الحمد لله الذي أرشدَ عباده لكلِّ خير وهدى، ووعَدَهم بالزيادة من الهُدى إن هم سلكوا سُبل الهداية، فقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 17]، والصلاة والسلام على خير الورى، وخير من صلَّى وصامَ ودعا، دعا لكلِّ هُدى، وحذَّر من كلِّ ضَلالة قائلاً: ((كلّ بدعةٍ ضلالةٌ)).
ثم أما بعد:
فيا أخي القارئ، أثناء المطالعة والتعليق على أحاديثِ "صحيح مُسْلم"، استوقفني حديثٌ يَحثُّ على التمسُّك بالسُّنة، ويُحذِّر من اقتفاء البدعة، ولا شكَّ أن هذا الأمر - أعني: التمسكَ بالسُّنة، والحذرَ من البدعة - فَيْصلٌ بين أهل السُّنة والمنتسبين لأهلِ السُّنة، وفي الناس خيرٌ كثير يَدعو بعضهم للاجتهاد في السُّنة، ولكن هذا الاجتهاد إنْ تعدَّى النصَّ تحوَّل لنقيضِه، وهي البدعة، ولو كانت نيَّةُ من يجتهد نيةً أرادَ بها الخير والطاعة والتقرُّب لله - تعالى - ولذا يَمتطي بعضُ الناس هذه النيَّةَ استحسانًا منه لبعض الأشياء التي يَتعبَّدُ بها، فتراه تارةً يُخصِّص ما ليس مُخصَّصًا في الشرع، أو يُعمِّم ما كان مُخصَّصًا، ولربما زاد ونقص، أو قاسَ وقارَن، أو غير ذلك من الأمور التي تَدفعه فيه تلك النيةُ في الزيادة من الخير، ولو بوجهٍ غير مشروع، أو طريقة غير مشروعة، وحين تَستوقفه وتقولُ له: هذا الأمرُ لم يَردْ في الشرع، وإن لم يكن بدعةً، فهو يقودُك إلى البدعة، لقال لك: هذه بدعة حسنة؛ لأني أردتُ بذلك الخير، ونيَّتي طيبة.
ولا شكَّ أنَّ هذا مَسلكٌ غير محمود - كما سيأتي بيانه - وله مفاسدُ كثيرة؛ ولذا رأيت في هذه الأسطرِ أن أنتقي حديثًا أذكر شرح ألفاظه، وبعض فوائده، ثم أدخل إلىالمقصود، وهو بيان: هل في الدين بدعة حسنة؟ وعليه نَستحسنُ أشياء، ونجتهد في التعبُّد بها، ولو لم يَكنِ النصُّ جاء بها، باسم البدعة الحسنة.
تأمَّل معي هذا الحديث:
عَن جَرِيرٍ، قَالَ: "كُنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي صَدرِ النَّهَار، قال: فجاءه قَومٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجتابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتقَلِّدي السيوف، عَامَّتُهم من مُضَرَ؛ بل كلهم من مُضر، فَتَمَعَّرَ وَجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى بهم من الفاقة، فَدَخَلَ ثم خرج، فأمر بِلالاً، فأذَّن وأقام، فصلَّى - وفي رواية: الظهر - ثم خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، تصدَّق رجلٌ مِن ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صَاعِ بُرِّهِ، من صَاعِ تَمْرِه - حتى قال: - ولو بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، قال: فجاء رجلٌ منَ الأنصارِ بِصُرَّةٍ كادت كَفُّه تَعجِزُ عنها؛ بل قد عَجزَت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيتُ كَومَينِ من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيتُ وَجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتهلَّلُ كأنه مُذْهَبَةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً، فله أجرُها، وأجرُ مَن عَمِلَ بها بعده، من غير أن يَنقُصَ من أجورهم شَيءٌ، ومن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كان عليه وِزْرُها، ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِن بعده، مِن غير أن يَنقُصَ مِن أوزارِهم شَيءٌ)).
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم في (كتاب الزكاة)، (باب الحثِّ على الصدقة ولو بشقِّ تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار)، حديث (1017)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه النسائي في (كتاب الزكاة)، (باب التحريض على الصدقة)، حديث (2554)، وأخرجه ابنُ ماجه في (المقدمة)، (باب من سَنَّ سُنَّة حسنة أو سيئة)، حديث (203).
شرح ألفاظ الحديث:
(صَدْر النَّهَارِ)؛ أي: في أول النهار.
(حُفَاةٌ عُرَاةٌ): حفاة: ليس عليهم نِعالٌ أو خفاف، عُراة: قليلو الثياب، والعُراة مَن ظهرتْ عَوراتُهم.
(مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاء): النِّمار - بكسر النون -: جَمعُ نَمرة - بفتح النون - وهي ثياب صُوف مُخطَّطة، كأنها أُخِذتْ من لون النَّمِر؛ لما فيها من السواد والبياض، والمقصود أنهم قَدِموا وعليهم ثِياب صوف مُخطَّطة؛ انظر: "النهاية"، مادة (نمر).
العَباء - بفتح العين -: جمع عَباءة أو عباية – لغتان - وهي أكسية غلاظ مُخطَّطة أيضًا؛ انظر: "المفهم" (3/62).
مُجتَابي؛ أي: مَقطوعي أوساط النمار.
(عامَّتهم من مُضَرَ، بل كلهم من مُضَرَ)؛ أي: أغلبهم بل كلهم من مضر، ومُضر قبيلة عَدنانية، كانوا يشكِّلون الكثرة من القبائل العدنانية في الحجاز، وكانت لهم الرياسة في مكة والحرم، فهم من أشراف قبائل العرب؛ انظر: "معجم أعلام متن الحديث"، لمحمد التنوخي (290).
(فَتَمَعَّرَ وجه رسول الله؛ لما رأى بهم من الفاقة): تمعَّر؛ أي: تغيَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما شقَّ عليه حين رأى فقرَهم.
(حتى رأيت كَومين من طَعامٍ وثيابٍ): كومين: بفتح الكاف وضمها، بالضم: اسم لما كُوِّم، والكَوم – بالفتح -: اسم للمكان المرتفع كالرابية، والأولى هنا الفتح؛ لأن المقصود الكثرة والتشبيه بالرابية، وهذا اختيار القاضي عياض والقُرطبي؛ انظر: "شرح مسلم"، للنووي (7 / 1017)، "والمفهم" (3/62).
(حتى رأيت وجه رسولِ الله يَتَهَلَّلُ كأنه مُذْهَبَةٌ): مُذْهَبَة: ضُبِطَت على وجهين، أشهرهما بالذال، ثم هاء مفتوحة، ثم باء، والمعنى: كأنه آلة أو فضة مذهبة، الوجه الثاني: (مدهنة) بالدال والنون، ذكره الحُميدي في "الجمع بين الصحيحين" ولم يَذكر غيره، والمدهن هو الإناء الذي يُدهن فيه، وهو أيضًا اسم للنقرَة في الجبل يستجمع فيه ماءُ المطر، وهذا يُوحي بتشبيه صفاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم بصفاء هذا الماء، والأول أشهرُ، واختاره القاضي عياض والنوويُّ، وهو أبلغ في حُسنِ الوجه وإشراقه، وحَكَمَ القاضي عياض وغيره من الأئمة على الوجه الثاني بالتصحيف؛ انظر: "شرح النووي لمسلم"، "والمفهم"، نفس المرجع السابق.
