صدورَهم بالقضاء على ذلك الكيان الفاجِر الغاصب، وأن يأذنَ بتطهير أرضِ فِلَسْطين الأبيّةِ مِن أرجاسِهم وأدناسِهم؛ إنه قريبٌ مجيب.
والذي أذكرُهُ ختامًا:
إنه مِن حقِّ كلِّ مسلمٍ أن يأخذ مادةَ هذا العمل اليسير - أكبرها الله تعالى بالقَبول الحسن - فينشُرَها حيثُ شاءَ، ناصرًا مجاهدي هذه الأمةِ الأبرار، لا منتفعًا بذلك بشيءٍ من حطام الدنيا.
عقيدة القتل عند اليهود
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن ما رآه العالَم مِن أحداثٍ دموية، وجرائم بربرية، اقترفتْها أيدي الصهاينة بحقِّ أهلنا الصامدين في غزة - إنما هي أفعالٌ ناجمةٌ عن مبادئ عقدية، ودوافع دينية، وثمرات للنبْتِ اليهودي النامي من جذور تَوْرَاتِية وتلْمُودية، افتراها قتَلَة الأنبياء وصدَّقوها، وصارتْ نبراسًا لأجيالهم، ومنطلَقًا لأفعالهم، فهم - كما يأفكون - شعبُ الله المختار، وأبناء الله، وما عداهم حيواناتٌ في صوَرٍ آدمية، خُلقوا لخدْمتهم، لا إنسانية فيهم، ولا حُرمة لهم، ولا قيمة لأرواحهم ولا لدمائهم.
فقد حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
وقد ورد في توراتهم الباطلة: أنتم أولادٌ للرب إلهِكم.
وقال عنهم القرآن الكريم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].
وقد افترَوا في التوراة عن أفْضليتهم:
• ولكن الرب إنما التصق بآبائك ليحبهم، فاختار مِن بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب.
• حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.
ونسبوا إلى النبي حزقيال:
لا تشفق أعينكم، ولا تعفوا عن الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء، واقتلوا للهلاك.
وقالت توراتهم: العدْل أن يقتل اليهودي بيده كافرًا؛ لأن مَن يسفك دم الكافر يقدِّم قربانًا لله.
وجاء في سفر إرميا:
ومَلعونٌ مَنْ يَمنَعُ سَيفَهُ عَنِ الدَّمِ.
وجاء في سفر يشوع:
وأخذوا المدينة وحرموا كل ما في المدينة - أي: قتلوهم - من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف.
وجاء في سفر التثنية:
وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضربْ جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدُن البعيدة منك جدًّا التي ليستْ في مدن هؤلاء الأمم هنا، أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا، فلا تستبقِ منهم نسمةً، بل تُحرِّمها تحريمًا: الحثيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، كما أمرَك الربُّ إلهك.
وجاء في سفر التثنية:
فضَرْبًا تضربُ سُكانَ تلكَ المدينةِ بحدِّ السيفِ وتُحرِّمُها بكلِّ ما فيها مع بهائمها بحدِّ السيفِ، واجْمَع كل أمتعتها إلى وسطِ ساحتها، وتحرق بالنارِ المدينة وكل أمتعتها كاملةً للرب إلهِكَ، فتكون تلاًّ إلى الأبدِ لا تُبنى بعدُ.
وجاء في سفر صموئيل الأول:
فالآن، اذهَبْ واضرِبْ عَماليق، وحَرِّمُوا كُلَّ ما له، ولا تَعْفُ عنهم، بلِ اقْتُلْ رَجُلاً وامرأةً، طفلاً ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملاً وحمارًا.
خلال أحداث غزة:
أفتى الحاخام يسرائيل روزين رئيس معهد "تسوميت": أنه يجب تطبيق حكم "عملاق"، على كل من تعتمل كراهية إسرائيل في نفسه، ويصرح بتحديد "عملاق هذا العصر"، بقوله: إنهم الفِلَسْطينيون.
