يتناوَل هذا البحث الفقهي دراسةً تأصيلية وتطبيقية للقاعدة الفقهية: (الميسور لا يسقط بالمعسور)؛ التي تعني: أنَّ المأمور به إذا لم يتيسَّر فعلُه على الوجه الأكمل الذي أمَر به الشارع؛ لعدم القدرة عليه، وإنما يمكن فعل بعضه مما يمكن تجزُّؤه، فيجب فعل المقدور عليه، ولا يترك الكلَّ بسبب البعض الذي يشقُّ فعله.
وهي من أعظم قواعد الفقه الإسلامي الكلية الكبرى التي تتعلَّق بأعظم مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية ألا وهو: (التكليف بما يُطَاق، وفعل الميسور عند العجز وعدم القدرة)؛ وهذا يتَّفق مع مبدأ التيسير ورفع الحرج، وإزالة كلِّ ما يؤدِّي إلى الضيق والمشقة عن العباد, وبيان المطلوب من المكلف حال العجز عن الواجبات، إضافة إلى تعلقها بمسألة الرُّخَص الشرعية، وقواعد الفقه الكلية والفرعية الأخرى؛ وكلُّ هذا يدلُّ على أهميتها ومكانتها في الفقه الإسلامي، وارتباطها الوثيق بحياة الناس وأحوالهم وعباداتهم لربهم.
ويندرج تحتها عددٌ كبيرٌ من المسائل والفروع التطبيقية المهمَّة، التي لا تُحصَى, جلُّها يتعلَّق بأبواب العبادات والسياسة الشرعية، وهي تضبط القاعدة الكلية الكبرى: (المشقة تجلب التيسير)؛ وتعتبر قيدًا فيها يُعمَل به في نطاق المأمورات؛ فإذا تعذَّر على المكلف القيام ببعض الواجب الذي كُلِّف به وأُمِر، وأمكنه القيام ببعضه، وجب عليه القيام بالبعض الممكن، وسقط عنه ما عجز عنه.
وقد جعلتُ هذا البحث في مقدمة بأهميته، وأسبابه، وخطته، ومنهجه، وستة مباحث حول بيان ألفاظ القاعدة ومعناها وأركانها وشروط تطبيقها وأدلتها، وأهميتها، وبيان الفروع والمسائل المندَرِجة تحتها، وخاتمة بأهمِّ النتائج، وفهرسين للمراجع والمصادر، والموضوعات.
ورجعت فيه إلى أمَّات المصادر المعتَمَدة في مجال القواعد الفقهية، ومدوَّنات الفقه، وكتب اللغة والتفسير والسنة عمومًا، مع الاستفادة من الدراسات الحديثة في مجال القواعد الفقهية، والتيسير ورفع الحرج، والمقاصد الشرعية.
أسأل الله التوفيق والسداد لخيري الدنيا والآخرة، وأن ينفع بهذا البحث مَن كتَبَه وقرأه وسمعه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتجاوَز عمَّا فيه من خطأ وتقصير ونسيان، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
• • [b]•
[/b]
[/b]
المقدمة
أهمية البحث، وأسباب الكتابة فيه:
الحمد لله الذي شرع لنا الدين القويم، وهدانا إلى الصراط المستقيم، وجعلنا من خير أمَّة أخرجت للناس، وعلَّمنا الحكمة والقرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما جعل علينا في الدين من حَرَج، وأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فلا ريب أن القواعد الفقهية[1] لها أهميتها الخاصة والعامة في علم الفقه خصوصًا وفي الشريعة عمومًا؛ تُكَوِّن الملكة الفقهية لطالب الفقه من جهة, وتجمع الفروع المتناثرة التي لا تنحصر من جهةٍ ثانية، وتُبرِز للمكلَّفين مقاصد الشريعة وأسرارها، وحِكَمها وغاياتها وأهدافها من جهةٍ ثالثة، وتُساعِد الفقيه والقاضي والمفتي في تلمُّس الحكم الشرعي في كثيرٍ من المسائل الفقهية من جهةٍ رابعة، لا سيَّما عند غياب النصِّ، ولها فائدتها العظمى في التطبيقات المستجدَّة والنوازل الفقهية المعاصرة من جهةٍ خامسة.
إنها أصولٌ مهمةٌ، وفوائد جمة، جليلة القدر، عظيمة النفع، تضبط للفقيه أصل الشريعة، وتُطلِعه من مآخِذ الفقه على نهاية المطلب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيِّد له الشوارد؛ وبقدر إحاطة الفقيه بها يعظم قدره ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتَّضح مناهج الفتوى وتنكشف، ويرتقي الفقيه إلى درجة الاجتهاد يظهر[2].
ولأجل هذا اهتمَّ بها الفقهاء قديمًا وحديثًا اهتمامًا بالغًا؛ فأفردوها بالمؤلَّفات الكثيرة النافعة، واستخدموها في الاستدلال والتطبيق للفروع الفقهية المتناثرة، مما أدلته أشهر من أن تُذكَر، وأكثر من أن تُحصَر.
ومما يدلُّ على أهمية القواعد أن صرَّح أكثر العلماء بأنَّ مبنى الفقه في الجملة على خمس قواعد كلية؛ هي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، والضرر يُزَال، والعادة محكمة[3].