((مَن سَنَّ في الإسلام سُنةً حسنة)): سَنَّ في الإسلام؛ أي: ابتدأها، كما دلَّ عليه حديث الباب، ومثله من سَنَّ سُنة سيئة؛ أي: ابتدأها، فكان سببًا للاقتداء به، فعليه وِزرُها ووزرُ من عمل بها بعده.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دَلالة على الحثِّ على الصدقة، ولو بشيء قليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولو بشقِّ تَمرَةٍ)).
الفائدة الثانية: الحديث يدلُّ على عطفِ النبي صلى الله عليه وسلم حينما يَرى صاحب الحاجة، فيهتمُّ به وله، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ليتغيَّر وجهه، ويدخل ويَخرج؛ لِمَا هو عليه من مَشقَّة ما رأى، ويَحثُّ أصحابه على المواساة، وفي الحديث بيان ما كان عليه الصحابة من الفاقة.
الفائدة الثالثة: الحديث يدلُّ على مُبادرة الصحابة وتسابقهم إلى الخير والصدقة، ودفع حاجة المحتاجين، وشفقة بعضِهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى.
الفائدة الرابعة:الحديث فيه بيان فَرح النبي صلى الله عليه وسلم وتَهلُّل وجهه؛ لما رآه من التعاون، والمبادرة للخيرات، وسدِّ حاجة المحتاجين، وهكذا ينبغي للمسلم حينما يَرى مثل هذه الصور من التعاون على الخير أنْ يَفرحَ، ويُظهِر سرورَه.
الفائدة الخامسة:الحديث فيه دَلالة على استحباب إحياء السُّننِ الحسنة، وإحياؤها يكون بإبرازها وإظهارها والابتداء بها - كما في الحديث - ففي الحديث أنَّ الناس تتابعوا بصدقاتهم بعدما جاء الرجل بصُرَّة كادت كَفُّه تَعجِز عنها، فكان كالقُدوة لهم، فله مثل أجر من عمل بعده.
الفائدة السادسة:الحديث فيه دَلالة على التحذير من سَنِّ السنن السيئة، والابتداء بها، ونشرها وإبرازها؛ فإن عليه وزرها - أي: إثمها - وإثم من عمل بها من بعده.
وبناءً على ما سبق يُؤخذ من حديث الباب أنَّ السُّنة على قسمين:
1- سُنَّة سيئة:ويَدخل فيها البدعة من باب أولى؛ بل إن بعضَ أهل العلم يفسرها في الحديث بالبدعة.
2- سُنَّة حسنة:وهي التي يَسنُّها المسلم؛ إما بالابتداء بها، فيكون أول مَن يُبادر بها، فيقتدي به من يراه ويعمل مثل عمله، فيكون له مثل أجر من عمل، كما فعل الرجلُ الذي ابتدأ الصدقة ثم تتابعَ الناس بعده، فليس في الحديث أنه أظْهرَ سُنَّة مَجهولة؛ فالصدقة معروفة عند الصحابة، ولكنَّه ابتدأ التصدق وتأثَّر الناس بمبادرته، أو بإظهارها وإبرازها حينما تكون السُّنة مجهولة يَخفى على الناس سنُّها، أو مهجورة لا يَعمل بها أحد، فيُظهِرها، فيكون بفعله نبَّه مَنْ جَهلَها أو هجَرها، فصار دالاًّ على الخير، ومحييًا لسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بُدَّ أن يُراعي في تطبيقه للسنة المندثرة حالَ الناس وتقبُّلَهم لها، والحال والوقت الأفضل الذي لا يَترتَّب عليه مَفسدة؛ فقد يستنكر الناس السُّنة المندثرة؛ بسبب تقصير صاحب السُّنة في مراعاة الحال، أو الوقت، أو المكان، أو الاستدلال لهذه السنة ونقل كلام أهل العلم عليها.
قال شيخُنا ابن عثيمين في شرحه لحديث الباب: "وفي هذا الحديثِ الترغيبُ في فِعل السُّنن التي أُميتَتْ وتُركت وهُجرت، فإنه يُكتب لمن أحياها أجرُها وأجر من عمل بها، وفيه التحذير من السُّنن السيئة، وأن مَن سَنَّ سُنة سيئة، فعليه وِزرُها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، حتى لو كانت في أول الأمرِ سَهلة ثم توسعت، فإن عليه وزرَ هذا التوسع، مثل: لو أن أحدًا من الناس رخَّص لأحدٍ في شيء من المباح الذي يكون ذريعة واضحة إلى المحرَّم وقريبًا، فإنه إذا توسَّع الأمرُ بسبب ما أفتى به الناسَ، فإن عليه الوزرَ ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، نعم لو كان الشيء مُباحًا ولا يُخشى منه أن يكون ذريعة إلى مُحرَّم، فلا بأس للإنسان أن يبيِّنه للناس".
الفائدة السابعة:استدلَّ بحديث الباب مَن قَسَّم البدعة إلى قسمين: بِدعة حسنة، وبدعة سيئة، ووجه الدَّلالة عندهم تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى سُنَّة حسنة وسنة سيئة، وقالوا: مَن سنَّ؛ أي: مَن ابتدع، وهذا التقسيم مأثور عن الإمام الشافعي والنووي؛ انظر: "مناقب الشافعي" (1/ 469)، "ومجموع الفتاوى" (20/ 63)، وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات"، للنووي (2/ 22)، مادة (بدع).
واختار النوويُّ تقسيمًا آخر، فقال: "البِدعُ خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومُحرَّمة، ومَكروهة، ومُباحة"، واختاره الحافظُ ابن حجر؛ انظر: "شرح مسلم" (7/146)، "والفتح" (13/253).
وهو اختيار العزِّ بن عبدالسلام، وتلميذه القرافي؛ انظر: "قواعد الأحكام" (172)، وانظر: "الفروق"، للقرافي (4/202).
ولأنَّ هذه مسألة مُهمَّة يَنبني عليها جواز ما يفعله بعضُ الناس اليوم من عدمه، من أعمال وعبادات لا دليلَ عليها؛ بحُجَّة أنها من قبيل السُّنة الحسنة، كإحياء ليلة لمَولِد النبي صلى الله عليه وسلم وليلة الإسراء والمعراج، والتعبُّد بأذكار وطُرق لم تَرِدْ في السُّنة؛ كان من المهم ذكرُ الخلاف فيها.
فأصحاب القول الأول قالوا بالتقسيم السابق، وأن هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة:
واستدلوا:
1- بالحديث السابق؛ حديث جرير.
2- حديث أبي هريرة عند مُسلم: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن دعا إلى هُدى، كان له من الأجر مثل أجور مَن تَبِعه، لا يَنْقُص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا)).
ووجه الدَّلالة: أنهم فسَّروا ((من دعا إلى هدى)) بتفسير البدعة الحسنة.