ويقول: مَن يقتل الطلاب وهم يتلون التوراة، ويطلق الصواريخ على مدينة سديروت فيثير الفزع في نفوس الرجال والنساء، مَن يرقص على الدماء، هو عملاق، يجب أن نرد عليه بكراهية مضادة، وعلينا أن ننْزع أي أثر للإنسانية في تعامُلنا معه، حتى ننتصر.
وقد أيَّد عدد من كبار الحاخامات فتوى ذلك الحاخام المجرِم:
• منهم: الحاخام مردخاي إلياهو الذي يعد المرجعية الدِّينية الأولى للتيار الديني القومي في الكيان العبري، والذي شغل في الماضي منصب الحاخام الشرقي الأكبر، يؤيِّد تطبيق الحكم، بل إنه دائمًا يشير إلى إحدى العبارات التي وردتْ في الحكم، وتقول: "اذكر عدوك وأبِدْهُ".
• والحاخام شلوموا إلياهو، الحاخام الأكبر لمدينة صفد، الذي كتب مقالاً مؤيدًا لتطبيق حكم "العماليق"؛ حيث قال: "لا توجد أي مشكلة أخلاقية في سحْق الأشرار".
• والحاخام دوف ليئور، رئيس مجلس حاخامات المستوطنات في الضفة الغربية، فيقول قاصدًا الفلسطينيين: "كل مَن يريد تدمير إسرائيل، يجب تطبيق حكم عملاق فيه".
• وأما الحاخام أوري لبيانسكي رئيس المجلس البلدي اليهودي في القدس المحتلة، فقد قال في كلمته في جنازة طلاب المدرسة الدينية الذين قتلوا في عملية إطلاق النار، التي نفَّذَها الشهيد علاء أبو دهيم: إنه يستذكر اللحظات التي سبقت صدور حكم التوراة في العماليق.
إلا أنَّ الحاخام اليعازر الهارستون، مدير المدرسة الدينية في مدينة حولون، قال: إنه من ناحية عملية لن يكون بوسع اليهود قتل الأطفال والعجائز والنساء؛ (إذًا لدوافع عملية، لا لدوافع إنسانية).
• وقبل تلك الفتوى بأشهر دعا مجلس الحاخامات في فلَسطين المحتلة الحكومة اليهودية إلى إصدار الأوامر بقتْل المدنيين في غزة، مشيرًا إلى أن "التوراة" تجيز قتل الأطفال والنساء في زمن الحرب.
وهذه أقوال لبعض شياطينهم:
قال الحاخام الأكبر للكيان اليهودي "إبراهام شابير"، في رسالة وجَّهها لمؤتمر شبابي يهودي عُقد في "بروكلين" في الولايات المتحدة:
نريد شبابًا يَهُوديًّا قويًّا أو شديدًا، نريد شبابًا يهوديًّا يُدرك أنَّ رسالته الوحيدة هي تطْهير الأرض منَ المسلمين الذين يُريدون منازعتنا في أرض الميعاد، يجب أن تثبتوا لهم أنكم قادرون على اجتثاثهم من الأرض، يجب أن نتخلَّص منهم كما يتم التخلص من الميكروبات والجراثيم.
وصرح الحاخام "مردخاي إلياهو"، الحاخام الشرقي الأكبر للكيان اليهودي سابقًا، في خطاب أمام عدد من منتسبي المدارس الدينية العسكرية:
لنا أعداء كثيرون، وهناك مَن يتربَّص بنا، وينتظر الفرصة للانقضاض علينا، وهؤلاء بإمكاننا - عبر الإجراءات العسكرية - أن نواجههم، لكن ما لا نستطيع مواجهته هو ذلك الكتاب الذي يسمونه "قرآنًا"، هذا عدونا الأوْحد، هذا العدو لا تستطيع وسائلُنا العسكرية مُواجهته.
وقال الحاخام "إسحاق بيريتس" أمام عدد من المجندين الجدد:
إذا استمر ارتفاع الأذان الذي يدعو المسلمين للصلاة كل يوم خمس مرات في القاهرة وعمان والرباط، فلا تتحدثوا عن السلام.