ومع العناية الفائقة التي حَظِيَت بها القواعد الفقهية عند العلماء وكثرة التآليف فيها، إلا أن كثيرًا من القواعد الفقهية لم تحظَ بالعناية والإتقان التي تستحقُّها، وإنما اعتنوا على وجه الخصوص بالقواعد الخمس الكبرى الكلية، وما عداها من قواعد تختلف درجة العناية بها بين مختصر ونادر؛ فكم من قاعدة كلية متعدِّدة الفروع والمسائل لا تجد فيها بضعة أسطر على الرغم من كثرة كتب القواعد وتنوُّعها! مما يشحذ همم طلاب العلم، ويدعوهم إلى خدمة هذه القواعد الفقهية المهمَّة في النَّظر والاستدلال، والتفريع والاجتهاد، والضبط والإتقان.
ومن قواعد الفقه الكلية المهمة[4] قاعدة: (الميسور لا يسقط بالمعسور)؛ فهي من الأصول الكبرى وقواعد الشريعة العظمى، المتعلِّقة بنفي المشقة ورفع الحرج عن المكلَّفين في شريعة الإسلام، ومراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية في حالات المرض والضعف والعجز عن القيام بالواجب.
فهذه القاعدة من أهم قواعد الفقه الإسلامي المتعلِّقة بمسألةٍ من أهم المسائل التي لا تزال تتكرَّر في حياة بعض الناس من جهة، ويدَّعيها بعضهم من جهةٍ أخرى؛ وهي مسألة: العجز وعدم القدرة على القيام بالتكاليف الشرعية والواجبات المتحتِّمة؛ للمرض والكبر ونحوهما.
والفقهاء - رحمهم الله - يستدلُّون بهذه القاعدة الفقهية الجليلة كثيرًا، ويذكرونها في مباحث التكليف، وشروط العبادات وأركانها، وما يسقط عن المكلَّف منها وقت العجز، وما لا يسقط، إلا أنهم لم يبرزوها كغيرها من قواعد الفقه الإسلامي الأخرى التي ربما لا تقلُّ عنها أهميَّة، وأغلب مَن تكلَّم عنها من أهل العلم إنما يدرجها تحت قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، أو تحت قاعدة: (التيسير ورفع الحرج)، أو يجعلها استثناء وقيدًا لهاتين القاعدتين، وما في معناهما من قواعد رفع الحرج والمشقَّة كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في مبحث: صلة القاعدة بقواعد الفقه الأخرى، على أنَّ معناها: أنَّ المكلف متى أمكنه أن يأتي ببعض العبادة دون بعضها؛ للحرج والمشقَّة وعدم القدرة، فإنه يجب عليه أداءُ ما قدَر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه.
ثم يذكرون لها أمثلة وفروعًا يسيرة، دون بيانٍ لألفاظها أو ضوابطها وحدودها وشروطها، أو تأصيلها الشرعيِّ بالأدلة المستَمَدَّة من الكتاب والسنة.
وإنِّي من خلال البحث في هذه القاعدة الفقهية العظيمة التي عدَّها كبار العلماء: "من أصول الشريعة الشائعة التي لا تكاد تُنسَى ما أقيمت الشريعة"[5], لم أجد - حسب علمي وبحثي - أحدًا تناول هذه القاعدة الفقهية بالدراسة والبيان, وجمع ألفاظها وصيغها على ألسنة الفقهاء، وبيان معانيها في اللغة والاصطلاح، وأركانها وشروط تطبيقها، وبيان أهميتها ومكانتها في الفقه, وأدلتها الشرعية, بل غالب مَن كتب فيها من العلماء لا يزيد عن بضع صفحات.
ثم إنَّ من العبادات ما يمكن تجزُّؤه؛ بحيث يفعل المقدور عليه ويترك المعجوز عنه عند العجز عن فعل الكلِّ، ومنها ما لا يمكن فيه ذلك، ومنها ما يكون عبادة مستقلَّة في نفسه، ومنها ما يكون تابعًا لغيره على سبيل الاحتياط أو التكميل واللواحق وغير ذلك، وهذه المسائل يحتاج المكلَّف إلى معرفتها وضبطتها.
فقد يتساهَل بعض الناس في ترك بعض الواجبات التي لا تصحُّ العبادة بتركها، أو ينتقلون إلى بدلٍ لا يجوز لهم الانتقال إليه، أو يُشَدِّد بعضهم على نفسه بما رخَّصَت له فيه الشريعة، ونحو ذلك من الأمور التي نصَّ عليها أهل العلم، والمكلَّف بحاجةٍ إلى معرفتها، واعتبارها عند القيام بالتكاليف والواجبات الشرعية.
لهذه الأسباب الوجيهة - في نظري - رغبت في بحث في هذه القاعدة الفقهية، بحثًا تأصيليًّا تطبيقيًّا؛ أبيِّن من خلاله: معناها، وألفاظها المتداوَلَة بين العلماء، وتوثيقها من كتب أهل العلم، وأركانها وشروط تطبيقها، وما لا يندرج تحتها من المسائل، وأدلتها الشرعية، وصلتها بالقواعد الفقهية الأخرى، والفروع والمسال المندَرِجة تحتها.
مستمدًّا من الله - تعالى - العون والتوفيق لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن ينفعني والمسلمين بهذه البحث.