ونوقِش هذان الاستدلالان بما يلي:
أ- أن حديث جرير السابق لا يدلُّ على هذا التقسيم؛ لأنَّ المقصود بالسُّنة الحسنة: هي السنة التي لها أصلٌ في الشرع؛ بدليل مناسبة الحديث، فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على السُّنة الحسنة بعدما رأى ذلك الرجل الذي جاء بصُرَّةٍ كادت كفُّه تعجز عن حملها ليخرجها صدقة، والصدقة موجودة في أصل الشرع، وليست سُنَّة مُخترعة ومُبتدعة، وعليه يُحمل الحديث الآخر أيضًا.
ب- أن السُّنة الحسنة والسيئة لا يُمكن معرفتهما إلا من جهة الشرع، فالتحسين والتقبيح مُختص بالشرع، لا مَدخلَ للعقل فيه، وكذا الدعوة إلى الهدى.
ج- أن الحديث ليس فيه سوى السُّنة الحسنة والسُّنة السيئة، وليس فيه ذكرٌ للبدعة أبدًا، وكذلك الحديث الآخر، ففي الحديث الدعوة إلى الهدى، وليس إلى الابتداع والإحداث.
د- أن حديثَ جرير السابق فيه دليل على مُحاربة البدع، لا الحث عليها، ووجه ذلك أنَّ له شِقَّين: الأول: الحثُّ على السُّنة الحسنة، وأفضل توضيح لها النظرُ في مناسبة الحديث؛ فقد جاءت في الصدقة، والصدقة مَشروعة، فالسُّنة الحسنة تُحمل على ما هو مشروع، والشقُّ الثاني: السُّنة السيئة، ويَدخل في عمومها البدع من باب الأولى.
انظر: "الاعتصام"، للشاطبي (1/182)، وانظر: "موقف أهل السُّنة والجماعة من أهل الأهواءِ والبدع"، للدكتور إبراهيم الرحيلي (114)، وانظر: "البدعة وأثرها"، لسليم الهلالي (26)، وانظر: "أقسام البدعة وأحكامها"، للدكتور أحمد عبدالكريم (232-236).
3- استدلوا بما أحدثه الصحابة - رضوان الله عليهم - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من السُّننِ المستحسنة، ولم يُنكر عليهم النبيصلى الله عليه وسلم ومن أمثلة ذلك:
أ- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، حدِّثني بأرجى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة))، فقال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهَّر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهار، إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتِبَ لي أن أصلِّي.
ب- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري في قصة قَتْلِِِ خُبيب بن عَدي - رضي الله عنه - وقبل أن يقتلوه، قال: دَعُوني أصلِّي ركعتين، فكان أوَّل من سَنَّ ركعتين عند القتل.
ج- حديث رِفاعة بن رَافع - رضي الله عنه - في قصة الرجل الذي دَخَل مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ بعد الركوع: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مُباركًا فيه"، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُ بضعة وثلاثين مَلكًا يبتدرونها، أيُّهم يَكتبُها أولاً))؛ مُتَّفقٌ عليه، وهناك أمثلة أخرى في السُّنة النبوية.
ونوقِشَ هذا الاستدلال بما يلي:
1- أنَّ هذه الأعمال من الصحابة - رضوان الله عليهم - ليست من السُّنن المستحسنة بلا دليل؛ وإنما من الأعمال التي تُعرض على الشرع، فإن أقرَّها، وإلا كانت ضَلالاً.
2- هذه الأفعالُ وغيرها بلغَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأقرَّ منها وأنكر، ولو لم يَكن بابُ العبادات مبنيًّا على التوقيفِ، لأقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ أعمال الصحابة - رضوان الله عليهم - فقد وَرَد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنكر على أصحابه الخَوضَ في القَدَر، وإطراءه بشيءٍ لا يَليق إلا بالله - عز وجل - وأنكر تزكيةَ الصحابة بعضهم لبعض، والاعتماد على الحَبْلِ لدفعِ النوم في قيام الليل، وترك النكاح، ومُواصلة الصيام والقيام، وغيرها من الأمثلة التي فعلها الصحابة مُريدين بها اللهَ والدار الآخرة، وهذا يدلُّ على أن فعلهم قد يُقرُّ وقد يُنكر فيما فعلوه استحسانًا.
3- أن ما أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أفعال الصحابة - رضوان الله عليهم - هو من قَبيل السُّنة لا البدعة، فهو سُنَّة تقريرية، وإقرارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ؛ مِن أجل إقراره، لا من أجل عَمَلِ الصحابي.
4- أنَّ الإقرار انقطع بموت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقريره صلى الله عليه وسلم تشريعٌ انتهى بوفاته.
5- أنَّ قولهم بأن الصحابة ابتدعوا بدعًا حَسَنة ووافقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَلزم منه أن يُقال: إنَّ إبليس قد ابتدع أو سَنَّ سُنَّة حَسنة، حينما أرشَدَ لقراءة آية الكُرسي لمن أوى إلى فراشه، وقصتُه مع أبي هريرة - رضي الله عنه - حينما سَرقَ الشيطانُ من مال الزكاة ثلاثةَ أيام، وأنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - يُريد أن يرفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي الحديث أنَّ الشيطان علَّمه آيةَ الكرسي وفَضْلَ قولها عند النوم، مُقابل ألاَّ يرفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفعل، وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال: ((صدقَكَ وهو كَذوبٌ))، فهل نقولُ: إنَّ هذه سُنَّة نبوية تقريرية، أو بدعة إبليسية (حسنة)؟! لا شكَّ أن القولَ بالثاني ضلالٌ بعيدٌ لا يقوله أحدٌ.
4- استدلوا بما أحدَثَه بعضُ الصحابة وصرَّحوا بأنها بدعة وأقرُّوها، ولم تكن ضلالة، وأقوى ما تمسَّكوا به من الآثار فِعْلُ عُمَرَ - رضي الله عنه - حين جَمَعَ المسلمين على إمامٍ واحد في رمضان، وهو أُبَيُّ بن كعب - رضي الله عنه - وقوله: "نِعْمَ البِدعةُ هذه"؛ رواه البخاريُّ من حديث عبدالرحمن بن عَبدٍ القاريِّ.
ونوقِشَ هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أنَّ المراد بذلك البدعة اللغويَّة لا الشرعيَّة؛ لأنَّ عمر - رضي الله عنه - فعل ما شرعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكنه ابتدأه في عصره بعدما انقَطعَ؛ فسُمِّي بدعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "أكثر ما في هذا تَسميةُ عمر - رضي الله عنه - تلك بدعة، مع حُسْنها، وهذه تسمية لُغويَّة، لا تسمية شرعيَّة؛ وذلك لأنَّ البدعة في اللغة تَعمُّ كل ما فُعل ابتداءً من غير مثالٍ سابق، وأما البدعة الشرعية، فما لم يدل عليه دليل شرعي"؛ انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (59).
وقال ابنُ رجب: "ما وقع في كلام السَّلف من استحسان بعضِ البدع، ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية"؛ انظر: "جامع العلوم والحكم"، لابن رجب (1/266).
