أيُّها المسلمون:
سخَّرَ اللهُ الشمس والقمر في حركةٍ دائبة لا تَختلف، وفي مساراتٍ وأفلاكٍ لا تتخلف؛ ليعلمَ الناسُ عدد السنين والحساب، ولكي تنضج الثِّمار حسب الفصول والأزمان، فهو سبحانه سخَّرَهُما يسيران بنظامٍ بديع محكم؛ قال الله - تعالى -: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37 - 40]، وقال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، قال ابن كثير: "{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا}؛ أي: يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يَسلكُها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلافُ الليل والنهار طولاً وقصرًا"؛ انتهى.
ففي سيرهما مصالح ومنافع كثيرة؛ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].
والكسوف والخسوف حالتا نقصٍ تعتري النيِّرين:
الشَّمس والقمر، بذَهاب أو نقصان ضوئهما، والمعنى: احتجاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه؛ بسبب معتاد يُخوِّف الله به عباده، فذَهاب ضوئهما يكون كلاًّ أو بعضًا، والكسوف يطلق على الخسوف، وكذا العكس؛ لصحة الأحاديث والآثار بذلك، والحاصل أنَّ للكسوف أسبابًا طبيعية يقرُّ بها المؤمنون والكافرون، وكذا لها أسبابٌ شرعية يقر بها المؤمنون ويُنكرها الكافرون، فاجتماع النيرين في آخر الشهر، أو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر في وسط الشهر - سبب حسيٌّ لخسوف القمر، فالقمر جِرْم مُعْتِمٌ يستمد نورَه من الشمس، فإذا حالت الأرض بينهما وقع الخسوف، ويحدث الكسوف بسبب مرور القمر بين الأرض والشمس، فعندها يحجب القمر قرص الشمس، فنرى شيئًا أسودَ أمام قرص الشمس ألاَ وهو القمر، والكسوف الحلقي يبدأ من دخولٍ كاملٍ لقرص القمر داخلَ قرص الشمس، وينتهي فور بداية خروج حافَّة القمر من قرص الشمس.
عباد الله:
المسلم ينظر إلى الظواهر الفلكيَّة نظرة علمية وأخرى شرعية، فقد فَضَّل الله المسلم على الكافر؛ {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، فلله - تبارك وتعالى - في تقديره الكسوف حكمتان: حكمة قدَرِيَّةٌ يحصل الكسوف بوجودها، وهذه معروفةٌ عند علماء الفلك وأهل الحساب، وحكمٌ شرعية، منها تخويف العباد، وقد نص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليها بقوله: ((يخوف الله بهما عباده))، فتتنبَّه القلوب إلى عظمة سُلطان الله - تعالى - ونفوذ قدرته، فالذي قدَّر السبب الحسي حتى حصل الكسوف أو الخسوف هو الله - تعالى - لأجل أنْ يَخاف الناس ويحذروا، فحِكَمُ الخسوف والكسوف الشرعيَّة عظيمةٌ يظهر منها بعد كل حين شيءٌ؛ ليزدادَ الذين آمنوا إيمانًا، وقد ذكر أهلُ العلم نبذة من تلك الحكم؛ قال ابن حجر - رحمه الله -: "من حكمةِ وقوع الكسوف تبيينُ أنموذج ما سيقع في القيامة".
ونقل المُناوي عن الطبري قوله: "وللكسوف فوائد، منها: ظهور التصرف في هذين الخلقين العظيمين، وإزعاج القلوب الغافلة وإيقاظها، وليرى الناسُ أنموذجَ القيامة وكونهما يفعل بهما ذلك ثم يعادان، فيكون تنبيهًا على خوف المكر ورجاء العفو، والإعلام بأنَّه قد يؤخذ من لا ذنبَ له، فكيف بمن له ذنب؟!".
وقال الزمخشري: "قالوا: حكمة الكسوف: أنَّه - تعالى - ما خلق خلقًا إلاَّ قَيَّض له تغييره أو تبديله؛ ليستدلَّ بذلك على أن له مُسيِّرًا ومبدلاً، ولأن النيرين يُعبدان من دون الله - تعالى - فقضى عليهما بسلب النُّور عنهما؛ لأنَّهما لو كانا معبودين، لدفعا عن نفسهما ما يغيرهما ويدخل عليهما".
