السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحيه طيبه وبعد:
فالحقيقة كنت مكتئبًا بعض الشيء؛ لما آلتْ إليه الظروف، وكنت أفكر أنه يجب أن أتزوج؛ كي أخرج من الذي أعانيه، حتى إني لا أشعر بالمتعة وأنا أتصفح الإنترنت، إلا أنني كتبت على متصفح جوجل وأنا أضحك على نفسي: كيف أتزوج؟!
واكتشفتُ موقعكم، الذي تصفحته وشعرت بالفرحة والراحة في آن واحد، وقرأت منه ما قرأت، وعلمت أن هناك مثلي الكثير الكثير، ومصيبتي هانتْ عليَّ، والحمد لله على كل حال.
أحببت أن أشترك معكم طارحًا الموضوع نفسه، أو موضوعًا مشابهًا إلى حدٍّ ما، ألا وهو مسألة زواجي، التي بتُّ أشعر أنها من سابع المستحيلات، مع وجود أمل كبير في الله - سبحانه - إلا أن ظرفي في الوقت الراهن يقول: إني لن أتزوج؛ فأنا شاب - مثل أي شاب - يحلم بتكوين أسرة متحابة، وخصوصًا لأني الأكبر سنًّا لوالديَّ، فحلمي ليس حلمًا منفردًا، أو يخصني أنا فقط؛ إنما والداي يحلمان أيضًا بأن أتزوج، وإخوتي أيضًا، إلا أنه - كما سبق وأشرت لكم - ظروفي لا تسمح لي هنا.
أبدأ بالحديث أولاً عن ظروف عائلتي التي منعتْني من الزواج، ألا وهي أن أبي عليه دين كبير للبنك، وذلك كان جراء شراء منزل يَأوينا أنا وإخوتي، البالغ عددنا أحد عشر فردًا، كبرنا وترعرعنا، ونعيش سعداء - والحمد لله - رغم كل المعاناة، إلا أن السعادة تضيق مع كثرة الرغبات والمتطلبات اليومية، غير معاناة أبي الذي طلبت منه أن يزوجني فأجهش بالبكاء؛ لعدم مقدرته، ويومها أذكر أني بكيت أنا ووالدتي وجميع إخوتي.
الحمد لله، رزقني الله وظيفةً يسَّرت حالي، إلا أن كل ما كان يدور في رأسي هو تكلفة الزواج؛ حيث إن الزواج في بلدي يكلف آلاف الريالات، فمن أين لي هذه الريالات؟! وأتتْني فكرة أن أقترض مبلغًا من المال؛ لكن فكرت في هذا المال، إن تزوجت سأعيش معاناة أبي التي لم تنتهِ بعدُ، فقررت أن أدخل به مشروعًا أقدر من خلاله أن أُرجع القرض، وأن أتزوج وأعيش حياتي، ولم يكن هذا طمعًا - مثل ما أنَّبني بعض الأصدقاء - إنما فعلاً كنت أحلم بأن أغيِّر من حالتنا المادية والمعيشية، وأن أسدد دَيني ودين أبي وأتزوج، إلا أن الركود الاقتصادي الذي حدث بداية السنة، جعل من مشروعي هباء منثورًا.
وهأنا اليومَ أبلغ مطلع السابع والعشرين، وأعاني سداد دين آلاف الريالات للبنك، وما يتبقى من مرتبي لا يكفيني إلا للعشرة الأولى من أيام كل شهر، وأهلي وأنا نعاني كثيرًا، والحمد لله ربنا ستر علينا، وحالنا تتيسر مرة وتتعقد مرة أخرى، إلا أن فكرة الزواج باتت مستحيلة؛ حيث إن دَيني يتطلب مني أن أستمر في الدفع مدة إحدى عشرة سنة أخرى؛ أي: بعد عمر الثامنة والثلاثين ستنتهي مديونيتي، وفي يومها هل أستدين وأتزوج؟ أم هل أستدين وأعمل مشروعًا آخر؟ أم هل أكون قد نسيت فكرة الزواج وماتت جوارحي؟
أترك لكم المجال في الرد على ما أعانيه؛ لعلي أستمع لكم فيطمئن قلبي لما تقولونه، سائلاً الله - عز وجل - لكم الأجر والثواب، وتقبلوا مني جزيل الشكر والتقدير.