وجاء في كتيبٍ نشرتْه قيادة المنطقة الوسطى في الجيش اليهودي عام 1973م:
ينبغي عدم الثقة بالعربي في أيِّ ظرف من الظروف، حتى وإن أعطى انطباعًا بأنه متَمدِّن، ففي الحرب يسمح لقواتنا وهي تهاجم العدو بل إنها مأمورة "بالهالاخاه" (وهو النظام القانوني لليهودية الحاخامية، المستمدة منَ التلْمود البابلي) - بقتْل حتى المدَنيين الطيبين.
وأفتى الكولونيل الحاخام أ. افيدان زيميل في كتاب "طهارة السِّلاح في ضوء الهالاخاه":
بأن اليهودي الذي يقتل أحد الأغيار يكون قد ارتكب معصية غير قابلة لعقوبةٍ صادرة عن مَحْكمة.
وأما الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس اليهودي الشرقي، فقد قال عن العرب:
إنهم أسوأ من الثعابين، إنهم أفاعٍ سامة.
وقال: هؤلاء الأشرار العرب تقول النصوص الدينية: إن الله ندِم على خلقه أبناء إسماعيل هؤلاء، وإن العرب يتكاثرون كالنمْل، تبًّا لهم، فليذهبوا إلى الجحيم.
وقد أشاد الحاخام "بورج" بالمجرم "باروخ جولد شتاين" منفذ مجزرة المسجد الإبراهيمي بمنتصف رمضان 1994 م بالخليل بقوله:
إن ما قام به باروخ جولد شتاين تقديسٌ لله، ومنَ الواجبات اليهودية الدِّينية.
وكان قد بارك حاخام الكيان اليهودي الأكبر "إسرائيل مئيرلاو" سياسة شارون في تصْفية زعماء المقاومة الفِلَسْطينية بقوله:
إنَّ الأسلوب الوقائي واعتراض الناشطين الفِلَسْطينيين مبررٌ تمامًا مِن ناحية التقْليد الدِّيني اليهودي، وإن إسرائيل تخوض حربًا من حروب الوصايا تقتضي الشريعة في إطارها ليس فقط الدفاع، وإنما أيضًا المبادَرة والإقدام.
وقديمًا قال مناحيم بيجين في كتابه "الثورة":
ينبغي عليكم أيها الإسرائيليون ألا تلِينوا أبدًا عندما تقتلون أعداءكم، ينبغي ألا تأخذكم بهم رحمة حتى ندمر ما يسمى بالثقافة العربية التي سنبني على أنقاضها حضارتنا.
ويقول أيضًا: الفلسطينيون مجرد صراصير يحب سحْقها.
يقول الرسولُ الأعظم موَجِّهًا أصحابه في الحرب:
((انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلاَ طِفْلاً، وَلاَ صَغِيرًا، وَلاَ امْرَأَةً، وَلاَ تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))؛ رواه أبو داود.
وصية أبي بكر الصِّديق لبعض جُيُوش فتح الشام:
عن عبدالرحمن بن جُبَير:"وإني موصيكم بعشر كلمات فاحفظوهن: لا تقتلنّ شيخًا فانيًا، ولا ضرعًا ضعيفًا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تهدموا بيتًا، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تعقرن بهيمة إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً.
يا لثارات محمد - صلى الله عليه وسلم -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ناصر المستضعفين، وقاصم الجبارين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين المطهَّرين، وأصحابه الأخيار الذين جاهَدوا لإعلاء كلمة الدِّين، وقاتَلوا الطُّغاةَ والمتكبِّرين، وعلى مَن نَهَجَ نَهْجَ نُصرةِ الحقّ إلى يوم الدين.
بعدُ:
إنَّ الله - جلَّ وعلا - ذكرَ اليهودَ - عليهم لعائنُ الله - في كثيرٍ وكثيرٍ جدًّا من المواضع من كتابه العزيز، وبيَّنَ لنا جرائمهم العقَدية في حقه - سبحانه وتعالى - وفي حقِّ أنبيائه الكرام - عليهم صلوات الله.