هذا، وقد سرت في بحث هذه القاعدة - بعد هذه المقدمة المشتَمِلة على سبب البحث وأهميته، وخطته، ومنهجه - وفق الخطة التالية:
خطة البحث ومسائله:
المبحث الأول: بيان معنى القاعدة في اللغة والشرع.
المبحث الثاني: عزوُ القاعدة وتوثيقها وبيان ألفاظها عند الفقهاء.
المبحث الثالث: أركان القاعدة وشروط تطبيقها.
المبحث الرابع: بيان أهمية القاعدة وصِلَتها بقواعد الشريعة ومقاصدها.
المبحث الخامس: أدلة مشروعية القاعدة من الكتاب والسنة.
المبحث السادس: تطبيقات القاعدة وفروعها ومسائلها الفقهية.
ثم الخاتمة بأهم النتائج، وقائمة المصادر والمراجع.
منهج البحث وعملي فيه:
سرتُ في بحث هذه القاعدة الفقهية وفق الأمور التالية:
1- اتبعت في بحث هذه القاعدة المنهج التحليلي التطبيقي؛ الذي يقوم على بيان معنى القاعدة لغة وشرعًا، وتحليل عناصرها، وبيان ألفاظها وأهميتها، وتأصيلها الشرعي، وبيان القواعد الفقهية المتَّصِلة بها، وتطبيقاتها ومسائلها وفروعها الفقهية، دون الدخول في الخلاف الفقهي، وهو منهج علمي متَّبَع في البحث في القواعد الفقهية[6].
2- بيَّنت ألفاظ القاعدة المشهورة على ألسنة الفقهاء، ومعناها لغة واصطلاحًا (إن كان اللفظ من اصطلاحات الفقهاء)، ثم بيَّنت معناها الإجمالي المقصود بها عند أهل العلم.
3- عزَوْتُ القاعدة إلى مصادرها المعتَمَدة في تسلسل تاريخي، يبيِّن ألفاظها عند أهل العلم، من خلال كتب القواعد الفقهية، ومدوَّنات كتب الفقه التي ذكرت القاعدة أو استَدَلَّت بها، مع الحرص على الاستقصاء في جانب مصادر القواعد الفقهية.
4- أصَّلت القاعدة شرعًا ببيان أدلتها من الكتاب والسنة.
5- وضَّحت صلة القاعدة بقواعد الفقه الكلية، ومقاصد الشريعة الإسلامية.
6- اجتهدت في بيان أركان القاعدة، وشروط تطبيقها التي يتَّضح من خلالها ما يندرج تحت القاعدة، وما يخرج عنها من الأفعال والأوامر الشرعية.
7- جمعت الفروع الفقهية والمسائل الشرعية المندرجة تحت معنى القاعدة، مع الالتزام بطريقة المؤلِّفين في القواعد الفقهية؛ من حيث ذكر الفرع الفقهي المبنيِّ على القاعدة، مع عدم الدخول في التفصيلات والخلافات الفقهية؛ لأن ذلك يطول من غير فائدة، ويخرج عن المقصود في باب القواعد، وموضعه علم الفقه، علمًا أنَّه لا خلاف في دخول كثير من الفروع الفقهية والتطبيقات التي ذكرتها تحت معنى القاعدة.
وليس المقصود من البحث في المقام الأول: حصر فروع القاعدة وتطبيقاتها بقدر ما مقصوده تأصيل القاعدة، وبيان معناها وأركانها وشروط تطبيقها، وأدلتها وأهميتها عند أهل العلم، والحاجة إليها في الفروع والتطبيقات؛ إذ من المعلوم أن حصر المسائل المندرجة تحت القاعدة متعذِّر؛ لأن حالات العجز والحَرَج والمشَقَّة من الصفات المتكرِّرة، المختلفة من شخصٍ إلى آخر، وهي لا تنتهي ولا تنحصر.
ومع ذلك فقد ذكرت للقاعدة (35) فرعًا ومسألة، وهذا العدد كافٍ في إثبات القاعدة، وبيان أهميتها، وكثرة الحاجة إليها.
8- عَزَوْتُ الآيات إلى سورها في هامش البحث، وخرَّجت الأحاديث النبوية في هامش البحث من مصادرها المعتَمَدة؛ فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بهما دون غيرهما، وإن كان في غيرهما من كتب السنة، وضَّحت جانبًا كافيًا من تخريجه، مع بيان درجته صحةً وضعفًا، ملتَزِمًا في ذلك بطريقة الاستدلال والرجوع إلى كتب الحديث، ولم استدلَّ في هذا البحث إلا بدليل ثابت سواءً كان صحيحًا أو حسنًا؛ لأنَّ في الحديث الثابت - والحمد لله - غنية عن الضعيف.
9- عرَّفت بالغريب من المفردات، ولم أترجم للأعلام الواردة في البحث؛ لأن البحث فقهي، ومنعًا للإطالة، ولكون أغلب الأعلام الواردة فيه من المشهورين، لكن إتمامًا للفائدة ومن باب أنَّ ما لا يدرك كله لا يترك كله، فإني إذا ذكرت أحد الأعلام في صلب البحث، أذكر اسمه كاملاً ولقَبَه، ومذهبه الذي يُنسَب إليه - إن أمكن - وتاريخ وفاته، ولم أُغفِل من هذا المنهج إلا رواة الأحاديث.