والوجه الثاني: أنَّ ما فَعله عُمر - رضي الله عنه - ليس بدعة أصلاً؛ بل هو سُنَّة، ووجه ذلك:
أولاً:أن الصلاة في ليالي رمضان له أصلٌ في الشرع؛ فهو من فِعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد خَرجَ وصلَّى بهم الليلة الأولى والثانية والثالثة من رمضان، وصلَّى معه رجال، ثم لم يَخرُجِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خَشيةَ أن تُفترضَ عليهم الصلاة فيعجِزوا، والحديث مُتفقٌ عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
ثانيًا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَّ على أداء الصلاة جماعةً في ليالي رمضان، فقال: ((مَن قام مع الإمامِ حتى يَنصرفَ، كُتِبَ له قيامُ ليلة))؛ رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وهذا الحديث فيه الحثُّ على قيام رمضان جماعة، وما حَثَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يكون بدعةً، وهذا هو فِعلُ عمر - رضي الله عنه - فهو سُنَّة نبوية شريفة.
ثالثًا:أنَّ جمعَ الصحابة - رضوان الله عليهم - على إمامٍ واحد في التراويح، وقع في زمن الخِلافة الراشدة، وبأمرٍ من خليفةٍ راشد أُمِرنا باتباع سنته، وهو عُمر - رضي الله عنه - وأعمالُ الخلفاء الراشدين تندرجُ تحت السُّننِ لا البدع؛ لحديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنَّتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ))؛ رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ورواه ابن ماجه.
وهذا الحديث يُفيد أن ما فعله الخلفاءُ الراشدون مما لم يَكنْ على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو سُنَّة مُتَّبعة وليس بدعة، كزيادة عثمان - رضي الله عنه - النداء الثالث يوم الجمعة، وقِتال أبي بكر - رضي الله عنه - لمانعي الزكاة، ونحوهما من الأعمال.
رابعًا:إجماع الصحابة السُّكوتي على مُوافقة عُمر - رضي الله عنه - في فعله، فلم يُعرف له مُنكِر على فعله، فدلَّ على أنه سُنة لا بدعة شرعيَّة.
هذه هي أدلة القول الأول مع مناقشتها.
والقول الثاني: إنه لا يُوجد في الشرع بدعة حسنة، فكلُّ البدع مُنكَرة، وهذا قولُ الإمامين أبي حنيفة وأحمد.
قال الإمام أبو حنيفة: "عليك بالأثر وطريقةِ السَّلف، وإياك وكلَّ مُحْدَثة؛ فإنها بدعة"؛ انظر: "ذم التأويل"، لابن قُدامة المقْدسي (13).
وقال الإمام أحمد بن حنبل: "أصول السنَّة عندنا التمسكُ بما كان عليه أصحاب رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة"؛ انظر: "ذم التأويل"، لابن قُدامة (32)، ثم قال: وقال ابن المديني مثل ذلك.
استدلَّ أصحابُ هذا القول بأدلة نقليَّة، وأدلة عقليَّة:
أولاً: الأدلة النقليَّة:
1- حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه – وفيه: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فعليكم بسنَّتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ مُحدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه.
ووجه الدلالة:أنَّ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) نصٌّ في المسألة؛ حيث إن لفظَ (كل) لفظٌ عام يَستغرقُ جميع أفراده، ولا يَخرُجُ فردٌ من الأفراد إلا بمخصِّص، ولا مُخصِّص هنا، وهذا الحديث لم يُفرِّق بين بدعة وبدعة أخرى.
- قال ابن رجب: "((كل بدعة ضلالة)) من جَوامع الكلم، لا يَخرجُ عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين"؛ انظر: "جامع العلوم والحكم" (1/266).
- وقال الشاطبيُّ: "قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) محمولٌ عند العلماء على عمومه، لا يُستثنى منه شيء ألبتة، وليس فيها ما هو حسنٌ أصلاً؛ إذ لا حسن إلا ما حسَّنه الشرع، ولا قبيح إلا ما قبَّحه الشرع، فالعقل لا يحسِّن ولا يقبِّح؛ وإنما يقول بتحسين العقل وتقبيحه أهلُ الضلال.
انظر: "فتاوى الإمام الشاطبيِّ" (181 - 180).
وقال أيضًا: "والحاصل أنَّ البدع لا تَنقسمُ إلى ذلك الانقسام؛ بل هي من قَبيل المنهي عنه؛ إما كَراهةً، وإما تحريمًا"؛ انظر: "الاعتصام" (1/211).
2- حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خَطبَ، احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبه، حتى كأنه مُنذرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، يقول: ((أما بعد، فإن خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهَدي هَديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالةٌ))؛ رواه مسلم، وفي رواية لابن ماجه: ((وكل مُحدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))، وفي رواية للنسائي: ((وكل ضلالة في النار)).
3- حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))؛ مُتَّفقٌ عليه.
قال ابن رجب: "كل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدِّين، ولم يَكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين منه بريء"؛ انظر: "جامع العلوم والحكم" (1/266).
4- إنكار النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأفعالٍ وتصرفاتٍ وقعتْ للصحابة - رضوان الله عليهم - أرادوا بها التزوُّد في العبادة، وتقدَّم بيانُ ذلك.
5- استدلُّوا بفَهم الصحابة - رضوان الله عليهم - لأحاديث النهي عن البدع، وأنها تتناول كلَّ بدعة، ومن أمثلة ذلك:
• قول ابن عُمر - رضي الله عنه -: "كلُّ بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حَسنة"؛ وسنده صحيح كما قال الألبانيُّ في "تخريج إصلاح المساجد" (13).
• قول مُعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "إياكم وما ابتُدع؛ فإن ما ابتُدع ضلال"؛ رواه أبو داود (4611).
ثانيًا: الأدلة العقلية: وهي كثيرة، منها:
1- أن القولَ بالبدعة الحسنة مَفسدة للدين، ومَنفذ لأعداء الدين أن يُدخِلوا فيه ما ليس منه، فكلُّ ما استحسنتْه عقولُهم أدخلوه بحُجَّة البدعة الحسنة، وهم منافقون كاذبون يُريدون هدمَ الدين.
2- إن جازت الزيادة في الدين باسم البدعة الحسنة، جَازَ أن يَستحسنَ مُستحسنٌ حذف شيءٍ من الدين ونقصه باسم البدعة الحسنة.
3- أن العقولَ كثيرٌ منها لا يتوافق، فما تراه بدعة حسنة، لا يراه غيرُك كذلك، وربَّما يُنكره، وهذا يُؤدي إلى الافتراق.
4- أنَّ تصرفَ المخلوقين في الشرائع مُغيِّر لها لا محالة، وبهذا فَسدتْ كُتب الأديان السالفة، واستحسان ما لم يَكنْ من الدين بحُجَّة البدعة الحسنة، يُغيِّر من الشرع ويَزيد فيه شيئًا كثيرًا.
وعند التأمُّل فإنَّ هناك من الأدلة العقلية الشيء الكثير ما يَردُّ القول باستحسان أعمال لا دليلَ عليها وإدخالها في الشرع، ولا شكَّ أنَّ القولَ الثاني هو الأظهر والله أعلم، ويَكفي في ذلك أنْ نردِّد في قلوبنا وأعمالنا قولَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة))، والله - تعالى - أعلم وأحكم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله صحبه أجمعين.
للاستزادة انظر: "البدع والحوادث"، للطرطوشي، "والبدع والنهي عنها"، لابن وضَّاح، "وتنبيه الغافلين"، لابن النحاس.