وإنَّ من أشنعِ ما اقترفَه أولئك المغضوب عليهم: أنهم اتخذوا من إيذاء الأنبياء سلوكًا لا يَحِيدون عنه، بدأ معهم منذ عهدِ نبيهم الأولِ سيدنا موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 68].
بل بلغ سفهُهم أنهم بلغتْ إساءتهم لموسى - عليه الصلاة والسلام - أن تكلموا في ما يُستحى أن يُتكلَّمَ به في حقِّ أيِّ شخصٍ كان، فكيف بنبيِّهم المرسَل؟!
أخرج الشيخان عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراةً، ينظر بعضُهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر))... الحديث [1].
ولكنَّ شرَّ جرائم اليهود وأشنعها في حقِّ رسُل الله - تبارك وتعالى - هو محاولاتهم سفك دماء هؤلاء الأصفياء عند الله - عز وجل - وذلك مرات ومرات، نجح بعضُها، وخاب البعضُ الآخَر.
بل إنهم تطاوَلوا منذ فجر تاريخهم الأسود على نبيهم الكريم سيدنا هارون، أخي سيدنا موسى وشريكه في الرسالة - عليهما السلام - وذلك كما قصَّ علينا القرآنُ الكريم: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150].
بل بلغتْ وقاحتُهم حدَّ التفاخُر بما حسبوه نجاحًا منهم في قتْل أحد أكرم الخلق على الله، سيدِنا المسيح عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - قال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [النساء: 157].
ولأجْل تكرُّر ذلك منهم واتخاذهم لهم عادة متبعة عُرفوا بها، فقد ذكر الله – سبحانه - هذه الخصلة القبيحة فيهم مراتٍ عديدةً في كتابه العزيز؛ فقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 181 - 183].
وقال – سبحانه - : {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 155 - 157].
وقال - عزَّ من قائل -: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].
وقال - تبارك اسمُه -: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
وقال - جلَّ شأنُه -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].
وقال - عزّ سلطانُه -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 21 - 22].
وقال - لا إله غيره -: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112].
وقال أيضًا: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
قال الزمخشري في "الكشاف" في تفسير هذه الآية:
قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} كأنه قيل: كلما جاءهم رسولٌ منهم ناصَبوه، فإن قلتَ: لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضيًا وبالآخر مضارعًا؟
قلتُ: جِيء {يَقْتُلُونَ} على حكاية الحال الماضية؛ استفظاعًا للقتْل، واستحضارًا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها[2].
إنَّ المتمعِّنَ في الآيات الست الأخيرة يَجِدُ بيانَ الله - تبارك وتعالى - يستعمل الفعل المضارع {يَقْتُلُون} و{تَقْتُلُون} للحديث عن ومع أولئك الملاعين بشأنِ جريمتهم الكبرى، والمعلوم من اللغة أنَّ الفعل المضارع "ما دلَّ على معنًى في الحال أو الاستقبال"[3].
فمَن هم الأنبياء الذين قُتلوا زمنَ نُزُول القرآن؟
إنه لا نبي في ذلك الزمان إلا خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، محمدًا - صلى الله عليه وسلم.
فهل حاول اليهودُ قتلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟
الجواب عن هذا السؤال: الصارخ يبدأ باستعراضٍ تاريخيٍّ يستند إلى الأخبار الواردة في كتب السنة المطهَّرَة، ودواوين السيرة المعطَّرَة لنبينا - صلى الله عليه وسلم.
وهي تذكُرُ أكثرَ من محاولةٍ يهودية لإزهاق روحِ سيد الخلائق، سيدنا رسول الله محمدٍ - عليه الصلاة والسلام.
وقد استنبط الزمخشريُّ هذه الحقيقة؛ فقال في تفسير قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
فإن قلتَ: هلا قيل: وفريقًا قتلتُم، قلتُ: هو على وجهَيْن:
أن تُراد الحال الماضية؛ لأنَّ الأمرَ فظيع، فأُريد استحضاره في النُّفُوس، وتصويره في القلوب.