مصطلحات البحث ورموزه:
للبحث مصطلحات ورموز، بيانها على النحو التالي:
1- حرف (ح): المقصود به رقم الحديث في الكتاب الذي أخرجه، أو تكلَّم عليه، إذا كان مرقَّمًا.
2- حرف (ت): في صلب البحث اختصارٌ لكلمة الوفاة، وفي قائمة المراجع اختصارٌ لكلمة تحقيق.
3- حرف (ض): في فهرس المصادر اختصارٌ لكلمة ضبط.
4- حرف (د): في قائمة المراجع اختصار للقب الدكتور.
5- حرف (ط): في قائمة المصادر المقصود به رقم الطبعة.
6- حرفَا (هـ، م): يُقصَد به بيان التاريخ؛ هجري أو ميلادي.
فإلى بيان مسائل البحث، مستعينًا بالله - تعالى.
• • [b]•
[/b]
[/b]
المبحث الأول
أولاً: معاني ألفاظ القاعدة في اللغة والشرع:
من خلال التتبُّع والاستقراء لورود هذه القاعدة في كتب القواعد الفقهية ومدوَّنات الفقه الإسلامي الأخرى، وجدتُ أنَّها لا تخرج في مجملها وألفاظها عن الألفاظ التالية:
1- (الميسور لا يسقط بالمعسور).
2- (المتعذِّر يسقط اعتباره، والممكن يُستَصحَب فيه التكليف).
3- (المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه)[7].
فهذه هي ألفاظ القاعدة المشهورة، المشتَمِلة على كلماتٍ تحتاجُ إلى بيانٍ لمعناها، وما عداها من ألفاظ القاعدة الواردة على ألسنة الفقهاء لا تعدو أن تكون تغييرًا في الألفاظ السابقة تقديمًا وتأخيرًا، أو لا تحتاج إلى بيانٍ لمفرداتها لوضوحها.
بالنظر إلى هذه الألفاظ الثلاثة السابقة للقاعدة نجد أنها تشتمل على المفردات التالية: (الميسور، الساقط (يسقط)، المعسور، المقدور عليه، المعجوز عنه، المتعذر، الاعتبار، الممكن، يستصحب، التكليف).
فدونك بيان معاني هذه المفردات على النحو التالي:
1- الميسور: ضد المعسور؛ مصدر على وزن مفعول، مأخوذ من اليسر وهو ضدُّ العسر، واليُسْر واليُسُر: السهولة واللِّين، وتيسَّر الشيء، واستيسر: تسهَّل وتهيَّأ، ويَسَر الشيء، يَيْسَر يَسْرًا: سَهُل وأمكن، ولان وانقاد، والجمع مياسير.
ومنه قولهم: أخذ ما تيسَّر وما استيسَر؛ وهو ضدُّ ما تعسَّر والتوى, وخذ بمَيْسُوره ودع مَعْسُوره[8].
2- يسقط (الساقط): يأتي على معانٍ متعددة، تعود إلى الوقوع والإلغاء، والإقلاع، والخطأ، والزلل، والسَّقْط من الأشياء: ما تُسقِطه فلا تعتدُّ به[9].
وقول الفقهاء: سقط الفرض؛ معناه: سقط طلبه والأمر به[10].
3- المعسور: ضد الميسور، والتعاسر: ضدُّ التياسر، والمعاسرة: ضدُّ المياسرة، والعَسْرُ والعُسُرُ: ضد اليسر؛ وهو الضيق والشدة والصعوبة؛ قال الله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7].
والعسرة والمَعْسَرَة والمَعْسُرَة والعُسرَى: خلاف الميسرة، والعُسرَى تأنيث الأعسر من الأمور، والعرب تضع المعسور موضع العسر، والميسور موضع اليسر، وتجعل المفعول في الحرفين كالمصدر.
وقد عَسِر الأمر يَعْسَر عسرًا؛ فهو عَسِرٌ، وعَسُر يَعْسُر عُسْرًا وعَسَارة وتعسَّر وتعاسر واستعسرك التاث واشتدَّ والتوى، وصار عسيرًا[11].
4- المقدور: من القدرة؛ وهي الطاقة والاستطاعة والقوة على الشيء والتمكُّن منه، والمقدرة: القدرة، وقدر كل شيءٍ ومقداره: مقياسه، يُقال: قَدَر عليه قَدَارة: تمكَّن منه، وقَدَرت على الشيء أَقْدِر؛ من باب ضرب: قويت عليه، وتمكَّنت منه[12].
5- المعجوز: غير المقدور عليه، مأخوذ من العجز وهو نقيض الحزم، والعجز، والمَعْجِز، والمَعْجِزَة، والعَجَزَان، والعُجُوز: الضعف، وعدم القدرة[13].
6- المتعذر: الممتنع، يقال: تعذَّر عليه الأمر: شقَّ وتعسَّر، وعذَّر في الأمر: قصَّر بعد جهدٍ، والتعذير في الأمر: التقصير فيه، وأعذر: قصر ولم يبالغ وهو يرى أنه بالَغ[14].
7- الاعتبار: الفرض، والتقدير، والكرامة، والتدابر، والنظر، وتأتي العبرة والاعتبار بمعنى: الاعتداد بالشيء في ترتيب الحكم[15].
