كل واحد منَّا إذا تأمَّل في تركيب بدنه، والتناسُق بين أعضاء جسده، وكيف أن الله تعالى اختار أن يكون كل عضو في موقعه الذي هو فيه، وشاء - جلَّ وعلا - أن يضعه في محله الذي يناسبه، ويؤدي وظيفته المناطة به، فإن المؤمنَ حين يتدبَّر ذلك، ويستشعر قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، يزداد إيمانه بخالقه، الذي أوجده على هذه الهيئة البديعة، وخلقه بهذه الصورة الفريدة، وتظهر له عظمة الخالق، وقدرته على كل ما يشاء وما يريد، فتضيء قلبَ المؤمن تلك الآياتُ الباهرات، وتسطع له أنوار اليقين، وتنمحي من قلبه غمرات الشك والريب، وتنقشع عنه ظلماتُ الجهل، وغياهب الضلالة.
إن أدلة التوحيد على ربِّه ناطقات، شاهدةٌ بعظمة مدبِّره، ومرشدةٌ إلى بديع صنعه، فهذا الإنسان مكون من قطرة ماء، تقلبتْ وانتقلت من طور إلى آخر حتى أصبحت عظامًا، ثم كساها - سبحانه وتعالى - باللحم، وشدها بالأعصاب والأوتار، ونسجها بالعروق، وخلق الأعضاء وركَّبها تركيبًا بديعًا متناسقًا، لا تحيط العقول البشرية بأسراره، ولا تدرك الأفهام الإنسانية حقيقته وكنهه.
وتوضح الآيات القرآنية الكريمة مراحل التخلُّق البشري، وتبينها، ويصفها الباري في قوله - جل من خالق -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].
إذًا؛ فالقرآن الكريم وضَع لكل مرحلة من مراحل الخلق مسمى خاصًّا، وعَبَّرَ بدقةٍ عن التطورات التي تقع في تلك المراحل، حسب تسلسلها الزمني، حيث فصل بين كل مرحلة منها بحرف العطف (ثم)، الذي يدل على التراخي الزمني بين تلك الأطوار، فأول تلك المراحل: النطفة في رحم الأم، الذي هيَّأه الله تعالى وأعدَّه لأن توضع فيه، فهو المراد بقوله سبحانه: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13]؛ حيث هو الموضع من الجسم الذي يتخلَّق فيه الجنين، ويعيش فيه حتى ولادته.
ثم تكون مرحلة التخليق، التي يتتابع فيها خلق الجنين، حيث تأتي مرحلة العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم كساء العظام باللحم، ويتميز هذا الطور بانتشار العضلات حول العظام، وإحاطتها بها، كما يحيط الكساء بلابسه، وتبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال إذا تمت مرحلة كساء العظام باللحم، كما يوضح ذلك علماء الإعجاز القرآني، ويبينون أن أجزاء الجسم ترتبط ببعضها وتكون أكثر تناسقًا، ويمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك بعد تمام تكوين العضلات.
ويقول علماء الإعجاز:[1]إن مرحلة النشأة {خَلْقًا آَخَرَ} [المؤمنون: 14]، التي وردتْ في أواخر الآية، بعد مرحلة الكساء باللحم - تبدأ من الأسبوع التاسع؛ حيث تأخذ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال، ويتحدد جنس الجنين بصفة نهائية، وفي الأسبوع الثاني عشر يتطور بناء الهيكل العظمي، ويظهر الشعر على الجلد، ويزداد حجم الجنين، وتصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها.
وفي هذه المرحلة يتم نفخ الرُّوح، طبقًا لما دلتْ عليه نصوص القرآن والسنة، وقد ورد في الحديث وصف لتلك المراحل؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم يجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد))؛ رواه البخاري ومسلم.
وحين يكتمل خلق الإنسان، ويتهيأ للحياة بعد الشهر السادس، يدخل الجنين في فترة حضانة تتم في الرحم، ويوفر الرحم الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين، وتستمر هذه المرحلة إلى طور المخاض والولادة، حيث يبدأ طور المخاض بعد مرور تسعة أشهر قمرية، وينتهي بولادة الجنين، ويمثل هذا الطور مرحلة التخلِّي عن الجنين، ودفعه خارج الجسم كما يعبر عن ذلك علماء الإعجاز، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20].