وأن يُراد: وفريقًا تقتلونهم بعدُ؛ لأنكم تَحُومون حول قتْل محمد - صلى الله عليه وسلم - لولا أني أعصمه منكم، ولذلك سحرتموه، وسممتُم له الشاة، وقال - صلى الله عليه وسلم - عند موته: ((ما زالتْ أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري))[4].
محاولة بني النضير - عليهم لعائن الله - قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة 4 هـ:
روى ابنُ هشام في "سيرته": قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينِك القتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه - للجوار الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد لهما كما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جنب جدار من بيوتهم قاعدٌ - فمَن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر، وعمر، وعلي - رضوان الله عليهم، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابُهُ قاموا طلبه، فلَقُوا رجلاً مُقبلاً من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهَوا إليه - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم الخبرَ بما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم[5].
محاوَلة قتل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالسم بعد فتح خيبر سنة 7 هـ:
قال ابن هشام: فلما اطمأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدَت له زينبُ بنت الحارث - امرأةُ سلام بن مشكم - شاةً مَصليّة، وقد سألت: أيّ عضو من الشاة أحبُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائرَ الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناوَلَ الذراعَ، فلاكَ منها مضغةً، فلم يُسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور - رضي الله عنه - قد أخذ منها كما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلفظها، ثم قال: ((إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم))، فاعترفت، فقال: ((ما حملكِ على ذلك؟))، قالت: بلغت من قومي ما لَم يَخفَ عليك، فقلتُ: إن كان ملكًا استرحتُ منه، وإن كان نبيًّا فسيُخبَر، قال: فتجاوز عنها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومات بشرٌ - رضي الله عنه - من أكلته التي أكل[6].
وهذا الخبرُ ليس في كُتُبِ السيرِ فحسب، بل هو مَرويٌّ في أصح الكُتُب بعد كتاب الله - عز وجل - وهما: "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم" - رحمهما الله - وغيرهما من الكتب المعتبَرة.
فعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن امرأة يهودية أتتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومةٍ، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، قال: ((ما كان الله ليسلطك على ذاك))، قال، أو قال: ((عليَّ))، قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: ((لا)). قال: فما زلت أعرفها في لَهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم[7].
قال الإمام النووي: وقوله: ما زلت أعرفها؛ أي: العلامة، كأنه بقي للسمّ علامة وأثرٌ من سواد أو غيره[8].
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني:ومراد أنس - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتريه المرضُ من تلك الأكلة أحيانًا، وهو موافق لقوله في حديث عائشة - رضي الله عنها -: ((ما أزال أجد ألَم الطعام)).
ووقع في مغازي موسى بن عقبة، عن الزهري مرسلاً: ((ما زلْتُ أجد من الأكْلة التي أكلت بخيبر عِدادًا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري))، ومثله في الرواية المذكورة عند ابن سعد[9]، والعِداد - بكسر المهملة والتخفيف -: ما يَعتاد.
والأبهر: عِرق في الظهر تقدم بيانه في الوفاة النبوية، ويحتمل أن يكون أنس أراد أنه يعرف ذلك في اللهوات بتغير لونها، أو بنتوء فيها، أو تحفير؛ قاله القرطبي[10].
وأخرج أبو داود في "سننه": أنَّ جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - يحدث أن يهودية من أهل خيبر سَمّت شاةً مَصلية، ثم أهدتْها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذراع فأكلَ منها، وأكل رهطٌ من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ارفعوا أيديكم))، وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهودية فدعاها فقال لها: ((أسممتِ هذه الشاة؟))، قالت اليهودية: مَن أخبرك؟ قال: ((أخبرتني هذه في يدي)) للذراع، قالت: نعم، قال: ((فما أردت إلى ذلك؟))، قالت: قلتُ: إن كان نبيًّا فلن يضرّه، وإن لم يكُنِ استرحنا منه، فعفا عنها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبها، وتوفي بعضُ أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كاهله مِن أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار[11].
عن أبي سلمة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية نحو حديث جابر - رضي الله عنه - قال: فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري - رضي الله عنه - فأرسل إلى اليهودية: ((ما حَمَلكِ على الذي صنعتِ؟)).