وفي عصر التقدُّم العلمي الدنيوي كثير من الناس لا يرفعون رأسًا لهذه الآيات التي يُخوِّف الله بها عباده، ويسعى ناسٌ ممن لا خلاقَ لهم إلى إبعاد المسلمين عن دينهم؛ لتَقسوَ قلوبهم، ولا يبقى لديهم اهتمامٌ بهذه الآيات العظيمة، فصار البعضُ يغمره الفرح، ويستبشر بوقوع هاتين الآيتين، ومنهم مَن يذهب إلى قمم الجبال وأعالي التِّلال؛ ليشاهدوا ذلك الحدثَ العظيم بالمناظير، وبعض الجهات تفتح أبوابَها للمتفرجين لرُؤية هذه الظاهرة من خلال المقربات والمكبِّرات، وإنَّ من البلاء العظيم أن تتحوَّل هذه الآيات التي أراد الله تخويفنا بها إلى وسيلة متعة، وإنه ليُخشى على أناس يسلكون هذا الطريق أن يكونوا ممن قال الله فيهم: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
ولا يُقَلِّلُ من شأن الخسوف معرفة أسبابه الحسيَّة، فالمعرفة القَبْلية للكسوف لا تَمنع كونها آية تخويفية، فالعلم بالأسباب الحسيَّة لا يغير الحُكْم ولا يبطل الحِكْمة، فقد يُعرف وقت خسوف القمر وكسوف الشمس عن طريق حساب سير الكواكب، ويعرف كونه كليًّا أو جزئيًّا ولا غرابة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنًا، لكن هذا المخبر المعيَّن قد يكون عالمًا بذلك وقد لا يكون، وقد يكون ثقةً في خبره وقد لا يكون، وخبر المجهول الذي لا يُوثق بعلمه وصدقه ولا يعرف كذبُه موقوفٌ، ولو أَخبرَ مخبِرٌ بوقت الصلاة وهو مجهولٌ لم يُقبل خبرُه، لكن إذا تواطأ خبرُ أهل الحساب على ذلك، فلا يكادون يخطئون. ا.هـ.
وكثير من الناس تضيقُ قلوبهم، وتضل أفهامهم عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، فأكثر الناس لا يعتبرون إلاَّ بالشيء الظاهر؛ قال ابن دقيق العيد: "ربَّما يعتقد بعضهم أنَّ الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يخوف الله بهما عباده))، وليس بشيءٍ؛ لأنَّ لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجةً عن ذلك، وقدرتُه حاكمةٌ على كلِّ سببٍ، فله أنْ يقتطع ما يشاء مِن الأسباب والمسببات بعضها عن بعضٍ، وإذا ثبت ذلك، فالعلماء بالله - لقوَّة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيءٌ غريبٌ - حدث عندهم الخوف؛ لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يَمنع أن يكون هناك أسبابٌ تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله: أنَّ الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقًّا في الأمر نفسه لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد الله - تعالى".اهـ.
وإذا كان الإنسان وعن طريق السنن الكونية، ولتعلمه الأسباب والمقدِّمات يتوقَّع حدوثَ آيةٍ، فلا يعني ذلك ذهاب خوفه وفزعه، فيتوقع الإنسان نزول المطر برؤية السحاب، لكنَّه لا يدري ما نوع هذا المطر وما لبثه في الأرض، ولا يعلم نفعه وضرَّه، ولا ما يصاحبه من عذاب، وهذا ما يوجب الخوف، وهذا عكس حال أهل الغفلة؛ قال الله - تعالى -: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].
ولما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعلمَ الناس بربه، وأشدهم خوفًا منه، كان منه هذا الفزع؛ روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا رأى مخيلة - سحابًا - في السماء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سرِّيَ عنه..."؛ الحديث.
فلا مانع أن يخوف الله العباد بأمر سببُه حسي، كما أن قواصفَ الرعد والصواعق لها سبب حسيٌّ، ومع ذلك يخوف الله بها العباد؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12 - 13]، فالأمر الحسي لا يُنافي الحِكمة من إيجاده، والتخويفُ منهج إلهي ذكره الله - سبحانه - في كتابه فقال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، وقال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وهذا بيانٌ منه - عليه الصلاة والسلام - أنَّهما سبب لنُزول عذاب الناس، فإن الله إنَّما يخوف عباده بما يخافونه إذا عَصَوْه، وعصوا رُسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضَّرر بالناس عند الخسوف، ما كان ذلك تخويفًا؛ قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، وأمرَ النبي - عليه الصلاة والسلام - بما يزيل الخوف، فأمر بالصلاة والدُّعاء والاستغفار والصدقة والعتق؛ حتى يكشف ما بالناس".