ولكم مني جزيل الشكر.
الجواب:
أنت -يا بني- كتبت وصفاً لنفسك من حيث تدري، ومن حيث لا تدري كتبت وصفاً لمئة ألف شاب مثلك يعيشون في البلد الذي تعيش فيه، ومئة ألف في البلد الذي يجاوره، ومئة ألف في كل بلد من بلداننا التي نعيش فيها، أو مئات آلاف لا مئة ألف فحسب!
لقد عاش الناس متفاوتين في أرزاقهم وأحوالهم على مر الزمان، وهذا التفاوت من سنن الله في خلقه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ}. وهو من أسباب عمارة الدنيا، فلو أن الناس كلهم رُزقوا الرزق الكافي لما احتاج أحدٌ إلى أحد ولا اضطُرّ إنسان إلى عمل، ولماذا يعمل وعنده الرزق الوفير الكثير؟ ولكنه لمّا قُدِر عليه رزقه واحتاج إلى ما يقيم أوده ويسد فاقته عمل ليكسب، فانتفع هو بكسبه وانتفعت الجماعةُ بعمله؛ وهذا هو معنى قوله تبارك وتعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}.
ولربما تقول: ولماذا قضى الله عليّ الفقر ولم يكتب لي الغنى؟ ولا بأس، فقد قالها من قبلك خلقٌ لا يحصيهم العد، ثم مَن رضي منهم بعد ذلك فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ولا يغيّر رضاه أو سخطه القدَر، إنما يستجلب بالرضا رضا الله عليه وبالسخط سخط الله. فارضَ -يا بني- بالقدر، واقرأ مع صدر الآية السابقة خاتمتها البديعة: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، فرحمة الله لك بالهداية يعني أنك ملكت مفاتح الخير في الآخرة، فلا تهتم ويركبك الهمّ إن لم تملكها في الدنيا.
وقد وجدت فكرة جميلة علّق بها الشيخ الشعراوي على هذه الآية (وللشعراوي لفتات جميلة مبثوثة في ثنايا تفسيره يقع عليها القارئ بين حين وحين، وهي من توفيقات الله له رحمه الله)، فهو يقول إن التعبير القرآني ورد في الآية بالإبهام (رفعنا بعضهم فوق بعض)، مما يشير إلى أن "الكل مرفوع ومرفوع عليه، مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر". وهذا حق لو تأملتَه وجدت الدلائل عليه في كل من حولك من الناس، وفيه عزاء لك ولكل من يظن أنه مفضول لأنه رقيق الحال قليل المال.
ثم انظر مع الآية السابقة إلى ما يأتي بعدها: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ *وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا}، وماذا يقول بعد ذلك ربُّ العالمين؟ {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، حسناً، وماذا بعد؟ هنا يأتي الخبر المفرح: {وَالآْخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. ومثلها قوله تعالى بعدما عدّد كنوزَ الدنيا فذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل والأنعام والحرث، بعدما ذكرها كلها عقّبَ فقال (وهو أصدق القائلين): {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.
ولكن هل معنى هذا كله أن تصبر ولا تتزوج؟ لو صنعت ذلك وصنع مثلَه كلُّ من كان في مثل وضعك لارتفعت من الدنيا سنّةُ الزواج، وهذا لا يكون. فماذا تصنع؟ طبعاً تزوج. ستقول: هذا هو ما أريده، لكن كيف أصنع ورزقي لا يكاد يكفيني وحدي اليوم، فكيف أعول زوجة في غد وأولاداً في غداة الغد؟
فأما الرزق فأمره أعجب من أن تحيط به، ولو ظننت أنك أنت الذي ترزق زوجتك وأولادك فقد أخطأت الحساب وأسأت الظن بالله. هل يمكن أن يخطر ببالك أبداً أنك أنت الذي ستخلق أولادك؟ لا يمكن أن تظن ذلك ولا تخطر هذه الخاطرة العجيبة الشاذة لك ببال، لأنك تعلم أن الله هو الخالق. والآن اترك جوابي هذا واذهب فاقرأ بضع صفحات من القرآن وعد إليّ من جديد. حسناً، ماذا رأيت؟ إن أعظم قضيتين أسندهما الله إلى نفسه في قرآنه جميعاً هما الخلق والرزق، ولا بد أنك وجدت مصداق ذلك في الصفحات التي قرأتها للتوّ. ولولا أن أُمِلّك وأُمِلّ غيرَك ممن يقرأ هذا الجواب لسردت عليك مئة آية، بعضها وراء بعض، تحصر الرزقَ في الله بالقوة والصراحة نفسها التي تحصر آياتٌ أخرى فيه الخلقَ، تبارك وتعالى.