مُستلَّة من شرح صحيح مسلم، كتاب الزكاة؛ للشيخ عبدالله بن حمود الفريح.
ثم أما بعد:
فيا أخي القارئ، أثناء المطالعة والتعليق على أحاديثِ "صحيح مُسْلم"، استوقفني حديثٌ يَحثُّ على التمسُّك بالسُّنة، ويُحذِّر من اقتفاء البدعة، ولا شكَّ أن هذا الأمر - أعني: التمسكَ بالسُّنة، والحذرَ من البدعة - فَيْصلٌ بين أهل السُّنة والمنتسبين لأهلِ السُّنة، وفي الناس خيرٌ كثير يَدعو بعضهم للاجتهاد في السُّنة، ولكن هذا الاجتهاد إنْ تعدَّى النصَّ تحوَّل لنقيضِه، وهي البدعة، ولو كانت نيَّةُ من يجتهد نيةً أرادَ بها الخير والطاعة والتقرُّب لله - تعالى - ولذا يَمتطي بعضُ الناس هذه النيَّةَ استحسانًا منه لبعض الأشياء التي يَتعبَّدُ بها، فتراه تارةً يُخصِّص ما ليس مُخصَّصًا في الشرع، أو يُعمِّم ما كان مُخصَّصًا، ولربما زاد ونقص، أو قاسَ وقارَن، أو غير ذلك من الأمور التي تَدفعه فيه تلك النيةُ في الزيادة من الخير، ولو بوجهٍ غير مشروع، أو طريقة غير مشروعة، وحين تَستوقفه وتقولُ له: هذا الأمرُ لم يَردْ في الشرع، وإن لم يكن بدعةً، فهو يقودُك إلى البدعة، لقال لك: هذه بدعة حسنة؛ لأني أردتُ بذلك الخير، ونيَّتي طيبة.
ولا شكَّ أنَّ هذا مَسلكٌ غير محمود - كما سيأتي بيانه - وله مفاسدُ كثيرة؛ ولذا رأيت في هذه الأسطرِ أن أنتقي حديثًا أذكر شرح ألفاظه، وبعض فوائده، ثم أدخل إلىالمقصود، وهو بيان: هل في الدين بدعة حسنة؟ وعليه نَستحسنُ أشياء، ونجتهد في التعبُّد بها، ولو لم يَكنِ النصُّ جاء بها، باسم البدعة الحسنة.
تأمَّل معي هذا الحديث:
عَن جَرِيرٍ، قَالَ: "كُنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي صَدرِ النَّهَار، قال: فجاءه قَومٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجتابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتقَلِّدي السيوف، عَامَّتُهم من مُضَرَ؛ بل كلهم من مُضر، فَتَمَعَّرَ وَجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى بهم من الفاقة، فَدَخَلَ ثم خرج، فأمر بِلالاً، فأذَّن وأقام، فصلَّى - وفي رواية: الظهر - ثم خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، تصدَّق رجلٌ مِن ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صَاعِ بُرِّهِ، من صَاعِ تَمْرِه - حتى قال: - ولو بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، قال: فجاء رجلٌ منَ الأنصارِ بِصُرَّةٍ كادت كَفُّه تَعجِزُ عنها؛ بل قد عَجزَت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيتُ كَومَينِ من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيتُ وَجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتهلَّلُ كأنه مُذْهَبَةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً، فله أجرُها، وأجرُ مَن عَمِلَ بها بعده، من غير أن يَنقُصَ من أجورهم شَيءٌ، ومن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كان عليه وِزْرُها، ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِن بعده، مِن غير أن يَنقُصَ مِن أوزارِهم شَيءٌ)).
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم في (كتاب الزكاة)، (باب الحثِّ على الصدقة ولو بشقِّ تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار)، حديث (1017)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه النسائي في (كتاب الزكاة)، (باب التحريض على الصدقة)، حديث (2554)، وأخرجه ابنُ ماجه في (المقدمة)، (باب من سَنَّ سُنَّة حسنة أو سيئة)، حديث (203).
شرح ألفاظ الحديث:
(صَدْر النَّهَارِ)؛ أي: في أول النهار.
(حُفَاةٌ عُرَاةٌ): حفاة: ليس عليهم نِعالٌ أو خفاف، عُراة: قليلو الثياب، والعُراة مَن ظهرتْ عَوراتُهم.
(مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاء): النِّمار - بكسر النون -: جَمعُ نَمرة - بفتح النون - وهي ثياب صُوف مُخطَّطة، كأنها أُخِذتْ من لون النَّمِر؛ لما فيها من السواد والبياض، والمقصود أنهم قَدِموا وعليهم ثِياب صوف مُخطَّطة؛ انظر: "النهاية"، مادة (نمر).
العَباء - بفتح العين -: جمع عَباءة أو عباية – لغتان - وهي أكسية غلاظ مُخطَّطة أيضًا؛ انظر: "المفهم" (3/62).
مُجتَابي؛ أي: مَقطوعي أوساط النمار.
(عامَّتهم من مُضَرَ، بل كلهم من مُضَرَ)؛ أي: أغلبهم بل كلهم من مضر، ومُضر قبيلة عَدنانية، كانوا يشكِّلون الكثرة من القبائل العدنانية في الحجاز، وكانت لهم الرياسة في مكة والحرم، فهم من أشراف قبائل العرب؛ انظر: "معجم أعلام متن الحديث"، لمحمد التنوخي (290).
(فَتَمَعَّرَ وجه رسول الله؛ لما رأى بهم من الفاقة): تمعَّر؛ أي: تغيَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما شقَّ عليه حين رأى فقرَهم.
(حتى رأيت كَومين من طَعامٍ وثيابٍ): كومين: بفتح الكاف وضمها، بالضم: اسم لما كُوِّم، والكَوم – بالفتح -: اسم للمكان المرتفع كالرابية، والأولى هنا الفتح؛ لأن المقصود الكثرة والتشبيه بالرابية، وهذا اختيار القاضي عياض والقُرطبي؛ انظر: "شرح مسلم"، للنووي (7 / 1017)، "والمفهم" (3/62).
(حتى رأيت وجه رسولِ الله يَتَهَلَّلُ كأنه مُذْهَبَةٌ): مُذْهَبَة: ضُبِطَت على وجهين، أشهرهما بالذال، ثم هاء مفتوحة، ثم باء، والمعنى: كأنه آلة أو فضة مذهبة، الوجه الثاني: (مدهنة) بالدال والنون، ذكره الحُميدي في "الجمع بين الصحيحين" ولم يَذكر غيره، والمدهن هو الإناء الذي يُدهن فيه، وهو أيضًا اسم للنقرَة في الجبل يستجمع فيه ماءُ المطر، وهذا يُوحي بتشبيه صفاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم بصفاء هذا الماء، والأول أشهرُ، واختاره القاضي عياض والنوويُّ، وهو أبلغ في حُسنِ الوجه وإشراقه، وحَكَمَ القاضي عياض وغيره من الأئمة على الوجه الثاني بالتصحيف؛ انظر: "شرح النووي لمسلم"، "والمفهم"، نفس المرجع السابق.