وقد يكون هذا التخويف؛ لعقوبة انعقدت أسبابها، فيُستَدفَعُ العذاب بصالحات الأعمال، لا سيما ما أكَّد عليها المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - في خطبته تلك، من الصلاة والاستغفار والعتاقة ونحوها، وقد يدفع الله بصلاة المسلمين ودعائهم وموافقتِهم سنةَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الشرور ما لا يعلمه إلا الله؛ يقول ابن حجر - رحمه الله -: "فيه رد على من يزعم أنَّ الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم؛ إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف، ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر".
أيها المسلمون:
والذي ينبغي التأكيد عليه أنَّه لا يشرع الاهتمام برصد مواعيد الكسوف بهذه الصورة المبالغ فيها؛ لأنَّ ذلك مما لم يأمرنا الله به ولا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليس في الإخبار بوقت الكسوف مصلحة للمكلفين ولا كبير فائدة تُرجى؛ إذ الصلاة لا تصلى للكسوف بمجرد الإخبار، بل حتى يُرى بالعين المجردة، فلو كانت الشمس عليها غمام، ونشرت الصحف قبل ذلك بأنه سيحصل كسوف ساعة كذا وكذا، فلا يُصلى اعتمادًا على الجرائد ولا على كلام الفلكيين؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علق الحُكم بالرؤية، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإذا رأيتموهما، فافزعوا إلى الصلاة)).
والمؤيَّدُ بالوحي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يُخْبَر بوقت الكسوف، وإتيانه بغتة أشد وقعًا في قلوب الناس؛ قال ابن تيمية: ومع هذا فلا يترتب على خبرهم – يعني: أهل الفلك - علمٌ شرعيٌّ؛ فإنَّ صلاة الكسوف والخسوف لا تُصلَّى إلا إذا شاهدنا ذلك، وإذا جوَّز الإنسانُ صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنِّه، فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك، واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك -كان هذا حثًّا مِن باب المسارعة إلى طاعة الله - تعالى - وعبادته".اهـ.
وهؤلاء المخبرون بأوقات الخسوف ابتداءً وانتهاءً يعلمون أنَّه لا أحد غير الله يستطيع أنْ يحدث كسوفًا ولا خسوفًا، وإنَّما غاية ما يستطيعه الإنسان بتعليم الله له أنْ يعرف متى يحصلان، وهذا دليل على وحدانية الله - جل وعلا - وقدرته.
أيها الناس:
لكَمْ هي كثيرة مرويَّات الصحابة في وصفهم حالَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في واقعة كسوف الشمس، التي حدثت في أواخر حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم! وحريٌّ بالمسلم الاسترشاد بالسنة، كلما وقع كسوف للشمس أو خسوف للقمر، فكما كان هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أنه إذا حزبه أمر - أي: اشتد عليه وأهمَّه - فَزِعَ إلى الصلاة، فإنه - صلَّى الله عليه وسلم - فزع إلى الصلاة، ومن شِدَّة فزعه أخطأ، فأخذ درعَ بعض نسائه حتى لحقوه وأدركوه بردائه، وأطال القيام في صلاته حتى جعلوا يخرُّون، وإطالته صلاة الكسوف يدل على عظيم الفزع من هذا الحدث، وشديد التعظيم لأمر الله، مع أنه هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَن أَمَر بتخفيف الصلاة، فيدل على أن الأمر جلل.
عباد الله:
هذه آيات الله من زلازل وبراكين، وأعاصير وفيضانات، وخسوف وكسوف، وقوارع من السماء، وغَرَقٍ وحَرقٍ، تتتابَع مذَكِّرةً ومنذرةً، يستعتبنا الله - تعالى - بها، ويستبطئ الخشوع من قلوبٍ طالت عن الحق غفلتُها، فأين أولو العقول والألباب؛ ليذكَّرُوا، ولئلا يكون حالهم كحال من حذَّر الله؛ {وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنَّة، ونفعني وإيَّاكم...