هذه الأولى، أما الثانية -وهي الأهم- فهي أن الله عز وجلّ يخص كلَّ مخلوق برزقه. فإذا كانت زوجتك التي كتبها الله لك (والتي لم تعرفها بعد ولا تعرف من تكون)، إذا كان رزقها يأتيها اليوم وهي في بيت أبيها فإنما يُعطاهُ أبوها ليصرفه عليها، فهو وسيلة لإيصال الرزق ما هو بصاحبه، كالمحاسب في قسم من أقسام الشركة الكبيرة يأتيه من الشركة مبلغ الرواتب كاملاً فيفرّقه في الموظفين، فإذا نُقل الموظف من قسم في الشركة إلى قسم غيره نُقل راتبه إلى يد محاسب القسم الجديد ليصرفه له. وفي الحالتين ما زاد الراتب ولا نقص، وفي الحالتين كان المحاسب أميناً على توصيل المال لم يكن هو مالكه ولا اكتسبه بقدرته.
وكذلك الأولاد، ما يأتي من رحم الغيب ولدٌ إلا جاء معه رزقه. وما هذا الذي أقوله كلامي، إنما هو كلام رب العالمين، قال مرة: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، ثم أراد أن يؤكد لنا أننا وأولادنا في الرزق سواء، فقدّم ما كان متأخراً وأخّر ما كان متقدماً في اللفظ فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، وفي هذا التقديم والتأخير من المعاني ما يُعَجّبُ المرءَ لو تأمله المرء بقلب سليم؛ فنحن لا نملك فضلاً على أولادنا في أرزاقهم إلا كما يملكون علينا فضلاً في رزقنا، وما أحدُنا بصاحب فضل على الآخر، إنما الفضل كله لله.
تزوج يا بني، تزوج، ولكن احفظ هذه الوصية وإياك أن تخالفها فتُشقي أو تَشقَى: الناس في معيشتهم في الدنيا طبقات، فطبقة يعيش أهلها في سعة ورخاء، وطبقة في توسط واكتفاء، وطبقة في ضيق وعناء، فإذا ذهبت تتزوج فابحث عن فتاة تنتمي إلى طبقتك وتعيش في بيت أهلها حياة قريبة من الحياة التي يمكن أن تعيشها في بيتك بعد الزواج بك، فمثل هذه البنت لن تطالبك بأكثر مما تستطيع تقديمه لها، وأهلها لن يرزؤوك من النفقات ما لا تطيق. ولكن انتبه وتحرَّ واسأل حتى تتأكد من أن هذه الفتاة تعيش في بيت أهلها راضية بحالها قانعة بقدرها، فإن من هؤلاء البنات مَن تعيش في عقدة الفقر وتنتظر الزواج لتنتقم به من أيام الحرمان، فإذا تزوجتَها ظانّاً أنها قانعة بحالها فوجئتَ بصاحبة نفس لا تشبع، وهذا هو أفظع ما يمكن أن يُبتلى به من كانت حاله كحالك.
وإياك ثم إياك أن تجاري الناس في حماقاتهم ومواضعاتهم الاجتماعية، فتقبل بدفع مهر كبير لا تطيقه، أو إقامة حفل عرس تنفق فيه من المال في ليلة ما يكفيك وزوجتَك سنة، من أجل أن تملأ عيون الناس وتفخر أنت أو زوجتك بمظهر عابر من ورائه شقاء طويل. ومَن تأمّل وجد أن الأفراح والأحزان هي المناسبات التي يفقد فيها أكثرُ الناس عقولَهم، فيهدرون فيها أموالهم ويضحّون فيها بدينهم وبأخلاقهم. وكيف يبارك الله في حياة زوجية تبدأ بمعصية أو بسفاهة وسرف مما لا يرضى عنه الله ولا يبارك فيه؟ فتحرَّ الحلال وتجنب الحرام في مشروع زواجك، واتّبع ما يمليه العقل ولو خالف العرف، واقتصد وتوكل على الله، تَعِشْ سعيداً بإذن الله.