أي: سَهَّل للجنين طريقًا لتيسير ولادته يخرج منه، ويبين الأطباء أنه عند بدء المخاض تقوم المشيمة والمبيضان بإفراز هرمون "ريلاكسين" Rilaksien، الذي يؤدي إلى تراخي أربطة مفاصل الحوض، وتليين عُنُق الرحم، كما تبدأ التقلُّصات في الجزء العلوي من الرحم، الذي يتكون من نسيج العضلات المتقلصة المتحركة النشطة، حيث تؤمن قوة لازمة لدفْع الجنين خلال الجزء السفلي الساكن الرقيق من الرحم، كما تبرز الأغشية الممتلئة بالسائل المخاطي على شكل كيس مائي، من خلال عُنق الرحم مع كل تقلص من تقلُّصاته، وتعمل على تسهيل تمدده، وتؤمِّن هذه الأغشية - بعد تمزقها - سطحًا لزجًا ناعمًا ينزلق الجنين عليه، فتبارك الله من خالق عظيم.
وإذا كان علماء الإعجاز في عصرنا هذا قد أوضحوا تلك الحقائق التي قرَّرها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ نظرًا لتوفر الإمكانات العلمية، والأجهزة الدقيقة المتقدمة، فإني أورد هنا - أيضًا - كلام العلامة ابن القيم - رحمه الله - الذي أشار إلى كثير مما يعلنه الأطباء اليوم، رغم افتقاره - في ذلك الزمن - إلى الأجهزة العلميَّة التي تقدم البراهين التجريبية؛ يقول - رحمه الله -:
"إن الجنين ما دام في بطن أمه قبل كماله واستحكامه، فإن رطوباته وأغشيته تكون مانعة له من السقوط، فإذا تمَّ وكمل ضعفت تلك الرطوبات، وانتهكت الأغشية، واجتمعت تلك الرطوبات المزلقة فسقط الجنين".
ثم يوضح - رحمه الله - سبب بكاء الصبي عند الولادة، ويذكر أن لذلك سببين:
أحدهما: أن حكمة الله تعالى اقتضتْ أن وَكَّلَ بكل واحدٍ من بني آدم شيطانًا، فهو ينتظر خروجه ليقارنه، فإذا انفصل استقبله الشيطان، وطعنه في خاصرته غيظًا عليه، فيصرخ المولود من تلك الطعنة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صياح المولود حين يقع نزغةٌ من الشيطان))؛ رواه مسلم.
وأما السبب الثاني لصراخه فهو: لِمُفارقته ما ألفه وما تعوَّد عليه وخروجه إلى حال غريب، وانتقاله من جسم حار إلى هواء بارد، ومكان لَم يألفه، فيستوحش من مفارقة وطنه ومألفه؛ والله أعلم.
وكل ذلك مما يدعو إلى التفكر في عظيم مخلوقات الله، والتأمل في أنفسنا، والاستدلال بما في ذلك من الإعجاز الدال على عظمة الخالق، واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له، وصدق إذ قال في كتابه الكريم: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
ــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: علم الأجنَّة (مطبوعات الرابطة).
إن أدلة التوحيد على ربِّه ناطقات، شاهدةٌ بعظمة مدبِّره، ومرشدةٌ إلى بديع صنعه، فهذا الإنسان مكون من قطرة ماء، تقلبتْ وانتقلت من طور إلى آخر حتى أصبحت عظامًا، ثم كساها - سبحانه وتعالى - باللحم، وشدها بالأعصاب والأوتار، ونسجها بالعروق، وخلق الأعضاء وركَّبها تركيبًا بديعًا متناسقًا، لا تحيط العقول البشرية بأسراره، ولا تدرك الأفهام الإنسانية حقيقته وكنهه.
وتوضح الآيات القرآنية الكريمة مراحل التخلُّق البشري، وتبينها، ويصفها الباري في قوله - جل من خالق -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].
إذًا؛ فالقرآن الكريم وضَع لكل مرحلة من مراحل الخلق مسمى خاصًّا، وعَبَّرَ بدقةٍ عن التطورات التي تقع في تلك المراحل، حسب تسلسلها الزمني، حيث فصل بين كل مرحلة منها بحرف العطف (ثم)، الذي يدل على التراخي الزمني بين تلك الأطوار، فأول تلك المراحل: النطفة في رحم الأم، الذي هيَّأه الله تعالى وأعدَّه لأن توضع فيه، فهو المراد بقوله سبحانه: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13]؛ حيث هو الموضع من الجسم الذي يتخلَّق فيه الجنين، ويعيش فيه حتى ولادته.
ثم تكون مرحلة التخليق، التي يتتابع فيها خلق الجنين، حيث تأتي مرحلة العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم كساء العظام باللحم، ويتميز هذا الطور بانتشار العضلات حول العظام، وإحاطتها بها، كما يحيط الكساء بلابسه، وتبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال إذا تمت مرحلة كساء العظام باللحم، كما يوضح ذلك علماء الإعجاز القرآني، ويبينون أن أجزاء الجسم ترتبط ببعضها وتكون أكثر تناسقًا، ويمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك بعد تمام تكوين العضلات.