((مَن سَنَّ في الإسلام سُنةً حسنة)): سَنَّ في الإسلام؛ أي: ابتدأها، كما دلَّ عليه حديث الباب، ومثله من سَنَّ سُنة سيئة؛ أي: ابتدأها، فكان سببًا للاقتداء به، فعليه وِزرُها ووزرُ من عمل بها بعده.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دَلالة على الحثِّ على الصدقة، ولو بشيء قليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولو بشقِّ تَمرَةٍ)).
الفائدة الثانية: الحديث يدلُّ على عطفِ النبي صلى الله عليه وسلم حينما يَرى صاحب الحاجة، فيهتمُّ به وله، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ليتغيَّر وجهه، ويدخل ويَخرج؛ لِمَا هو عليه من مَشقَّة ما رأى، ويَحثُّ أصحابه على المواساة، وفي الحديث بيان ما كان عليه الصحابة من الفاقة.
الفائدة الثالثة: الحديث يدلُّ على مُبادرة الصحابة وتسابقهم إلى الخير والصدقة، ودفع حاجة المحتاجين، وشفقة بعضِهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى.
الفائدة الرابعة:الحديث فيه بيان فَرح النبي صلى الله عليه وسلم وتَهلُّل وجهه؛ لما رآه من التعاون، والمبادرة للخيرات، وسدِّ حاجة المحتاجين، وهكذا ينبغي للمسلم حينما يَرى مثل هذه الصور من التعاون على الخير أنْ يَفرحَ، ويُظهِر سرورَه.
الفائدة الخامسة:الحديث فيه دَلالة على استحباب إحياء السُّننِ الحسنة، وإحياؤها يكون بإبرازها وإظهارها والابتداء بها - كما في الحديث - ففي الحديث أنَّ الناس تتابعوا بصدقاتهم بعدما جاء الرجل بصُرَّة كادت كَفُّه تَعجِز عنها، فكان كالقُدوة لهم، فله مثل أجر من عمل بعده.
الفائدة السادسة:الحديث فيه دَلالة على التحذير من سَنِّ السنن السيئة، والابتداء بها، ونشرها وإبرازها؛ فإن عليه وزرها - أي: إثمها - وإثم من عمل بها من بعده.
وبناءً على ما سبق يُؤخذ من حديث الباب أنَّ السُّنة على قسمين:
1- سُنَّة سيئة:ويَدخل فيها البدعة من باب أولى؛ بل إن بعضَ أهل العلم يفسرها في الحديث بالبدعة.
2- سُنَّة حسنة:وهي التي يَسنُّها المسلم؛ إما بالابتداء بها، فيكون أول مَن يُبادر بها، فيقتدي به من يراه ويعمل مثل عمله، فيكون له مثل أجر من عمل، كما فعل الرجلُ الذي ابتدأ الصدقة ثم تتابعَ الناس بعده، فليس في الحديث أنه أظْهرَ سُنَّة مَجهولة؛ فالصدقة معروفة عند الصحابة، ولكنَّه ابتدأ التصدق وتأثَّر الناس بمبادرته، أو بإظهارها وإبرازها حينما تكون السُّنة مجهولة يَخفى على الناس سنُّها، أو مهجورة لا يَعمل بها أحد، فيُظهِرها، فيكون بفعله نبَّه مَنْ جَهلَها أو هجَرها، فصار دالاًّ على الخير، ومحييًا لسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بُدَّ أن يُراعي في تطبيقه للسنة المندثرة حالَ الناس وتقبُّلَهم لها، والحال والوقت الأفضل الذي لا يَترتَّب عليه مَفسدة؛ فقد يستنكر الناس السُّنة المندثرة؛ بسبب تقصير صاحب السُّنة في مراعاة الحال، أو الوقت، أو المكان، أو الاستدلال لهذه السنة ونقل كلام أهل العلم عليها.
قال شيخُنا ابن عثيمين في شرحه لحديث الباب: "وفي هذا الحديثِ الترغيبُ في فِعل السُّنن التي أُميتَتْ وتُركت وهُجرت، فإنه يُكتب لمن أحياها أجرُها وأجر من عمل بها، وفيه التحذير من السُّنن السيئة، وأن مَن سَنَّ سُنة سيئة، فعليه وِزرُها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، حتى لو كانت في أول الأمرِ سَهلة ثم توسعت، فإن عليه وزرَ هذا التوسع، مثل: لو أن أحدًا من الناس رخَّص لأحدٍ في شيء من المباح الذي يكون ذريعة واضحة إلى المحرَّم وقريبًا، فإنه إذا توسَّع الأمرُ بسبب ما أفتى به الناسَ، فإن عليه الوزرَ ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، نعم لو كان الشيء مُباحًا ولا يُخشى منه أن يكون ذريعة إلى مُحرَّم، فلا بأس للإنسان أن يبيِّنه للناس".
الفائدة السابعة:استدلَّ بحديث الباب مَن قَسَّم البدعة إلى قسمين: بِدعة حسنة، وبدعة سيئة، ووجه الدَّلالة عندهم تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى سُنَّة حسنة وسنة سيئة، وقالوا: مَن سنَّ؛ أي: مَن ابتدع، وهذا التقسيم مأثور عن الإمام الشافعي والنووي؛ انظر: "مناقب الشافعي" (1/ 469)، "ومجموع الفتاوى" (20/ 63)، وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات"، للنووي (2/ 22)، مادة (بدع).
واختار النوويُّ تقسيمًا آخر، فقال: "البِدعُ خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومُحرَّمة، ومَكروهة، ومُباحة"، واختاره الحافظُ ابن حجر؛ انظر: "شرح مسلم" (7/146)، "والفتح" (13/253).
وهو اختيار العزِّ بن عبدالسلام، وتلميذه القرافي؛ انظر: "قواعد الأحكام" (172)، وانظر: "الفروق"، للقرافي (4/202).
ولأنَّ هذه مسألة مُهمَّة يَنبني عليها جواز ما يفعله بعضُ الناس اليوم من عدمه، من أعمال وعبادات لا دليلَ عليها؛ بحُجَّة أنها من قبيل السُّنة الحسنة، كإحياء ليلة لمَولِد النبي صلى الله عليه وسلم وليلة الإسراء والمعراج، والتعبُّد بأذكار وطُرق لم تَرِدْ في السُّنة؛ كان من المهم ذكرُ الخلاف فيها.
فأصحاب القول الأول قالوا بالتقسيم السابق، وأن هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة:
واستدلوا:
1- بالحديث السابق؛ حديث جرير.
2- حديث أبي هريرة عند مُسلم: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن دعا إلى هُدى، كان له من الأجر مثل أجور مَن تَبِعه، لا يَنْقُص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا)).
ووجه الدَّلالة: أنهم فسَّروا ((من دعا إلى هدى)) بتفسير البدعة الحسنة.
ونوقِش هذان الاستدلالان بما يلي:
أ- أن حديث جرير السابق لا يدلُّ على هذا التقسيم؛ لأنَّ المقصود بالسُّنة الحسنة: هي السنة التي لها أصلٌ في الشرع؛ بدليل مناسبة الحديث، فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على السُّنة الحسنة بعدما رأى ذلك الرجل الذي جاء بصُرَّةٍ كادت كفُّه تعجز عن حملها ليخرجها صدقة، والصدقة موجودة في أصل الشرع، وليست سُنَّة مُخترعة ومُبتدعة، وعليه يُحمل الحديث الآخر أيضًا.