وعليك بعد ذلك كله، وقبل ذلك وفي أثنائه، بالتزام الأدعية المأثورة الواردة في قضاء الدَّين، فاجعلها لك ورداً تتلوه في اليوم مرات، واستحضر مع قراءتها الصدق والإخلاص لعلك توافق ساعة إجابة فيقضي الله دينك من حيث لا تعلم. ولن أطيل بسردها هنا، فإنها مما يعرفه الناس ويتناقلونه بكثرة في الرسائل والمنتديات.
بقيت كلمة لابد منها وإن لم تكن ذات علاقة مباشرة بالسؤال: في أثناء وصفك لمشكلتك وردت عبارة تقول فيها إنك تعاني "من سداد ديون بآلاف الريالات للبنك"، ولم توضح ما هو هذا البنك. فإذا كان دَينك قد نشأ عن معاملة من المعاملات التي تجريها البنوك الإسلامية والتي أقرّها العلماء، بعضهم أو كلهم، كالمرابحة والتورّق وسواهما (ولست هنا في معرض مناقشة أدلّة المبيحين وأدلّة المحرِّمين لهذه المعاملة أو تلك، وقد باتت فتاوى أعلام الفقهاء معروفة في هذه المسائل)، أقول: إذا كان هذا هو منشأ دَيْنك فلا تعقيب لي عليه، أما إذا كان منشؤه قرضاً ربوياً فقد أوقعت نفسك في شرٍّ مما هربت منه، فإنّ كل مصيبة تهون أمام مصير آكل الربا، ومهما بالغتُ وأغربت في التخويف من هذا المصير فلن أبلغ معشار ما تبلغه آية البقرة (رقم 279). فإذا كان هذا حالك فاستغفر الله وتب إليه توبة نصوحاً، فإنْ صَدَقتَ التوبة فأرجو أن يغفر لك الله ويرفع عنك البلاء.
وفقك الله ورزقك الزوجة الصالحة، وأسأله أن يبارك لكما وعليكما ويجمع بينكما على خير ويُنسلكما الذرية الصالحة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحيه طيبه وبعد:
فالحقيقة كنت مكتئبًا بعض الشيء؛ لما آلتْ إليه الظروف، وكنت أفكر أنه يجب أن أتزوج؛ كي أخرج من الذي أعانيه، حتى إني لا أشعر بالمتعة وأنا أتصفح الإنترنت، إلا أنني كتبت على متصفح جوجل وأنا أضحك على نفسي: كيف أتزوج؟!
واكتشفتُ موقعكم، الذي تصفحته وشعرت بالفرحة والراحة في آن واحد، وقرأت منه ما قرأت، وعلمت أن هناك مثلي الكثير الكثير، ومصيبتي هانتْ عليَّ، والحمد لله على كل حال.
أحببت أن أشترك معكم طارحًا الموضوع نفسه، أو موضوعًا مشابهًا إلى حدٍّ ما، ألا وهو مسألة زواجي، التي بتُّ أشعر أنها من سابع المستحيلات، مع وجود أمل كبير في الله - سبحانه - إلا أن ظرفي في الوقت الراهن يقول: إني لن أتزوج؛ فأنا شاب - مثل أي شاب - يحلم بتكوين أسرة متحابة، وخصوصًا لأني الأكبر سنًّا لوالديَّ، فحلمي ليس حلمًا منفردًا، أو يخصني أنا فقط؛ إنما والداي يحلمان أيضًا بأن أتزوج، وإخوتي أيضًا، إلا أنه - كما سبق وأشرت لكم - ظروفي لا تسمح لي هنا.
أبدأ بالحديث أولاً عن ظروف عائلتي التي منعتْني من الزواج، ألا وهي أن أبي عليه دين كبير للبنك، وذلك كان جراء شراء منزل يَأوينا أنا وإخوتي، البالغ عددنا أحد عشر فردًا، كبرنا وترعرعنا، ونعيش سعداء - والحمد لله - رغم كل المعاناة، إلا أن السعادة تضيق مع كثرة الرغبات والمتطلبات اليومية، غير معاناة أبي الذي طلبت منه أن يزوجني فأجهش بالبكاء؛ لعدم مقدرته، ويومها أذكر أني بكيت أنا ووالدتي وجميع إخوتي.
الحمد لله، رزقني الله وظيفةً يسَّرت حالي، إلا أن كل ما كان يدور في رأسي هو تكلفة الزواج؛ حيث إن الزواج في بلدي يكلف آلاف الريالات، فمن أين لي هذه الريالات؟! وأتتْني فكرة أن أقترض مبلغًا من المال؛ لكن فكرت في هذا المال، إن تزوجت سأعيش معاناة أبي التي لم تنتهِ بعدُ، فقررت أن أدخل به مشروعًا أقدر من خلاله أن أُرجع القرض، وأن أتزوج وأعيش حياتي، ولم يكن هذا طمعًا - مثل ما أنَّبني بعض الأصدقاء - إنما فعلاً كنت أحلم بأن أغيِّر من حالتنا المادية والمعيشية، وأن أسدد دَيني ودين أبي وأتزوج، إلا أن الركود الاقتصادي الذي حدث بداية السنة، جعل من مشروعي هباء منثورًا.
وهأنا اليومَ أبلغ مطلع السابع والعشرين، وأعاني سداد دين آلاف الريالات للبنك، وما يتبقى من مرتبي لا يكفيني إلا للعشرة الأولى من أيام كل شهر، وأهلي وأنا نعاني كثيرًا، والحمد لله ربنا ستر علينا، وحالنا تتيسر مرة وتتعقد مرة أخرى، إلا أن فكرة الزواج باتت مستحيلة؛ حيث إن دَيني يتطلب مني أن أستمر في الدفع مدة إحدى عشرة سنة أخرى؛ أي: بعد عمر الثامنة والثلاثين ستنتهي مديونيتي، وفي يومها هل أستدين وأتزوج؟ أم هل أستدين وأعمل مشروعًا آخر؟ أم هل أكون قد نسيت فكرة الزواج وماتت جوارحي؟
أترك لكم المجال في الرد على ما أعانيه؛ لعلي أستمع لكم فيطمئن قلبي لما تقولونه، سائلاً الله - عز وجل - لكم الأجر والثواب، وتقبلوا مني جزيل الشكر والتقدير.
ولكم مني جزيل الشكر.
الجواب:
أنت -يا بني- كتبت وصفاً لنفسك من حيث تدري، ومن حيث لا تدري كتبت وصفاً لمئة ألف شاب مثلك يعيشون في البلد الذي تعيش فيه، ومئة ألف في البلد الذي يجاوره، ومئة ألف في كل بلد من بلداننا التي نعيش فيها، أو مئات آلاف لا مئة ألف فحسب!
لقد عاش الناس متفاوتين في أرزاقهم وأحوالهم على مر الزمان، وهذا التفاوت من سنن الله في خلقه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ}. وهو من أسباب عمارة الدنيا، فلو أن الناس كلهم رُزقوا الرزق الكافي لما احتاج أحدٌ إلى أحد ولا اضطُرّ إنسان إلى عمل، ولماذا يعمل وعنده الرزق الوفير الكثير؟ ولكنه لمّا قُدِر عليه رزقه واحتاج إلى ما يقيم أوده ويسد فاقته عمل ليكسب، فانتفع هو بكسبه وانتفعت الجماعةُ بعمله؛ وهذا هو معنى قوله تبارك وتعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}.
ولربما تقول: ولماذا قضى الله عليّ الفقر ولم يكتب لي الغنى؟ ولا بأس، فقد قالها من قبلك خلقٌ لا يحصيهم العد، ثم مَن رضي منهم بعد ذلك فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ولا يغيّر رضاه أو سخطه القدَر، إنما يستجلب بالرضا رضا الله عليه وبالسخط سخط الله. فارضَ -يا بني- بالقدر، واقرأ مع صدر الآية السابقة خاتمتها البديعة: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، فرحمة الله لك بالهداية يعني أنك ملكت مفاتح الخير في الآخرة، فلا تهتم ويركبك الهمّ إن لم تملكها في الدنيا.
وقد وجدت فكرة جميلة علّق بها الشيخ الشعراوي على هذه الآية (وللشعراوي لفتات جميلة مبثوثة في ثنايا تفسيره يقع عليها القارئ بين حين وحين، وهي من توفيقات الله له رحمه الله)، فهو يقول إن التعبير القرآني ورد في الآية بالإبهام (رفعنا بعضهم فوق بعض)، مما يشير إلى أن "الكل مرفوع ومرفوع عليه، مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر". وهذا حق لو تأملتَه وجدت الدلائل عليه في كل من حولك من الناس، وفيه عزاء لك ولكل من يظن أنه مفضول لأنه رقيق الحال قليل المال.