8- الممكن: من مكن؛ أي: قوي وقدر، وأمكنه من الشيء، ومكَّن له فيه: جعل له عليه سلطانًا وقدرة، وأمكن الأمر فلانًا: سَهُل عليه وتيسَّر له، وتمكَّن من الشيء: قدر عليه أو ظَفَر به، واستمكن من الشيء: تمكَّن، والأمر المُمْكِن: السهل المتيسِّر المقدور عليه، والمُكْنَة: القدرة، والاستطاعة، والقوة، والشدة[16].
9- يستصحب: مأخوذ من استصحب وصحب؛ أي: طلب المصاحبة والصحبة وعدم المفارقة، واستصحب الشيء: لازَمَه، والاستصحاب: التمسُّك بما كان ثابتًا من قبل، كأنك جعلت تلك الحالة مصاحبة غير مفارقة[17].
والاستصحاب في اصطلاح الفقهاء: هو الحكم بثبوت الشيء في الزمن الثاني، بناءً على ثبوته في الزمن الأول، حتى يقوم الدليل على تغييره[18].
10- التكليف بالأمر: فرضه على مَن يستطيع أن يقوم به، جمعه تكاليف: وهي ما فيه مشقَّة وكلفة، ويُقال: كلَّفه أمرًا: أوجبه عليه، وكلَّفه: فرض عليه أمرًا ذا مشقة، وتكلَّف الأمر والشيء: تجشَّمه على مشقَّة، وحمله على نفسه وليس من عادته[19].
والتكليف في اصطلاح الفقهاء: طلب الشارع ما فيه كُلْفَة من فعلٍ أو تركٍ[20].
ثانيًا: معنى القاعدة إجمالاً في الشرع:
أن المأمور به إذا لم يتيسَّر فعله على الوجه الأكمل الذي أمر به الشارع؛ لعدم القدرة عليه، وإنما يمكن فعل بعضه مما يمكن تجزُّؤه، فيجب فعل القدر الذي يقدر عليه، ولا يترك الكلَّ بسبب ترك الذي يشقُّ فعله[21].
فمتى أمكن المكلف أن يأتي ببعض العبادة دون بعضها، فإنه يجب عليه أداء ما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه، ولا يترك المقدور عليه بسبب ترك المعجوز عنه[22].
فإذا كانت: (المشقة تجلب التيسير)[23]، والتخفيف على المكلف وسقوط التكاليف عنه عند ذلك، فعليه أن يعلم أن ذلك محصورٌ فيما عجز عنه شرعًا، وأمَّا ما كان مقدورًا له وفي استطاعته فإنه لا يسقط عنه، بل يجب عليه أن يأتي به ومن هنا نصَّ فقهاء المالكية ضمن قواعدهم على أن: "مَن اضطرَّ إلى مخالفة أصلٍ، أو قاعدةٍ، وجب عليه تقليل المخالفة ما أمكن"[24].
وهذا يعني: أن المكلف إذا اضطرَّ إلى ترك الواجب؛ بسبب المشقَّة والعذر والحرج الذي جاءت الشريعة بمراعاته واعتباره وإزالته عن المكلف، فإنه يترك فقط ما يعسُر عليه، وأمَّا ما يسهل عليه ويكون في مقدوره واستطاعته فإنه يأتي به امتثالاً للشارع - سبحانه.
• • [b]•
[/b]
[/b]
المبحث الثاني
عزو القاعدة وتوثيقها وبيان ألفاظها عند الفقهاء:
هذه القاعدة من القواعد الفقهية الشهيرة التي أكثر من ذكرها، والاستدلال بها، والتفريع عليها - فقهاءُ الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، بألفاظها المختلفة، وحسب بحثي واطِّلاعي المطَوَّل في كتب القواعد الفقهية على وجه الخصوص، ومُدَوَّنات الفقه على وجه العموم، لم أرَ لهذه القاعدة ذكرًا عند فقهاء الحنفية[25]، على أنهم عملوا بها في بعض الفروع كما سيتَّضح - إن شاء الله - في المبحث السادس.
ومن خلال التتبُّع لكتب الفقه عمومًا، وكتب القواعد خصوصًا وجدت أن أهل العلم - رحمهم الله - ذكروا هذه القاعدة بألفاظ متعدِّدة المبنى، مُتقارِبة المعنى على النحو التالي:
1- نص عليها بصيغتها المشهورة بين الفقهاء: (الميسور لا يسقط بالمعسور) أكثر الفقهاء منهم:
الإمام محمد بن محمد الغزالي الشافعي (ت: 505 هـ)[26] - رحمه الله.
والإمام أبو محمد عز الدين بن عبدالسلام الشافعي (ت: 660)[27] - رحمه الله.
والعلامة علي بن عبدالكافي السبكي (ت: 756 هـ)[28] - رحمه الله.
والعلامة تاج الدين عبدالوهاب بن علي بن السبكي الشافعي (ت: 771 هـ)[29] - رحمه الله.
والعلامة بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي (ت: 794 هـ)[30] - رحمه الله.
والإمام عمر بن علي الأنصاري المعروف بابن الملقن الشافعي (ت: 804 هـ)[31] - رحمه الله.
والإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي (ت: 852 هـ)[32] - رحمه الله.
والإمام جلال الدين عبدالرحمن السيوطي الشافعي (ت: 911هـ)[33] - رحمه الله.
وأبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الشافعي (ت 926 هـ)[34] - رحمه الله.
والإمام شهاب الدين أحمد البرلسي الملقب بعميرة (ت: 957 هـ)[35] - رحمه الله.
والإمام شهاب الدين أحمد بن حمزة الأنصاري الرملي الشافعي (ت: 957 هـ)[36] - رحمه الله.
والإمام أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي (ت: 974 هـ)[37]، والإمام محمد بن أحمد الشربيني الخطيب الشافعي (ت: 977)[38] - رحمه الله.
والإمام شمس الدين محمد بن أحمد الرملي المصري الشهير بالشافعي الصغير (ت: 1004 هـ)[39] - رحمه الله.
والإمام شهاب الدين أحمد بن سلامة القليوبي الشافعي (ت: 1070 هـ)[40] - رحمه الله.
والإمام سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري الشافعي الشهير بالجمل (ت: 1204 هـ)[41] - رحمه الله.
والإمام سليمان بن محمد البجيرمي المصري الشافعي (ت: 1221 هـ)[42] - رحمه الله.
والإمام حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي (ت: 1250 هت)[43] - رحمه الله.
2- أشار إليها الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204 هـ) - رحمه الله - بقوله: "كلُّ حالٍ قدر المصلي فيها على تأدية فرض الصلاة، كما فرض الله - تعالى - عليه، صلاَّها وصلى ما لا يقدر عليه كما يطيق"[44].
3- صاغها إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني الشافعي (ت: 478 هـ) - رحمه الله - بقوله: "إن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه"[45].
وبهذا اللفظ ذكرها الإمام بدر الدين محمد بن أبي بكر بن سليمان البكري الشافعي (كان حيًّا في أوائل القرن التاسع الهجري)[46] - رحمه الله.
4- وصاغها الإمام محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي (ت: 510 هـ) - رحمه الله - بقوله: "الأمر المطلق بالشيء يقتضي إيقاع فعل الشيء متى أمكن فعله على كلِّ حالٍ"[47].
ومراده بالأمر المطلق: الأمر المتجرِّد عن القرائن فهو يقتضي الوجوب في قول جمهور أهل العلم[48].
وقريبٌ من هذا اللفظ صاغَها الإمام ابن النجار محمد بن أحمد بن عبدالعزيز علي الفتوحي الحنبلي (ت: 972 هـ) - رحمه الله - حيث قال: "الأمر المطلق لا يجب إلا إذا كان مقدورًا للمكلَّف"[49].
5- وصاغها الإمام أبو محمد عز الدين بن عبدالسلام الشافعي (ت: 660 هـ) - رحمه الله - بلفظين:
الأول: "لا يسقط الميسور بالمعسور"[50]، وهو اللفظ الأول والمشهور للقاعدة على ألسنة الفقهاء الذي سبق.
والثاني: "مَن كُلِّف بشيءٍ من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه"[51].
6- وصاغها الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبدالرحمن الصنهاجي القرافي المالكي (ت: 684 هـ) - رحمه الله - بقوله: "إن المتعذِّر يسقط اعتباره، والممكن يستصحب فيه التكليف"[52].
7- وصاغها الإمام محمد بن عمر بن الوكيل الشافعي (ت: 716 هـ) - رحمه الله - بقوله: "القادر على بعض الواجب يجب عليه فعل ما قدر عليه"[53].
8- وصاغها شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيميَّة الحرَّاني الحنبلي (ت: 728 هـ) - رحمه الله - بألفاظٍ متعددة منها:
الأول: "إن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شروطها، ولا عن بعض أركانها"[54].
الثاني: "إن العبادات المشروعة إيجابًا أو استحبابًا إذا عجز عن بعض ما يجب فيها، لم يسقط عنه المقدور لأجل المعجوز"[55].
الثالث: "إذا أمكن العبد أن يفعل بعض الواجبات دون بعضٍ، فإنه يُؤمَر بما يقدر عليه، وما عجز عنه يبقى ساقطًا"[56].
9- وصاغها الإمام أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيِّم الجوزية الحنبلي (ت: 751 هـ) - رحمه الله - بلفظين:
الأول: "إن المكلَّف إذا عجز عن جملة المأمور به، أتى بما يقدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه"[57].
الثاني: "العجز ببعض البدن لا يسقط حكم البعض الآخر"[58].
10- وصاغَهَا الإمام صلاح الدين خليل كيكلدي بن عبدالله أبو سعيد العلائي الشافعي (ت: 761 هـ) - رحمه الله - بقوله: "متى قدر على الإتيان ببعض الواجب كالركوع والسجود وغير ذلك، أتى به"[59].
وبهذا اللفظ ذكرها الإمام أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن تقي الدين الحصني الشافعي (ت: 829 هـ)[60] - رحمه الله.
11- وصاغها العلامة بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي (ت: 794 هـ) - رحمه الله - أيضًا بصيغة الاستفهام فقال: "البعض المقدور عليه هل يجب؟"[61].
12- وصاغها الإمام زين الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن شهاب الدين البغدادي الشهير بابن رجبٍ الحنبلي (ت: 795 هـ) - رحمه الله - بلفظين:
الأول: بصيغة الاستفهام؛ حيث قال: "مَن قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا؟"[62].
الثاني: بصيغة التقرير؛ حيث قال: "إن مَن عجز عن فعل المأمور به كله وقدر على بعضه، فإنه يأتي بما أمكنه منه"[63].
13- وصاغها الإمام عمر بن علي الأنصاري المعروف بابن الملقن الشافعي (ت: 804 هـ) - رحمه الله - أيضًا[64] بلفظ: "القدرة على بعض الواجب"[65].
14- وأشار إليها الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي (ت: 852 هـ) - رحمه الله - أيضًا[66] بلفظ: "إن مَن عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور"[67].
15- وصاغها الإمام ابن النجار محمد بن أحمد بن عبدالعزيز علي الفتوحي الحنبلي (ت: 972هـ) - رحمه الله - بلفظ الاستفهام؛ حيث قال: "لو سقط وجوب البعض المعجوز عنه، هل يبقى وجوب الباقي المقدور عليه أم لا؟"[68].
16- وصاغها نظمًا العلامة أبو بكر بن أبي القاسم بن أحمد بن محمد بن أبي بكر الأهدل اليمني الشافعي (ت: 1035 هـ)[69] - رحمه الله - بقوله:
كَذَاكَ مِمَّا قَعَّدُوا المَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالمَعْسُورِ حَسْبَمَا انْجَلَى وَهْيَ مِنَ الأَشْهَرِ فِي القَوَاعِدِ وَأَصْلُهَا مِنَ الحَدِيثِ الوَارِدِ |
وَيَفْعَلُ البَعْضَ مِنَ المَامُورِ إِنْ شُقَّ فِعْلُ سَائِرِ المَامُورِ |
• • [b]•
[/b]
[/b]
المبحث الثالث
أركان القاعدة وشروط تطبيقها:
أولاً: أركان القاعدة:
الركن في اللغة: يُطلق على جانب الشيء الأقوى، والأمر العظيم، وما يُتَقوَّى به مَن مُلْكٍ وجُنْدٍ وقَوْمٍ، ومادة الكلمة: أصل واحد يدلُّ على قوَّة ومنعةٍ وعزٍّ، والجمع: أركان وأَرْكُن[71].
والركن في الاصطلاح: هو ما كان جزءًا من الشيء، داخلاً في ماهيَّته بحيث لا يوجد ذلك الشيء إلا بوجوده؛ كالركوع في الصلاة فهو جزءٌ من الصلاة نفسها، ولا بُدَّ من وجوده لصحتها.
أو هو: "ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم"[72].
والقاعدة على حقيقتها - كما مرَّ في تعريفها - حكم أغلبي، أو قضية كلية، وبناءً عليه فأركانها هي أركان القضية نفسها، وأركان القضية على المختار عند أهل العلم ركنان: الموضوع أو المحكوم عليه، والمحمول أو المحكوم به على الموضوع[73].
والحق أني لم أجد أحدًا من أهل العلم نصَّ على أركان قاعدة: (الميسور لا يسقط بالمعسور)، ولكني من خلال صنيع فضيلة الشيخ الدكتور/ يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين - وفَّقه الله - في كتاباته الماتعة في القواعد المفردة ومنها قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)[74]، وقاعدة: (المشقة تجلب التيسير)[75]، وقاعدة: (الأمور بمقاصدها)[76]، ومن خلال التأمُّل في هذه القاعدة أستطيع أن أقول: إن أركان قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) ثلاثة هي:
الركن الأول: الميسور، الممكِن فعلُه، المقدور عليه.
والركن الثاني: المعسور، الذي لا يقدر عليه، ولا يمكن فعله.
والركن الثالث: عدم سقوط الميسور بالمعسور.
ثانيًا: شروط تطبيق القاعدة:
مادة الشرط في اللغة: أصل واحد يدلُّ على علم وعلامة، وما قارَب ذلك، وكلُّ حكم معلوم متعلِّق بأمر يقع بوقوعه، وذلك الأمر كالعلامة له، فهو شرطٌ له وشريطة وشرائط ومنه قيل للعلامة: الشرط؛ لأنها علامة على المشروط، والجمع: شروط، وأشراط[77].
والشرط اصطلاحًا: ما توقَّف عليه وجود الشيء وكان خارجًا عنه ليس حزءًا منه، ولا مؤثرًا في وجوده، أو هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته كالوضوء مع الصلاة[78].
ويُشتَرط لتطبيق قاعدة: (الميسور لا يسقط بالمعسور) جملة من الشروط من خلالها يتبيَّن ضبط القاعدة وحدود تطبيقها، وبيان ما يندرج تحتها من المسائل وما يُستَثنى منها كما يتَّضح من خلالها أيضًا أن المكلَّف إنما كُلِّف بما يقدر عليه من الأعمال الشرعية، وما يعجز عنه فإنه ساقط معفوٌّ عنه إذ {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وأهم شروط تطبيق القاعدة على النحو التالي:
الشرط الأول: أن يكون المكلَّف معذورًا حقيقة وفعلاً، لا توهُّمًا وادِّعاءً، بترك بعض المأمور به (بترك المعسور) لسبب شرعي يقتضي ذلك؛ كالمرض، والكبر، ونحوهما[79].