ب- أن السُّنة الحسنة والسيئة لا يُمكن معرفتهما إلا من جهة الشرع، فالتحسين والتقبيح مُختص بالشرع، لا مَدخلَ للعقل فيه، وكذا الدعوة إلى الهدى.
ج- أن الحديث ليس فيه سوى السُّنة الحسنة والسُّنة السيئة، وليس فيه ذكرٌ للبدعة أبدًا، وكذلك الحديث الآخر، ففي الحديث الدعوة إلى الهدى، وليس إلى الابتداع والإحداث.
د- أن حديثَ جرير السابق فيه دليل على مُحاربة البدع، لا الحث عليها، ووجه ذلك أنَّ له شِقَّين: الأول: الحثُّ على السُّنة الحسنة، وأفضل توضيح لها النظرُ في مناسبة الحديث؛ فقد جاءت في الصدقة، والصدقة مَشروعة، فالسُّنة الحسنة تُحمل على ما هو مشروع، والشقُّ الثاني: السُّنة السيئة، ويَدخل في عمومها البدع من باب الأولى.
انظر: "الاعتصام"، للشاطبي (1/182)، وانظر: "موقف أهل السُّنة والجماعة من أهل الأهواءِ والبدع"، للدكتور إبراهيم الرحيلي (114)، وانظر: "البدعة وأثرها"، لسليم الهلالي (26)، وانظر: "أقسام البدعة وأحكامها"، للدكتور أحمد عبدالكريم (232-236).
3- استدلوا بما أحدثه الصحابة - رضوان الله عليهم - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من السُّننِ المستحسنة، ولم يُنكر عليهم النبيصلى الله عليه وسلم ومن أمثلة ذلك:
أ- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، حدِّثني بأرجى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة))، فقال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهَّر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهار، إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتِبَ لي أن أصلِّي.
ب- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري في قصة قَتْلِِِ خُبيب بن عَدي - رضي الله عنه - وقبل أن يقتلوه، قال: دَعُوني أصلِّي ركعتين، فكان أوَّل من سَنَّ ركعتين عند القتل.
ج- حديث رِفاعة بن رَافع - رضي الله عنه - في قصة الرجل الذي دَخَل مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ بعد الركوع: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مُباركًا فيه"، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُ بضعة وثلاثين مَلكًا يبتدرونها، أيُّهم يَكتبُها أولاً))؛ مُتَّفقٌ عليه، وهناك أمثلة أخرى في السُّنة النبوية.
ونوقِشَ هذا الاستدلال بما يلي:
1- أنَّ هذه الأعمال من الصحابة - رضوان الله عليهم - ليست من السُّنن المستحسنة بلا دليل؛ وإنما من الأعمال التي تُعرض على الشرع، فإن أقرَّها، وإلا كانت ضَلالاً.
2- هذه الأفعالُ وغيرها بلغَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأقرَّ منها وأنكر، ولو لم يَكن بابُ العبادات مبنيًّا على التوقيفِ، لأقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ أعمال الصحابة - رضوان الله عليهم - فقد وَرَد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنكر على أصحابه الخَوضَ في القَدَر، وإطراءه بشيءٍ لا يَليق إلا بالله - عز وجل - وأنكر تزكيةَ الصحابة بعضهم لبعض، والاعتماد على الحَبْلِ لدفعِ النوم في قيام الليل، وترك النكاح، ومُواصلة الصيام والقيام، وغيرها من الأمثلة التي فعلها الصحابة مُريدين بها اللهَ والدار الآخرة، وهذا يدلُّ على أن فعلهم قد يُقرُّ وقد يُنكر فيما فعلوه استحسانًا.
3- أن ما أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أفعال الصحابة - رضوان الله عليهم - هو من قَبيل السُّنة لا البدعة، فهو سُنَّة تقريرية، وإقرارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ؛ مِن أجل إقراره، لا من أجل عَمَلِ الصحابي.
4- أنَّ الإقرار انقطع بموت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقريره صلى الله عليه وسلم تشريعٌ انتهى بوفاته.
5- أنَّ قولهم بأن الصحابة ابتدعوا بدعًا حَسَنة ووافقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَلزم منه أن يُقال: إنَّ إبليس قد ابتدع أو سَنَّ سُنَّة حَسنة، حينما أرشَدَ لقراءة آية الكُرسي لمن أوى إلى فراشه، وقصتُه مع أبي هريرة - رضي الله عنه - حينما سَرقَ الشيطانُ من مال الزكاة ثلاثةَ أيام، وأنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - يُريد أن يرفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي الحديث أنَّ الشيطان علَّمه آيةَ الكرسي وفَضْلَ قولها عند النوم، مُقابل ألاَّ يرفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفعل، وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال: ((صدقَكَ وهو كَذوبٌ))، فهل نقولُ: إنَّ هذه سُنَّة نبوية تقريرية، أو بدعة إبليسية (حسنة)؟! لا شكَّ أن القولَ بالثاني ضلالٌ بعيدٌ لا يقوله أحدٌ.
4- استدلوا بما أحدَثَه بعضُ الصحابة وصرَّحوا بأنها بدعة وأقرُّوها، ولم تكن ضلالة، وأقوى ما تمسَّكوا به من الآثار فِعْلُ عُمَرَ - رضي الله عنه - حين جَمَعَ المسلمين على إمامٍ واحد في رمضان، وهو أُبَيُّ بن كعب - رضي الله عنه - وقوله: "نِعْمَ البِدعةُ هذه"؛ رواه البخاريُّ من حديث عبدالرحمن بن عَبدٍ القاريِّ.
ونوقِشَ هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أنَّ المراد بذلك البدعة اللغويَّة لا الشرعيَّة؛ لأنَّ عمر - رضي الله عنه - فعل ما شرعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكنه ابتدأه في عصره بعدما انقَطعَ؛ فسُمِّي بدعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "أكثر ما في هذا تَسميةُ عمر - رضي الله عنه - تلك بدعة، مع حُسْنها، وهذه تسمية لُغويَّة، لا تسمية شرعيَّة؛ وذلك لأنَّ البدعة في اللغة تَعمُّ كل ما فُعل ابتداءً من غير مثالٍ سابق، وأما البدعة الشرعية، فما لم يدل عليه دليل شرعي"؛ انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (59).
وقال ابنُ رجب: "ما وقع في كلام السَّلف من استحسان بعضِ البدع، ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية"؛ انظر: "جامع العلوم والحكم"، لابن رجب (1/266).
والوجه الثاني: أنَّ ما فَعله عُمر - رضي الله عنه - ليس بدعة أصلاً؛ بل هو سُنَّة، ووجه ذلك:
أولاً:أن الصلاة في ليالي رمضان له أصلٌ في الشرع؛ فهو من فِعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد خَرجَ وصلَّى بهم الليلة الأولى والثانية والثالثة من رمضان، وصلَّى معه رجال، ثم لم يَخرُجِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خَشيةَ أن تُفترضَ عليهم الصلاة فيعجِزوا، والحديث مُتفقٌ عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.