فذكر نحوَ حديث جابر - رضي الله عنه - فأمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقُتلت، ولم يذكر أمر الحجامة[12].
قال الإمام البيهقي: ويُحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لَمَّا مات بشرُ بن البراء - رضي الله عنه - أمر بقتلها[13].
لَم يكن تصرُّف المرأة فرديًّا:
إن هذه المحاولة الشنيعة، والجريمة المنكرة التي أقدمت عليها اليهودية لَم تكن وليدةَ نزوةِ حقدٍ فردية منها، بل نتيجة تدبيرٍ جماعيٍّ من جمعِ اليهود الموتورين بفتح خيبر.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سمٌّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اجمعوا إليّ من كان ها هنا من يهود))، فجُمعوا له، فقال: ((إنِّي سائلُكم عن شيء، فهل أنتم صادقيّ عنه؟))، فقالوا: نعم، قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أبوكم؟))، قالوا: فلان، فقال: ((كذبتُم، بل أبوكم فلان))، قالوا: صدقت، قال: ((فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتُ عنه؟))، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذِبَنا كما عرفتَهُ في أبينا، فقال لهم: ((مَن أهل النار؟))، قالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اخسَؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا))، ثم قال: ((هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتُكم عنه؟))، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: ((هل جعلتُم في هذه الشاة سمًّا؟))، قالوا: نعم، قال: ((ما حَمَلَكُم على ذلك؟))، قالوا: أردنا إن كنتَ كاذبًا نستريح، وإن كنتَ نبيًّا لم يضرك[14].
استشهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
أجل إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استُشهِد.
أوَتظُن - أيها المسلم - أنّ الله يَحرم خليلَه - صلى الله عليه وسلم - من أمنيّة تمنّاها، وشهوةٍ اشتهاها، وهو الذي كان يُسارعُ في هواه.
أجل، يُسارعُ في هواه؛ أخرج ذلك الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقول: أتهب المرأة نفسها؟! فلما أنزل الله تعالى، {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك[15].
ألا وإن من أعظم أماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرزقه الله الشهادة في سبيله؛ أليس في "الصحيح" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسُهم أن يتخلفوا عني، ولا أجدُ ما أحملهم عليه ما تخلّفتُ عن سريةٍ تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لَوَدِدتُ أن أقتلَ في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل))[16].
أفتراه يَحول بين حبيبه المصطفى وبين هذا المرجو العظيم، وهو الوهاب الكريم.
لأجل ذلك رأى كثيرٌ منَ السلَف الصالح، وأهل العلم الأفاضل: أنَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدًا، والأدلة على ذلك من أقوى الأدلة، وهذا بيانُها:
فعن عائشة - رضي الله عنها -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألَم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم))[17].
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات من اللحم الذي كانت اليهودية سَمّته، فانقطع أبهرُهُ من السّم على رأس السنة، كان يقول: ((ما زلت أجد منه حسًّا))[18].
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه الطبراني وإسناده حسن[19].
وعن أبي سلمة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الهدية، ولا يقبل الصدقة، فأهدَت له امرأةٌ من يهود خيبر شاةً مَصليّةً، فتناول منها وتناول منها بشر بن البراء - رضي الله عنه - ثم رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده ثم قال: ((إن هذه تُخبرني أنها مسمومة))، فمات بشر بن البراء- رضي الله عنه - فأرسل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما حملكِ على ما صنعت؟))، فقالت: إن كنتَ نبيًّا لم يضرَّك شيء، وإن كنت ملكًا أرحتُ الناسَ منك.
فقال في مرضه: ((ما زلت من الأكلة التي أكلتُ بخيبر، فهذا أوانُ انقطاع أبهري))[20].
ورُوي مثلُه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري))[21].