الشرط الثاني: أن لا يؤدي بناء الحكم على القاعدة وإعمالها إلى تفويت ما هو أهمُّ أو أعظم مصلحة منها، وهذا يتَّصل بمسألة تعارض المصالح والترجيح بينها، فالمصلحة المجلوبة بسقوط المعسور وفعل الميسور لا يجوز أن تكون مؤدِّية إلى تفويت مصلحة أعظم منها[80].
الشرط الثالث: أن لا يكون للمعجوز عنه بدلٌ؛ لأنه إذا كان له بدل انتقل المكلَّف إلى بدله ولم يعمل بهذه القاعدة، إلا إذا قلنا: إن الانتقال إلى البدل هو أخذ بالميسور ومن الأمثلة على ذلك:
1- المعضوب[81] الذي لا يستمسك على الراحلة، وله مال يقدر أن يحجَّ به عنه, فالصحيح وجوب الحج عليه بماله لقدرته على المأمور به، وإن عجز عن مباشرته هو بنفسه, ونظيره القادر على الجهاد بماله العاجز عنه ببدنه يجب عليه الجهاد بماله.
2- الشيخ الكبير العاجز عن الصوم، القادر على الإطعام, فهذا يجب عليه الإطعام عن كلِّ يوم مسكينًا في أصح أقوال أهل العلم.
3- المريض العاجز عن استعمال الماء في الطهارة فهذا حكمه حكم العادم للماء، وينتقل إلى بدله وهو التيمم[82].
4- مَن عجز عن الرقبة في الكفارة فإنه ينتقل إلى الصيام[83].
الشرط الرابع: أن يكون الميسور عبادة مقصودة مشروعة في نفسه بانفراده, فإن لم يكن عبادةً مشروعةً في نفسه بانفراده فإنه يسقط بسقوط المعجوز عنه، ولا يلزم المكلف الإتيان به ولو تيسَّر، ويكون مستثنًى من قاعدة: (الميسور لا يسقط بالمعسور)[84].
ومن الأمثلة على هذا:
1- صوم بعض اليوم لِمَن قدر عليه وعجز عن إتمامه، فلا يلزم بغير خلاف[85].
2- عتق بعض الرقبة في الكفارة، فلا يلزم القادر عليه إذا عجز عن التكميل؛ لأن الشارع قصده تكميل العتق مهما أمكن فلا يشرع عتق بعض الرقبة، وينتقل إلى البدل بلا خلاف[86].
3- إذا قال الموصي: اشتروا بِثُلُثِي رقبةً وأعتقوها، فلم يجدوا به رقبةً كاملةً، لا يُشتَرى البعض؛ لأنه لا يفيد الاستقلال[87].
الشرط الخامس: أن لا يكون الميسور واجبًا تبعًا لغيره على وجه التكميل واللواحق, فهذا لا يلزم الإتيان به عند سقوط المعجوز الذي هو الأصل، ويكون مستثنًى من القاعدة.
ومن أمثلة ذلك:
1- رمي الجمار، والمبيت بمنى لِمَن لم يدرك الحج, فالمشهور عند أهل العلم أنه لا يلزمه؛ لأن ذلك من توابع الوقوف بعرفة، فلا يلزم مَن لم يقف بها.
2- المريض إذا عجز في الصلاة عن وضع جبهته على الأرض، وقدر على وضع بقية أعضاء السجود، فإنه لا يلزمه ذلك على الصحيح؛ لأن السجود على بقية الأعضاء إنما وجب تبعًا للسجود على الوجه وتكميلاً له[88].
الشرط السادس: أن لا يكون المقدور عليه ليس مقصودًا بالعبادة لذاته، وإنما هو وسيلة محضة إليها فهذا لا يلزم الإتيان به عند العجز عن العبادة، بل يسقط؛ لأنه إنما وجب ضرورةً للعبادة الأصل، وقد سقط الأصل فسقط ما هو من ضرورته، وهو مستثنًى من القاعدة[89].
ومن أمثلة ذلك:
1- تحريك اللسان في القراءة في الصلاة هل يلزم الأخرس لأنه المقدور عليه، أم يسقط لأن النطق وهو الأصل قد سقط عنه؟ الأصح والأشهر أنه لا يجب لأن التحريك بمجرده لا يُناسِب القراءة ولا يُدانِيها، بل هو عبث لا يَرِدُ الشرع به، فإقامته بدلاً عن القراءة بعيدٌ, وهو مستثنى من القاعدة[90].
2- إمرار المكلَّف الموسى على رأس الحاج والمعتمر في الحلق وكذا في الختان (للمجبوب), فهذا ليس بواجب للقدرة عليه, بل هو مستثنًى من القاعدة؛ لأنه إنما وجب لقصد الحلق والقطع، وقد سقط المقصود فتسقط الوسيلة[91].
وفي كل هذا إشارة جلية إلى أن جميع ما أوجبه الله - تعالى - على المكلَّف يُشتَرَط فيه القدرة والاستطاعة، فمَن قدر عليه أتى به، ومَن لم يقدر عليه وعجز عنه سقط عنه وجوبه، والله - تعالى - يعفو عنه ويتجاوز بمنِّه وكرمه, ومَن قدر على بعضه وذلك البعض عبادة, وجب ما يقدر عليه منه، وسقط عنه ما يعجز عنه[92].
يتبع