ثم انظر مع الآية السابقة إلى ما يأتي بعدها: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ *وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا}، وماذا يقول بعد ذلك ربُّ العالمين؟ {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، حسناً، وماذا بعد؟ هنا يأتي الخبر المفرح: {وَالآْخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. ومثلها قوله تعالى بعدما عدّد كنوزَ الدنيا فذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل والأنعام والحرث، بعدما ذكرها كلها عقّبَ فقال (وهو أصدق القائلين): {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.
ولكن هل معنى هذا كله أن تصبر ولا تتزوج؟ لو صنعت ذلك وصنع مثلَه كلُّ من كان في مثل وضعك لارتفعت من الدنيا سنّةُ الزواج، وهذا لا يكون. فماذا تصنع؟ طبعاً تزوج. ستقول: هذا هو ما أريده، لكن كيف أصنع ورزقي لا يكاد يكفيني وحدي اليوم، فكيف أعول زوجة في غد وأولاداً في غداة الغد؟
فأما الرزق فأمره أعجب من أن تحيط به، ولو ظننت أنك أنت الذي ترزق زوجتك وأولادك فقد أخطأت الحساب وأسأت الظن بالله. هل يمكن أن يخطر ببالك أبداً أنك أنت الذي ستخلق أولادك؟ لا يمكن أن تظن ذلك ولا تخطر هذه الخاطرة العجيبة الشاذة لك ببال، لأنك تعلم أن الله هو الخالق. والآن اترك جوابي هذا واذهب فاقرأ بضع صفحات من القرآن وعد إليّ من جديد. حسناً، ماذا رأيت؟ إن أعظم قضيتين أسندهما الله إلى نفسه في قرآنه جميعاً هما الخلق والرزق، ولا بد أنك وجدت مصداق ذلك في الصفحات التي قرأتها للتوّ. ولولا أن أُمِلّك وأُمِلّ غيرَك ممن يقرأ هذا الجواب لسردت عليك مئة آية، بعضها وراء بعض، تحصر الرزقَ في الله بالقوة والصراحة نفسها التي تحصر آياتٌ أخرى فيه الخلقَ، تبارك وتعالى.
هذه الأولى، أما الثانية -وهي الأهم- فهي أن الله عز وجلّ يخص كلَّ مخلوق برزقه. فإذا كانت زوجتك التي كتبها الله لك (والتي لم تعرفها بعد ولا تعرف من تكون)، إذا كان رزقها يأتيها اليوم وهي في بيت أبيها فإنما يُعطاهُ أبوها ليصرفه عليها، فهو وسيلة لإيصال الرزق ما هو بصاحبه، كالمحاسب في قسم من أقسام الشركة الكبيرة يأتيه من الشركة مبلغ الرواتب كاملاً فيفرّقه في الموظفين، فإذا نُقل الموظف من قسم في الشركة إلى قسم غيره نُقل راتبه إلى يد محاسب القسم الجديد ليصرفه له. وفي الحالتين ما زاد الراتب ولا نقص، وفي الحالتين كان المحاسب أميناً على توصيل المال لم يكن هو مالكه ولا اكتسبه بقدرته.
وكذلك الأولاد، ما يأتي من رحم الغيب ولدٌ إلا جاء معه رزقه. وما هذا الذي أقوله كلامي، إنما هو كلام رب العالمين، قال مرة: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، ثم أراد أن يؤكد لنا أننا وأولادنا في الرزق سواء، فقدّم ما كان متأخراً وأخّر ما كان متقدماً في اللفظ فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، وفي هذا التقديم والتأخير من المعاني ما يُعَجّبُ المرءَ لو تأمله المرء بقلب سليم؛ فنحن لا نملك فضلاً على أولادنا في أرزاقهم إلا كما يملكون علينا فضلاً في رزقنا، وما أحدُنا بصاحب فضل على الآخر، إنما الفضل كله لله.
تزوج يا بني، تزوج، ولكن احفظ هذه الوصية وإياك أن تخالفها فتُشقي أو تَشقَى: الناس في معيشتهم في الدنيا طبقات، فطبقة يعيش أهلها في سعة ورخاء، وطبقة في توسط واكتفاء، وطبقة في ضيق وعناء، فإذا ذهبت تتزوج فابحث عن فتاة تنتمي إلى طبقتك وتعيش في بيت أهلها حياة قريبة من الحياة التي يمكن أن تعيشها في بيتك بعد الزواج بك، فمثل هذه البنت لن تطالبك بأكثر مما تستطيع تقديمه لها، وأهلها لن يرزؤوك من النفقات ما لا تطيق. ولكن انتبه وتحرَّ واسأل حتى تتأكد من أن هذه الفتاة تعيش في بيت أهلها راضية بحالها قانعة بقدرها، فإن من هؤلاء البنات مَن تعيش في عقدة الفقر وتنتظر الزواج لتنتقم به من أيام الحرمان، فإذا تزوجتَها ظانّاً أنها قانعة بحالها فوجئتَ بصاحبة نفس لا تشبع، وهذا هو أفظع ما يمكن أن يُبتلى به من كانت حاله كحالك.
وإياك ثم إياك أن تجاري الناس في حماقاتهم ومواضعاتهم الاجتماعية، فتقبل بدفع مهر كبير لا تطيقه، أو إقامة حفل عرس تنفق فيه من المال في ليلة ما يكفيك وزوجتَك سنة، من أجل أن تملأ عيون الناس وتفخر أنت أو زوجتك بمظهر عابر من ورائه شقاء طويل. ومَن تأمّل وجد أن الأفراح والأحزان هي المناسبات التي يفقد فيها أكثرُ الناس عقولَهم، فيهدرون فيها أموالهم ويضحّون فيها بدينهم وبأخلاقهم. وكيف يبارك الله في حياة زوجية تبدأ بمعصية أو بسفاهة وسرف مما لا يرضى عنه الله ولا يبارك فيه؟ فتحرَّ الحلال وتجنب الحرام في مشروع زواجك، واتّبع ما يمليه العقل ولو خالف العرف، واقتصد وتوكل على الله، تَعِشْ سعيداً بإذن الله.
وعليك بعد ذلك كله، وقبل ذلك وفي أثنائه، بالتزام الأدعية المأثورة الواردة في قضاء الدَّين، فاجعلها لك ورداً تتلوه في اليوم مرات، واستحضر مع قراءتها الصدق والإخلاص لعلك توافق ساعة إجابة فيقضي الله دينك من حيث لا تعلم. ولن أطيل بسردها هنا، فإنها مما يعرفه الناس ويتناقلونه بكثرة في الرسائل والمنتديات.
بقيت كلمة لابد منها وإن لم تكن ذات علاقة مباشرة بالسؤال: في أثناء وصفك لمشكلتك وردت عبارة تقول فيها إنك تعاني "من سداد ديون بآلاف الريالات للبنك"، ولم توضح ما هو هذا البنك. فإذا كان دَينك قد نشأ عن معاملة من المعاملات التي تجريها البنوك الإسلامية والتي أقرّها العلماء، بعضهم أو كلهم، كالمرابحة والتورّق وسواهما (ولست هنا في معرض مناقشة أدلّة المبيحين وأدلّة المحرِّمين لهذه المعاملة أو تلك، وقد باتت فتاوى أعلام الفقهاء معروفة في هذه المسائل)، أقول: إذا كان هذا هو منشأ دَيْنك فلا تعقيب لي عليه، أما إذا كان منشؤه قرضاً ربوياً فقد أوقعت نفسك في شرٍّ مما هربت منه، فإنّ كل مصيبة تهون أمام مصير آكل الربا، ومهما بالغتُ وأغربت في التخويف من هذا المصير فلن أبلغ معشار ما تبلغه آية البقرة (رقم 279). فإذا كان هذا حالك فاستغفر الله وتب إليه توبة نصوحاً، فإنْ صَدَقتَ التوبة فأرجو أن يغفر لك الله ويرفع عنك البلاء.
وفقك الله ورزقك الزوجة الصالحة، وأسأله أن يبارك لكما وعليكما ويجمع بينكما على خير ويُنسلكما الذرية الصالحة.
آمجآهد ديرانية
مآآآآآجى
مآآآآآجى