ويقول علماء الإعجاز:[1]إن مرحلة النشأة {خَلْقًا آَخَرَ} [المؤمنون: 14]، التي وردتْ في أواخر الآية، بعد مرحلة الكساء باللحم - تبدأ من الأسبوع التاسع؛ حيث تأخذ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال، ويتحدد جنس الجنين بصفة نهائية، وفي الأسبوع الثاني عشر يتطور بناء الهيكل العظمي، ويظهر الشعر على الجلد، ويزداد حجم الجنين، وتصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها.
وفي هذه المرحلة يتم نفخ الرُّوح، طبقًا لما دلتْ عليه نصوص القرآن والسنة، وقد ورد في الحديث وصف لتلك المراحل؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم يجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد))؛ رواه البخاري ومسلم.
وحين يكتمل خلق الإنسان، ويتهيأ للحياة بعد الشهر السادس، يدخل الجنين في فترة حضانة تتم في الرحم، ويوفر الرحم الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين، وتستمر هذه المرحلة إلى طور المخاض والولادة، حيث يبدأ طور المخاض بعد مرور تسعة أشهر قمرية، وينتهي بولادة الجنين، ويمثل هذا الطور مرحلة التخلِّي عن الجنين، ودفعه خارج الجسم كما يعبر عن ذلك علماء الإعجاز، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20].
أي: سَهَّل للجنين طريقًا لتيسير ولادته يخرج منه، ويبين الأطباء أنه عند بدء المخاض تقوم المشيمة والمبيضان بإفراز هرمون "ريلاكسين" Rilaksien، الذي يؤدي إلى تراخي أربطة مفاصل الحوض، وتليين عُنُق الرحم، كما تبدأ التقلُّصات في الجزء العلوي من الرحم، الذي يتكون من نسيج العضلات المتقلصة المتحركة النشطة، حيث تؤمن قوة لازمة لدفْع الجنين خلال الجزء السفلي الساكن الرقيق من الرحم، كما تبرز الأغشية الممتلئة بالسائل المخاطي على شكل كيس مائي، من خلال عُنق الرحم مع كل تقلص من تقلُّصاته، وتعمل على تسهيل تمدده، وتؤمِّن هذه الأغشية - بعد تمزقها - سطحًا لزجًا ناعمًا ينزلق الجنين عليه، فتبارك الله من خالق عظيم.
وإذا كان علماء الإعجاز في عصرنا هذا قد أوضحوا تلك الحقائق التي قرَّرها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ نظرًا لتوفر الإمكانات العلمية، والأجهزة الدقيقة المتقدمة، فإني أورد هنا - أيضًا - كلام العلامة ابن القيم - رحمه الله - الذي أشار إلى كثير مما يعلنه الأطباء اليوم، رغم افتقاره - في ذلك الزمن - إلى الأجهزة العلميَّة التي تقدم البراهين التجريبية؛ يقول - رحمه الله -:
"إن الجنين ما دام في بطن أمه قبل كماله واستحكامه، فإن رطوباته وأغشيته تكون مانعة له من السقوط، فإذا تمَّ وكمل ضعفت تلك الرطوبات، وانتهكت الأغشية، واجتمعت تلك الرطوبات المزلقة فسقط الجنين".
ثم يوضح - رحمه الله - سبب بكاء الصبي عند الولادة، ويذكر أن لذلك سببين:
أحدهما: أن حكمة الله تعالى اقتضتْ أن وَكَّلَ بكل واحدٍ من بني آدم شيطانًا، فهو ينتظر خروجه ليقارنه، فإذا انفصل استقبله الشيطان، وطعنه في خاصرته غيظًا عليه، فيصرخ المولود من تلك الطعنة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صياح المولود حين يقع نزغةٌ من الشيطان))؛ رواه مسلم.
وأما السبب الثاني لصراخه فهو: لِمُفارقته ما ألفه وما تعوَّد عليه وخروجه إلى حال غريب، وانتقاله من جسم حار إلى هواء بارد، ومكان لَم يألفه، فيستوحش من مفارقة وطنه ومألفه؛ والله أعلم.
وكل ذلك مما يدعو إلى التفكر في عظيم مخلوقات الله، والتأمل في أنفسنا، والاستدلال بما في ذلك من الإعجاز الدال على عظمة الخالق، واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له، وصدق إذ قال في كتابه الكريم: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
ــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: علم الأجنَّة (مطبوعات الرابطة).
عبدالكريم بن صنيتان العمري
مجووووووده
مجووووووده