ثانيًا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَّ على أداء الصلاة جماعةً في ليالي رمضان، فقال: ((مَن قام مع الإمامِ حتى يَنصرفَ، كُتِبَ له قيامُ ليلة))؛ رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وهذا الحديث فيه الحثُّ على قيام رمضان جماعة، وما حَثَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يكون بدعةً، وهذا هو فِعلُ عمر - رضي الله عنه - فهو سُنَّة نبوية شريفة.
ثالثًا:أنَّ جمعَ الصحابة - رضوان الله عليهم - على إمامٍ واحد في التراويح، وقع في زمن الخِلافة الراشدة، وبأمرٍ من خليفةٍ راشد أُمِرنا باتباع سنته، وهو عُمر - رضي الله عنه - وأعمالُ الخلفاء الراشدين تندرجُ تحت السُّننِ لا البدع؛ لحديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنَّتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ))؛ رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ورواه ابن ماجه.
وهذا الحديث يُفيد أن ما فعله الخلفاءُ الراشدون مما لم يَكنْ على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو سُنَّة مُتَّبعة وليس بدعة، كزيادة عثمان - رضي الله عنه - النداء الثالث يوم الجمعة، وقِتال أبي بكر - رضي الله عنه - لمانعي الزكاة، ونحوهما من الأعمال.
رابعًا:إجماع الصحابة السُّكوتي على مُوافقة عُمر - رضي الله عنه - في فعله، فلم يُعرف له مُنكِر على فعله، فدلَّ على أنه سُنة لا بدعة شرعيَّة.
هذه هي أدلة القول الأول مع مناقشتها.
والقول الثاني: إنه لا يُوجد في الشرع بدعة حسنة، فكلُّ البدع مُنكَرة، وهذا قولُ الإمامين أبي حنيفة وأحمد.
قال الإمام أبو حنيفة: "عليك بالأثر وطريقةِ السَّلف، وإياك وكلَّ مُحْدَثة؛ فإنها بدعة"؛ انظر: "ذم التأويل"، لابن قُدامة المقْدسي (13).
وقال الإمام أحمد بن حنبل: "أصول السنَّة عندنا التمسكُ بما كان عليه أصحاب رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة"؛ انظر: "ذم التأويل"، لابن قُدامة (32)، ثم قال: وقال ابن المديني مثل ذلك.
استدلَّ أصحابُ هذا القول بأدلة نقليَّة، وأدلة عقليَّة:
أولاً: الأدلة النقليَّة:
1- حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه – وفيه: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فعليكم بسنَّتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ مُحدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه.
ووجه الدلالة:أنَّ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) نصٌّ في المسألة؛ حيث إن لفظَ (كل) لفظٌ عام يَستغرقُ جميع أفراده، ولا يَخرُجُ فردٌ من الأفراد إلا بمخصِّص، ولا مُخصِّص هنا، وهذا الحديث لم يُفرِّق بين بدعة وبدعة أخرى.
- قال ابن رجب: "((كل بدعة ضلالة)) من جَوامع الكلم، لا يَخرجُ عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين"؛ انظر: "جامع العلوم والحكم" (1/266).
- وقال الشاطبيُّ: "قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) محمولٌ عند العلماء على عمومه، لا يُستثنى منه شيء ألبتة، وليس فيها ما هو حسنٌ أصلاً؛ إذ لا حسن إلا ما حسَّنه الشرع، ولا قبيح إلا ما قبَّحه الشرع، فالعقل لا يحسِّن ولا يقبِّح؛ وإنما يقول بتحسين العقل وتقبيحه أهلُ الضلال.
انظر: "فتاوى الإمام الشاطبيِّ" (181 - 180).
وقال أيضًا: "والحاصل أنَّ البدع لا تَنقسمُ إلى ذلك الانقسام؛ بل هي من قَبيل المنهي عنه؛ إما كَراهةً، وإما تحريمًا"؛ انظر: "الاعتصام" (1/211).
2- حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خَطبَ، احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبه، حتى كأنه مُنذرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، يقول: ((أما بعد، فإن خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهَدي هَديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالةٌ))؛ رواه مسلم، وفي رواية لابن ماجه: ((وكل مُحدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))، وفي رواية للنسائي: ((وكل ضلالة في النار)).
3- حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))؛ مُتَّفقٌ عليه.
قال ابن رجب: "كل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدِّين، ولم يَكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين منه بريء"؛ انظر: "جامع العلوم والحكم" (1/266).
4- إنكار النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأفعالٍ وتصرفاتٍ وقعتْ للصحابة - رضوان الله عليهم - أرادوا بها التزوُّد في العبادة، وتقدَّم بيانُ ذلك.
5- استدلُّوا بفَهم الصحابة - رضوان الله عليهم - لأحاديث النهي عن البدع، وأنها تتناول كلَّ بدعة، ومن أمثلة ذلك:
• قول ابن عُمر - رضي الله عنه -: "كلُّ بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حَسنة"؛ وسنده صحيح كما قال الألبانيُّ في "تخريج إصلاح المساجد" (13).
• قول مُعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "إياكم وما ابتُدع؛ فإن ما ابتُدع ضلال"؛ رواه أبو داود (4611).
ثانيًا: الأدلة العقلية: وهي كثيرة، منها:
1- أن القولَ بالبدعة الحسنة مَفسدة للدين، ومَنفذ لأعداء الدين أن يُدخِلوا فيه ما ليس منه، فكلُّ ما استحسنتْه عقولُهم أدخلوه بحُجَّة البدعة الحسنة، وهم منافقون كاذبون يُريدون هدمَ الدين.
2- إن جازت الزيادة في الدين باسم البدعة الحسنة، جَازَ أن يَستحسنَ مُستحسنٌ حذف شيءٍ من الدين ونقصه باسم البدعة الحسنة.
3- أن العقولَ كثيرٌ منها لا يتوافق، فما تراه بدعة حسنة، لا يراه غيرُك كذلك، وربَّما يُنكره، وهذا يُؤدي إلى الافتراق.
4- أنَّ تصرفَ المخلوقين في الشرائع مُغيِّر لها لا محالة، وبهذا فَسدتْ كُتب الأديان السالفة، واستحسان ما لم يَكنْ من الدين بحُجَّة البدعة الحسنة، يُغيِّر من الشرع ويَزيد فيه شيئًا كثيرًا.
وعند التأمُّل فإنَّ هناك من الأدلة العقلية الشيء الكثير ما يَردُّ القول باستحسان أعمال لا دليلَ عليها وإدخالها في الشرع، ولا شكَّ أنَّ القولَ الثاني هو الأظهر والله أعلم، ويَكفي في ذلك أنْ نردِّد في قلوبنا وأعمالنا قولَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة))، والله - تعالى - أعلم وأحكم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله صحبه أجمعين.
للاستزادة انظر: "البدع والحوادث"، للطرطوشي، "والبدع والنهي عنها"، لابن وضَّاح، "وتنبيه الغافلين"، لابن النحاس.
مُستلَّة من شرح صحيح مسلم، كتاب الزكاة؛ للشيخ عبدالله بن حمود الفريح.
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح
مآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآجده
مآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآجده