إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مُضلَّ له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أَمَّا بَعْدُ:
من أفضل ما يُتقربُ به إلى الله العلم الشرعي، فبه يُعبدُ الله على بصيرة، وبه يُطبَّقُ حكمه في أرضه وعلى خلقه، بالعلم يُرفعُ العنت والحرج الذي يُوقعه بعض الناس على أنفسهم؛ عن أبي أُمَامَة الباهِليِّ قال: "ذُكِر لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فضلُ العالم على العابدِ كفضلي على أدناكم))، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت - ليُصلُّون على مُعلِّم الناس الخير))؛ رواه الترمذي (2685) بإسناد حسن.
فالعالمُ العامل رفع الله مَنزلته في الدنيا والآخرة، يدعو له ويَستغفرُ من في السموات ومن في البر والبحر، فالعالمُ من هذه الأمَّة قائم مَقام النبوَّة يُعلِّم الناس أمورَ دينِهم، ويَنفي عن دين الله تَحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ففضلُ العلم خيرٌ من العبادة؛ لأن نفعَه مُتعدٍّ، ونفع العبادة مَقصور على صاحبها؛ فعن حُذيفة بن اليَمان قال: قال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فضلُ العلمِ خيرٌ من فضل العبادة، وخيرُ دينِكم الورعُ))؛ رواه الطبراني في الأوسط (3960)، وحسَّن إسناده المنذريُّ في "الترغيب والترهيب" (103).
فخيرُ ما نَتقرَّبُ به لربِّنا - تبارك وتعالى - طلبُ العلم؛ ففي حديث أبي هريرة: ((ومن سلك طريقًا يَلتمسُ فيه عِلمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطَّأ به عَملُه لم يُسرعْ به نسبُه))؛ رواه مسلم (2699).
فمن سلك الطرقَ الحسيَّة ذاهبًا وراجعًا لأماكن العلمِ، كان ذهابه سببًا في دخوله الجنَّة، وكذلك من سلك طرقَ العلم المعنوية التي بها يُحصَّلُ العلم ويُحفظُ، من حِفظٍ ومُراجعةٍ ومُذاكرةٍ مع أحدٍ داخل في عموم الحديث والله أعلم.
فالعلمُ طريق الجنة، وإذا حَسُنتْ نيةُ طالب العلم، وفَّقَه الله للعمل به، فكان ذلك سببًا لدخوله الجنة.
العلم يدلُّ على الله من أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقَه ولم يَعوَجّ عنه، وصل إلى الله – تعالى - وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فَسهلتْ عليه الطرقُ الموصلة إلى الجنة كلُّها في الدنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقُربه ومُجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافعِ الذي بَعثَ الله به رسلَه، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل والشبه والشهوات.
مَعاشر الإخوة:
إذا كان فضلُ العلم بهذه المنزلة، فهو أفضلُ من نَفلِ الصلاة والصيام والذِّكر والصدقة، فعلامَ لا نسلكه؟! لماذا لا نتحيَّن وقت الفراغ ونحضر الدروس العلمية التي لا تَخلو منها مساجدنا؟! فمن كان لديه فراغ بعد المغرب يجلس بنية الاستفادة وانتظار صلاة العشاء بعد صلاة المغرب، فيحصل على الخيرين ومن لم يَستطعْ، يبادر لصلاة العشاء؛ ليحصلَ على فضيلة التبكير ويستمع للدرس، ومن ليس لديه ارتباط بعد صلاة العشاء، يحضر الدروس التي تُقام بعد العشاء، كأني بك أخي تقول: كَبُرَ سنِّي وضَعُفَ فَهمي، فأقول لك: هذا من تثبيط الشيطان، فكم كان عُمر الصديق والفاروق وذي النورين حينما كانوا يحضرون مَجالس النبي ونقلوا لنا هذا العلم، وهَبْ أنك لم تستفدْ علمًا، فلكَ الأجرُ الثابت من الله.
العلماءُ ورثة الأنبياء، فشرفُهم مَنوط بقيامهم بحقِّه لا بجمعه فقط وعلى قدر سلوك العالم طريق الأنبياء، على قدر حصول الأذى له من السُّفهاء من مَرضى الشُّبهات والشَّهوات، فديدنُ هؤلاء وهؤلاء التَّعرض لمن يُكدِّر عليهم باطلَهم أو يُنكِر عليهم، فيرمونه عن قوسٍ واحد ويتَّهمونه بشتى التُّهم ويلصقون به كل نقيصة وبَليَّة، ورثوا ذلك عن أسلافهم أعداء الأنبياء؛ فعن عبدالله بن عمر، قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأيت مثل قرَّائنا هؤلاء لا أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبتَ ولكنَّك مُنافق، لأخْبِرَنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبَلغَ ذلك النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونزل القرآن، قال عبدالله: فأنا رأيته مُتعلقًا بِحقبِ ناقة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - تَنْكُبُهُ الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون))؛ رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره".
فحينما لا يستطيع مَرضى الشهوات والشُّبهات تَنقُّصَ دين الله ولمزه يَتنقصون حَمَلَته، فإذا قلَّ قدرُهم عند الناس، قلَّ الانتفاع بهم؛ فلذا تجد المبتَدِعة كالروافض يتنقصون الصحابة ويَطعنون بعدالتهم؛ ليسقطوا الإرث النبوي الذي بلَّغونا إياه، وفيه الردُّ على بدعتهم.
هذا شأن مَرضى الشهوات والشبهات مع العلماء الصادقين، أما من يَهابهم أو يُداهنهم، فهو مَحل حَفاوة وتقدير عندهم؛ {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73]، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
الخطبة الثانية
لعلمائنا علينا حقَّان حينما يقع بعضُ السُّفهاء في أعراضهم: حقُّ الأخوَّة الإيمانية وحقُّ العلم، فلنتثبَّتْ فيما يُقال عنهم أو يُنسب إليهم من فَتاوى مُستغربة، خصوصًا الأموات؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
علينا أن نردَّ عن أعرضهم كلٌّ بحسبه وعلى قدر وسعه في الوسائل المتاحة المباحة؛ فعن أبي الدرداء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))؛ رواه الترمذي (1931)، وقال: هذا حديث حسن.
علينا أن نتذكَّرَ أن هذه سُنَّة الله في العلماء الصادقين، فينبغي أن تزيدَنا هذه الحملات مَحبةً لهم ورجوعًا إليهم.
شرفُ العالم وفضله مَقرون بنيته الصالحة وعمله، لا بكثرة تحصيله؛ ففي حديث أبي هريرة في أوَّل الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه: ((َرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ))؛ رواه مسلم (1905).
فحين كان قَصْدُ هذا المتعلم العُلوَّ والرِّفْعَة بين الناس، كان من أول من تُسعَّرُ به النار، ولم يَشفع له ما عنده من علم، وربُّنا ذم اليهود حينما لم يعملوا بما عندهم من علم؛ {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، قال القرطبي في المُفْهِم (6/686): العالمُ لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مَذمومًا، ولم يَستحقَّ اسم العالم.
عن عبدالله بن عمرو قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله لا يَنزعُ العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يَنتزعُه منهم مع قَبضِ العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهَّال يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ برأيهم، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ))؛ رواه البخاريُّ (7307)، واللفظ له، ومسلم (2673).
فيتعيَّنُ علينا مَعرفة من نستفتي حينما نحتاجُ إلى فتوى، فنستفتي من إذا أفتى، قال: قال الله، قال رسوله، قال الصحابة، نستفتي من عُرِف عنه طلبُ العلم على العلماء الذين جمعوا فنون العلم، نستفتي من لم يُعرفْ عنه التقصير في الواجبات أو الوقوع في الكبائر، نستفتي من يَعملُ بما يَعلمُ، نستفتي من عُرِفَ عنه الثبات وسلوك طريقِ العلماء العاملين، نستفتي من لا يتأثرُ بالواقع من لا يتأثرُ برياح التغيير التي تمرُّ بها الأمة، نستفتي من لا يكون همُّه حين الفتوى ردَّة فِعل الناس، نستفتي من لا يتطلع لجاهٍ يَحصلُ عليه مُقابل عِلمه، نستفتي عالم مِلَّة.
أَمَّا بَعْدُ:
من أفضل ما يُتقربُ به إلى الله العلم الشرعي، فبه يُعبدُ الله على بصيرة، وبه يُطبَّقُ حكمه في أرضه وعلى خلقه، بالعلم يُرفعُ العنت والحرج الذي يُوقعه بعض الناس على أنفسهم؛ عن أبي أُمَامَة الباهِليِّ قال: "ذُكِر لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فضلُ العالم على العابدِ كفضلي على أدناكم))، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت - ليُصلُّون على مُعلِّم الناس الخير))؛ رواه الترمذي (2685) بإسناد حسن.
فالعالمُ العامل رفع الله مَنزلته في الدنيا والآخرة، يدعو له ويَستغفرُ من في السموات ومن في البر والبحر، فالعالمُ من هذه الأمَّة قائم مَقام النبوَّة يُعلِّم الناس أمورَ دينِهم، ويَنفي عن دين الله تَحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ففضلُ العلم خيرٌ من العبادة؛ لأن نفعَه مُتعدٍّ، ونفع العبادة مَقصور على صاحبها؛ فعن حُذيفة بن اليَمان قال: قال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فضلُ العلمِ خيرٌ من فضل العبادة، وخيرُ دينِكم الورعُ))؛ رواه الطبراني في الأوسط (3960)، وحسَّن إسناده المنذريُّ في "الترغيب والترهيب" (103).
فخيرُ ما نَتقرَّبُ به لربِّنا - تبارك وتعالى - طلبُ العلم؛ ففي حديث أبي هريرة: ((ومن سلك طريقًا يَلتمسُ فيه عِلمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطَّأ به عَملُه لم يُسرعْ به نسبُه))؛ رواه مسلم (2699).
فمن سلك الطرقَ الحسيَّة ذاهبًا وراجعًا لأماكن العلمِ، كان ذهابه سببًا في دخوله الجنَّة، وكذلك من سلك طرقَ العلم المعنوية التي بها يُحصَّلُ العلم ويُحفظُ، من حِفظٍ ومُراجعةٍ ومُذاكرةٍ مع أحدٍ داخل في عموم الحديث والله أعلم.
فالعلمُ طريق الجنة، وإذا حَسُنتْ نيةُ طالب العلم، وفَّقَه الله للعمل به، فكان ذلك سببًا لدخوله الجنة.
العلم يدلُّ على الله من أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقَه ولم يَعوَجّ عنه، وصل إلى الله – تعالى - وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فَسهلتْ عليه الطرقُ الموصلة إلى الجنة كلُّها في الدنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقُربه ومُجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافعِ الذي بَعثَ الله به رسلَه، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل والشبه والشهوات.
مَعاشر الإخوة:
إذا كان فضلُ العلم بهذه المنزلة، فهو أفضلُ من نَفلِ الصلاة والصيام والذِّكر والصدقة، فعلامَ لا نسلكه؟! لماذا لا نتحيَّن وقت الفراغ ونحضر الدروس العلمية التي لا تَخلو منها مساجدنا؟! فمن كان لديه فراغ بعد المغرب يجلس بنية الاستفادة وانتظار صلاة العشاء بعد صلاة المغرب، فيحصل على الخيرين ومن لم يَستطعْ، يبادر لصلاة العشاء؛ ليحصلَ على فضيلة التبكير ويستمع للدرس، ومن ليس لديه ارتباط بعد صلاة العشاء، يحضر الدروس التي تُقام بعد العشاء، كأني بك أخي تقول: كَبُرَ سنِّي وضَعُفَ فَهمي، فأقول لك: هذا من تثبيط الشيطان، فكم كان عُمر الصديق والفاروق وذي النورين حينما كانوا يحضرون مَجالس النبي ونقلوا لنا هذا العلم، وهَبْ أنك لم تستفدْ علمًا، فلكَ الأجرُ الثابت من الله.