سخَّرَ اللهُ الشمس والقمر في حركةٍ دائبة لا تَختلف، وفي مساراتٍ وأفلاكٍ لا تتخلف؛ ليعلمَ الناسُ عدد السنين والحساب، ولكي تنضج الثِّمار حسب الفصول والأزمان، فهو سبحانه سخَّرَهُما يسيران بنظامٍ بديع محكم؛ قال الله - تعالى -: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37 - 40]، وقال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، قال ابن كثير: "{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا}؛ أي: يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يَسلكُها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلافُ الليل والنهار طولاً وقصرًا"؛ انتهى.
ففي سيرهما مصالح ومنافع كثيرة؛ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].
والكسوف والخسوف حالتا نقصٍ تعتري النيِّرين:
الشَّمس والقمر، بذَهاب أو نقصان ضوئهما، والمعنى: احتجاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه؛ بسبب معتاد يُخوِّف الله به عباده، فذَهاب ضوئهما يكون كلاًّ أو بعضًا، والكسوف يطلق على الخسوف، وكذا العكس؛ لصحة الأحاديث والآثار بذلك، والحاصل أنَّ للكسوف أسبابًا طبيعية يقرُّ بها المؤمنون والكافرون، وكذا لها أسبابٌ شرعية يقر بها المؤمنون ويُنكرها الكافرون، فاجتماع النيرين في آخر الشهر، أو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر في وسط الشهر - سبب حسيٌّ لخسوف القمر، فالقمر جِرْم مُعْتِمٌ يستمد نورَه من الشمس، فإذا حالت الأرض بينهما وقع الخسوف، ويحدث الكسوف بسبب مرور القمر بين الأرض والشمس، فعندها يحجب القمر قرص الشمس، فنرى شيئًا أسودَ أمام قرص الشمس ألاَ وهو القمر، والكسوف الحلقي يبدأ من دخولٍ كاملٍ لقرص القمر داخلَ قرص الشمس، وينتهي فور بداية خروج حافَّة القمر من قرص الشمس.
عباد الله:
المسلم ينظر إلى الظواهر الفلكيَّة نظرة علمية وأخرى شرعية، فقد فَضَّل الله المسلم على الكافر؛ {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، فلله - تبارك وتعالى - في تقديره الكسوف حكمتان: حكمة قدَرِيَّةٌ يحصل الكسوف بوجودها، وهذه معروفةٌ عند علماء الفلك وأهل الحساب، وحكمٌ شرعية، منها تخويف العباد، وقد نص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليها بقوله: ((يخوف الله بهما عباده))، فتتنبَّه القلوب إلى عظمة سُلطان الله - تعالى - ونفوذ قدرته، فالذي قدَّر السبب الحسي حتى حصل الكسوف أو الخسوف هو الله - تعالى - لأجل أنْ يَخاف الناس ويحذروا، فحِكَمُ الخسوف والكسوف الشرعيَّة عظيمةٌ يظهر منها بعد كل حين شيءٌ؛ ليزدادَ الذين آمنوا إيمانًا، وقد ذكر أهلُ العلم نبذة من تلك الحكم؛ قال ابن حجر - رحمه الله -: "من حكمةِ وقوع الكسوف تبيينُ أنموذج ما سيقع في القيامة".
ونقل المُناوي عن الطبري قوله: "وللكسوف فوائد، منها: ظهور التصرف في هذين الخلقين العظيمين، وإزعاج القلوب الغافلة وإيقاظها، وليرى الناسُ أنموذجَ القيامة وكونهما يفعل بهما ذلك ثم يعادان، فيكون تنبيهًا على خوف المكر ورجاء العفو، والإعلام بأنَّه قد يؤخذ من لا ذنبَ له، فكيف بمن له ذنب؟!".
وقال الزمخشري: "قالوا: حكمة الكسوف: أنَّه - تعالى - ما خلق خلقًا إلاَّ قَيَّض له تغييره أو تبديله؛ ليستدلَّ بذلك على أن له مُسيِّرًا ومبدلاً، ولأن النيرين يُعبدان من دون الله - تعالى - فقضى عليهما بسلب النُّور عنهما؛ لأنَّهما لو كانا معبودين، لدفعا عن نفسهما ما يغيرهما ويدخل عليهما".