وأخرج الحاكم في "المستدرك": عن أم مبشر - رضي الله عنها - قالت: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي قبض فيه، فقلتُ: "بأبي أنت يا رسول الله، ما تتهم بنفسك؟ فإني لا أتّهم بابني إلا الطعام الذي أكله معك بخيبر" - وكان ابنها بشر بن البراء بن معرور مات قبل النبي، صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا لا أتهم غيرها، هذا أوانُ انقطاع أبهري))[22].
وجاءَ في "سيرة ابن هشام": قال ابن إسحاق: وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت أم بشر بنت البراء بن معرور - رضي الله عنه - تعوده: ((يا أم بشر، إن هذا الأوان، وجدتُ فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلتُ مع أخيك بخيبر)). قال: فإن كان المسلمون لَيرونَ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدًا، مع ما أكرمه الله به من النبوة[23].
وقد جزَم ابن كثير - رحمه الله تعالى -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدًا؛ إذ قال: فتوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهيدًا[24].
ثم نقل قول ابن إسحاق الذي نقله ابن هشام في "السيرة النبوية": "وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدًا، مع ما أكرمه الله به من النبوة" [25].
وهذا الرأيُ كما هو مأثورٌ عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - كما سلف في حديث الطبراني، فإنه مرويٌّ بصريح العبارة عن واحدٍ من أفقه صحابة النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - هو سيدنا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - فقد ورد عنه أنه قال: لأن أحلف تسعًا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُتل قتلاً أحبُّ إليَّ من أن أحلف واحدةً أنه لَم يُقتَل، وذلك أن الله - عز وجل - اتخذه نبيًّا، واتخذه شهيدًا[26].
تنبيه وتوجيه:
قد يظن أحدٌ ما أن هذا يتعارضُ مع عصمة الله تعالى رسوله التي ذكرها في القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
والجوابُ ما بيّنه فقهاءُ الأمة ومفسروها المعتبرون:
فقد قال الإمام البغوي في "تفسيره": فإن قيل: أليس قد شُجّ رأسُه، وكُسِرَت رباعيته، وأوذي بضروب من الأذى؟
قيل: معناه: يعصمك من القتل، فلا يصلون إلى قتلك.
وقيل: نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه؛ لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.
وقيل: والله يخصك بالعصمة من بين الناس؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم[27].
وقال ابن عطية: وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن تُوقِفَ عن شيءٍ من التبليغ؛ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه[28].
وقال الإمام النووي: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما كان الله ليسلطك على ذاك))، أو قال: ((عليّ)).
فيه بيان عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الناس كلهم؛ كما قال الله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وهي معجزةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سلامته من السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومةٌ، وكلام عضو منه له؛ فقد جاء في غير مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الذراع تخبرني أنها مسمومة))[29].
وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": ومن عصمة الله لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحُسّادها ومُعَانديها ومُترَفيها، مع شدة العداوة والبغْضة، ونصب المحاربة له ليلاً ونهارًا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب؛ إذ كان رئيسًا مُطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدرٌ مُشترَكٌ في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، فكلما هَمَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًّا يطول ذكرُها[30].
وليُعلَم أن بقاءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سنوات بعد تعرُّضه لمحاولة التسميم هي من معجزاته الباهرة - صلى الله عليه وسلم - لأنَّ الشأن في السم أن يقتُلَ على الفور؛ كما وقع لسيدنا البراء بن معرور - رضي الله عنه - ولكن لما كانت الأسباب لا تؤثر شيئًا بنفسِها، وأن الله هو الفاعل الحقيقي لما يجري في هذا الكون؛ كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فإنه – سبحانه - لم يشأ للسبب أن يجريَ على سنَّته التي قدَّرها له إلا بعد سنواتٍ؛ إظهارًا لنبيه على اليهود والمشركين، وإعلاءً لمعجزة جليلة من معجزاته، ولتكون الشهادة تاجًا يُتوِّجُ بها الله - عز وجل - هامَ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أدى مهمته على أتم وأكمل وجه، وهو - سبحانه - لَم يشأ لنبيِّه ميتةً عاديةً؛ رفعةً لقدرِه، وعلوًّا لمنزلتِه، وسموًّا لدرجتِه.
يتبع