العلماءُ ورثة الأنبياء، فشرفُهم مَنوط بقيامهم بحقِّه لا بجمعه فقط وعلى قدر سلوك العالم طريق الأنبياء، على قدر حصول الأذى له من السُّفهاء من مَرضى الشُّبهات والشَّهوات، فديدنُ هؤلاء وهؤلاء التَّعرض لمن يُكدِّر عليهم باطلَهم أو يُنكِر عليهم، فيرمونه عن قوسٍ واحد ويتَّهمونه بشتى التُّهم ويلصقون به كل نقيصة وبَليَّة، ورثوا ذلك عن أسلافهم أعداء الأنبياء؛ فعن عبدالله بن عمر، قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأيت مثل قرَّائنا هؤلاء لا أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبتَ ولكنَّك مُنافق، لأخْبِرَنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبَلغَ ذلك النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونزل القرآن، قال عبدالله: فأنا رأيته مُتعلقًا بِحقبِ ناقة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - تَنْكُبُهُ الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون))؛ رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره".
فحينما لا يستطيع مَرضى الشهوات والشُّبهات تَنقُّصَ دين الله ولمزه يَتنقصون حَمَلَته، فإذا قلَّ قدرُهم عند الناس، قلَّ الانتفاع بهم؛ فلذا تجد المبتَدِعة كالروافض يتنقصون الصحابة ويَطعنون بعدالتهم؛ ليسقطوا الإرث النبوي الذي بلَّغونا إياه، وفيه الردُّ على بدعتهم.
هذا شأن مَرضى الشهوات والشبهات مع العلماء الصادقين، أما من يَهابهم أو يُداهنهم، فهو مَحل حَفاوة وتقدير عندهم؛ {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73]، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
الخطبة الثانية
لعلمائنا علينا حقَّان حينما يقع بعضُ السُّفهاء في أعراضهم: حقُّ الأخوَّة الإيمانية وحقُّ العلم، فلنتثبَّتْ فيما يُقال عنهم أو يُنسب إليهم من فَتاوى مُستغربة، خصوصًا الأموات؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
علينا أن نردَّ عن أعرضهم كلٌّ بحسبه وعلى قدر وسعه في الوسائل المتاحة المباحة؛ فعن أبي الدرداء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))؛ رواه الترمذي (1931)، وقال: هذا حديث حسن.
علينا أن نتذكَّرَ أن هذه سُنَّة الله في العلماء الصادقين، فينبغي أن تزيدَنا هذه الحملات مَحبةً لهم ورجوعًا إليهم.
شرفُ العالم وفضله مَقرون بنيته الصالحة وعمله، لا بكثرة تحصيله؛ ففي حديث أبي هريرة في أوَّل الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه: ((َرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ))؛ رواه مسلم (1905).
فحين كان قَصْدُ هذا المتعلم العُلوَّ والرِّفْعَة بين الناس، كان من أول من تُسعَّرُ به النار، ولم يَشفع له ما عنده من علم، وربُّنا ذم اليهود حينما لم يعملوا بما عندهم من علم؛ {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، قال القرطبي في المُفْهِم (6/686): العالمُ لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مَذمومًا، ولم يَستحقَّ اسم العالم.
عن عبدالله بن عمرو قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله لا يَنزعُ العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يَنتزعُه منهم مع قَبضِ العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهَّال يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ برأيهم، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ))؛ رواه البخاريُّ (7307)، واللفظ له، ومسلم (2673).
فيتعيَّنُ علينا مَعرفة من نستفتي حينما نحتاجُ إلى فتوى، فنستفتي من إذا أفتى، قال: قال الله، قال رسوله، قال الصحابة، نستفتي من عُرِف عنه طلبُ العلم على العلماء الذين جمعوا فنون العلم، نستفتي من لم يُعرفْ عنه التقصير في الواجبات أو الوقوع في الكبائر، نستفتي من يَعملُ بما يَعلمُ، نستفتي من عُرِفَ عنه الثبات وسلوك طريقِ العلماء العاملين، نستفتي من لا يتأثرُ بالواقع من لا يتأثرُ برياح التغيير التي تمرُّ بها الأمة، نستفتي من لا يكون همُّه حين الفتوى ردَّة فِعل الناس، نستفتي من لا يتطلع لجاهٍ يَحصلُ عليه مُقابل عِلمه، نستفتي عالم مِلَّة.
الشيخ أحمد الزومان
مآآآآجى
مآآآآجى