وفي عصر التقدُّم العلمي الدنيوي كثير من الناس لا يرفعون رأسًا لهذه الآيات التي يُخوِّف الله بها عباده، ويسعى ناسٌ ممن لا خلاقَ لهم إلى إبعاد المسلمين عن دينهم؛ لتَقسوَ قلوبهم، ولا يبقى لديهم اهتمامٌ بهذه الآيات العظيمة، فصار البعضُ يغمره الفرح، ويستبشر بوقوع هاتين الآيتين، ومنهم مَن يذهب إلى قمم الجبال وأعالي التِّلال؛ ليشاهدوا ذلك الحدثَ العظيم بالمناظير، وبعض الجهات تفتح أبوابَها للمتفرجين لرُؤية هذه الظاهرة من خلال المقربات والمكبِّرات، وإنَّ من البلاء العظيم أن تتحوَّل هذه الآيات التي أراد الله تخويفنا بها إلى وسيلة متعة، وإنه ليُخشى على أناس يسلكون هذا الطريق أن يكونوا ممن قال الله فيهم: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
ولا يُقَلِّلُ من شأن الخسوف معرفة أسبابه الحسيَّة، فالمعرفة القَبْلية للكسوف لا تَمنع كونها آية تخويفية، فالعلم بالأسباب الحسيَّة لا يغير الحُكْم ولا يبطل الحِكْمة، فقد يُعرف وقت خسوف القمر وكسوف الشمس عن طريق حساب سير الكواكب، ويعرف كونه كليًّا أو جزئيًّا ولا غرابة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنًا، لكن هذا المخبر المعيَّن قد يكون عالمًا بذلك وقد لا يكون، وقد يكون ثقةً في خبره وقد لا يكون، وخبر المجهول الذي لا يُوثق بعلمه وصدقه ولا يعرف كذبُه موقوفٌ، ولو أَخبرَ مخبِرٌ بوقت الصلاة وهو مجهولٌ لم يُقبل خبرُه، لكن إذا تواطأ خبرُ أهل الحساب على ذلك، فلا يكادون يخطئون. ا.هـ.
وكثير من الناس تضيقُ قلوبهم، وتضل أفهامهم عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، فأكثر الناس لا يعتبرون إلاَّ بالشيء الظاهر؛ قال ابن دقيق العيد: "ربَّما يعتقد بعضهم أنَّ الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يخوف الله بهما عباده))، وليس بشيءٍ؛ لأنَّ لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجةً عن ذلك، وقدرتُه حاكمةٌ على كلِّ سببٍ، فله أنْ يقتطع ما يشاء مِن الأسباب والمسببات بعضها عن بعضٍ، وإذا ثبت ذلك، فالعلماء بالله - لقوَّة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيءٌ غريبٌ - حدث عندهم الخوف؛ لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يَمنع أن يكون هناك أسبابٌ تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله: أنَّ الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقًّا في الأمر نفسه لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد الله - تعالى".اهـ.
وإذا كان الإنسان وعن طريق السنن الكونية، ولتعلمه الأسباب والمقدِّمات يتوقَّع حدوثَ آيةٍ، فلا يعني ذلك ذهاب خوفه وفزعه، فيتوقع الإنسان نزول المطر برؤية السحاب، لكنَّه لا يدري ما نوع هذا المطر وما لبثه في الأرض، ولا يعلم نفعه وضرَّه، ولا ما يصاحبه من عذاب، وهذا ما يوجب الخوف، وهذا عكس حال أهل الغفلة؛ قال الله - تعالى -: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].
ولما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعلمَ الناس بربه، وأشدهم خوفًا منه، كان منه هذا الفزع؛ روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا رأى مخيلة - سحابًا - في السماء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سرِّيَ عنه..."؛ الحديث.
فلا مانع أن يخوف الله العباد بأمر سببُه حسي، كما أن قواصفَ الرعد والصواعق لها سبب حسيٌّ، ومع ذلك يخوف الله بها العباد؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12 - 13]، فالأمر الحسي لا يُنافي الحِكمة من إيجاده، والتخويفُ منهج إلهي ذكره الله - سبحانه - في كتابه فقال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، وقال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وهذا بيانٌ منه - عليه الصلاة والسلام - أنَّهما سبب لنُزول عذاب الناس، فإن الله إنَّما يخوف عباده بما يخافونه إذا عَصَوْه، وعصوا رُسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضَّرر بالناس عند الخسوف، ما كان ذلك تخويفًا؛ قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، وأمرَ النبي - عليه الصلاة والسلام - بما يزيل الخوف، فأمر بالصلاة والدُّعاء والاستغفار والصدقة والعتق؛ حتى يكشف ما بالناس".
وقد يكون هذا التخويف؛ لعقوبة انعقدت أسبابها، فيُستَدفَعُ العذاب بصالحات الأعمال، لا سيما ما أكَّد عليها المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - في خطبته تلك، من الصلاة والاستغفار والعتاقة ونحوها، وقد يدفع الله بصلاة المسلمين ودعائهم وموافقتِهم سنةَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الشرور ما لا يعلمه إلا الله؛ يقول ابن حجر - رحمه الله -: "فيه رد على من يزعم أنَّ الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم؛ إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف، ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر".
أيها المسلمون:
والذي ينبغي التأكيد عليه أنَّه لا يشرع الاهتمام برصد مواعيد الكسوف بهذه الصورة المبالغ فيها؛ لأنَّ ذلك مما لم يأمرنا الله به ولا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليس في الإخبار بوقت الكسوف مصلحة للمكلفين ولا كبير فائدة تُرجى؛ إذ الصلاة لا تصلى للكسوف بمجرد الإخبار، بل حتى يُرى بالعين المجردة، فلو كانت الشمس عليها غمام، ونشرت الصحف قبل ذلك بأنه سيحصل كسوف ساعة كذا وكذا، فلا يُصلى اعتمادًا على الجرائد ولا على كلام الفلكيين؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علق الحُكم بالرؤية، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإذا رأيتموهما، فافزعوا إلى الصلاة)).
والمؤيَّدُ بالوحي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يُخْبَر بوقت الكسوف، وإتيانه بغتة أشد وقعًا في قلوب الناس؛ قال ابن تيمية: ومع هذا فلا يترتب على خبرهم – يعني: أهل الفلك - علمٌ شرعيٌّ؛ فإنَّ صلاة الكسوف والخسوف لا تُصلَّى إلا إذا شاهدنا ذلك، وإذا جوَّز الإنسانُ صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنِّه، فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك، واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك -كان هذا حثًّا مِن باب المسارعة إلى طاعة الله - تعالى - وعبادته".اهـ.
وهؤلاء المخبرون بأوقات الخسوف ابتداءً وانتهاءً يعلمون أنَّه لا أحد غير الله يستطيع أنْ يحدث كسوفًا ولا خسوفًا، وإنَّما غاية ما يستطيعه الإنسان بتعليم الله له أنْ يعرف متى يحصلان، وهذا دليل على وحدانية الله - جل وعلا - وقدرته.
أيها الناس:
لكَمْ هي كثيرة مرويَّات الصحابة في وصفهم حالَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في واقعة كسوف الشمس، التي حدثت في أواخر حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم! وحريٌّ بالمسلم الاسترشاد بالسنة، كلما وقع كسوف للشمس أو خسوف للقمر، فكما كان هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أنه إذا حزبه أمر - أي: اشتد عليه وأهمَّه - فَزِعَ إلى الصلاة، فإنه - صلَّى الله عليه وسلم - فزع إلى الصلاة، ومن شِدَّة فزعه أخطأ، فأخذ درعَ بعض نسائه حتى لحقوه وأدركوه بردائه، وأطال القيام في صلاته حتى جعلوا يخرُّون، وإطالته صلاة الكسوف يدل على عظيم الفزع من هذا الحدث، وشديد التعظيم لأمر الله، مع أنه هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَن أَمَر بتخفيف الصلاة، فيدل على أن الأمر جلل.
عباد الله:
هذه آيات الله من زلازل وبراكين، وأعاصير وفيضانات، وخسوف وكسوف، وقوارع من السماء، وغَرَقٍ وحَرقٍ، تتتابَع مذَكِّرةً ومنذرةً، يستعتبنا الله - تعالى - بها، ويستبطئ الخشوع من قلوبٍ طالت عن الحق غفلتُها، فأين أولو العقول والألباب؛ ليذكَّرُوا، ولئلا يكون حالهم كحال من حذَّر الله؛ {وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنَّة، ونفعني وإيَّاكم...
الشيخ بلال بن عبدالصابر قديري
مآآآجده
مآآآجده