أمَّا بعد:
فأُوصِيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فإن بها النجاة والفوز في الآخرة، ولأهلها السلامة والسرور يوم القيامة؛ {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61].
أيها المسلمون:
قلب المرء هو منطلق أعماله، بصلاحه تصلح عند الله وتزكو، وبفساده تفسد ولا ينتفع بها؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألاَ وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))، ومن ثَمَّ فإن من فقه المرء ورجاحة عقله أن يحرص على إصلاح قلبه ويحذر من فساده، وإنه لا صلاح للقلب بمثل دوام الطاعة والاستكثار منها، فإنها تزكِّيه وتطهِّره وترقِّقه، ولا فساد له بمثل كثرة ورود المعاصي عليه واعتياده لها؛ إذ بها يظلم ويقسو وينتكس؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أشربها نُكِتت فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نُكِتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا؛ فلا تضرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكِر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه))؛ رواه مسلم وغيره.
ومعنى الحديث - أيها المسلمون -: أن العبد إذا أرخى لنفسه العنان وتوسَّع في ارتكاب المعاصي، دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمةٌ، وأصابته بكلِّ سيئة وحشة وقسوة، وإذا صار كذلك افتتن واحترق، وزال عنه نور الإسلام وفارَقَه ضياء الإيمان، وعلَتْه ظلمة النفاق، وتغشَّاه سواد الكفر، وأَلِفَ الشرَّ واطمأنَّ إليه، واستنكر الخير ونفر منه، ويدلُّ هذا الحديث أيضًا على أن القلب مثل الكوز، فإذا انكبَّ وانتكس، انصبَّ ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك.
وكفى بهذا المثل النبوي البليغ تقبيحًا للمعاصي، وبيانًا لخطَر عاقبتها وسوء مغبَّتها، وكفى به تحذيرًا من التهاون بها واستصغار شأنها، ومن ثَمَّ فإن المؤمن وإن غلبته نفسه مرَّة أو زلَّت به قدمه يومًا، فإن له عند كلِّ ذنب توبةً ورجوعًا، وله مع كلِّ خطيئة استغفار وإنابة، يفعل ذلك ويتعاهَد نفسه؛ ليبقى قلبه نظيفًا نقيًّا سليمًا، فينجو بذلك من الخزي {يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89].
هذه هي حال المؤمن، لا يبتعد عن ربه مهما حاوَل عدوه أن يصدَّه ويبعده، ولا يتمادَى في الغي، وإن زين له الشيطان أو حاوَل إضلاله، بل هو توَّاب مستغفر منيب، مسلم لربه، منطرح بين يديه، متعرِّض لرحمته، طالب لعفوه، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
أمَّا ضعيف الإيمان وقليل التقوى، فإنه يظلُّ يقترف الذنب مستصغرًا له، غير ناظر إلى عظمة مَن عصاه، فما تزال به الذنوب وإن صغرت حتى يقع فيما حذَّر منه - عليه الصلاة والسلام - حيث قال: ((إياكم ومحقَّرات الذنوب؛ فإنما مثل محقَّرات الذنوب كمثل قومٍ نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنَّ محقَّرات الذنوب متى يُؤخَذ بها صاحبها تهلكه)).
وإذا كان هذا هو شأنَ محقَّرات الذنوب وصغائر السيئات إذا اجتمعت، فكيف بإتيان الكبائر والموبقات وانتهاك الحرمات؟! كيف ببواقع تُرتَكب ليلاً ونهارًا، وتؤتى سرًّا وجهارًا، يأتيها أصحابها مرَّة بعد أخرى، ويفعلونها حينًا بعد حين، ويسمحون لها بطعن قلوبهم طعنةً بعد طعنة؟! وتمرُّ الأيام والطعنات تزداد والقلوب تُنهَك، وتذهب الليالي ونور الإيمان يخبو ووهجه يضعف؛ فتثقل على المرء العبادات وتصعب عليه الطاعات، ولا يجد قوَّة للاستكثار من الخيرات والازدياد من الحسنات، ثم لا يدري إلا وقد أخذه الموت وهو على غير أُهْبَة، فواحسرة المفرِّط! ويا لندم مَن لم يستعد!
أيها المسلمون:
إن الرقيب ليرى في المجتمع اليوم منكرات منتشرة متكرِّرة، زادت في المجتمع واستفحلت، وقلَّ مستنكروها وضعف منكروها، وصارَت لكثرة مَن يفعلها كالمباح الجائز.
غير أن أعظم تلك المنكرات وأقواها أثرًا في إماتة القلوب وجعلها تستمرئ ما دونها - تركُ الصلاة والتهاون بها، والتكاسُل عن أدائها مع الجماعة، وهما المنكران اللذان حُرِم الواقعون فيهما خيرًا كثيرًا وابتلوا بشرور عظيمة؛ إذ من المتقرّر في نفوس المؤمنين بدلالة الكتاب والسنة أن الصلاة هي عمود الدين، والناهية عن الفحشاء والمنكر، والتي مَن حفظها وحافَظ عليها حفظ دينه، ومَن ضيَّعها فهو لما سواها أَضْيَع، ومن ثَمَّ فإن من آثار تركها بالكلية أو عدم أدائها مع الجماعة: أن تجرَّأ فِئَام من الناس على اجتراح السيِّئات بأنواعها، وسهل عليهم الوقوع في المخالفات بألوانها؛ فأكلوا الحرام وتغذوا به، وتناولوا السُّحْتَ ونبتَتْ منه أجسادهم، وتهاوَنوا بأكل الرِّشوة واستكثروا من الربا، وعمَّ فيهم إطلاق النظر في المشاهد التي تسمِّم القلوب وتُمِيت الغيرة، سواء بمعاكسة النساء في الأسواق والشوارع، أو بمضايقتهن عند أبواب الجامعات والمدارس، أو بالتلذُّذ بالجلوس أمام القنوات والدخول في الشبكات، التي تنقل مشاهد اللواط والزنا، وتعرض صور الفجور والخنا، هذا مع إسبال الثياب والتهاون بحلق اللحى، واستسهال التصوير واعتياد الاستماع للغناء، واستمراء الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية، والاستخفاف بالكذب وعدم التثبُّت في نقل الأخبار، وأخذ الناس بالظن والتهمة، وعدم التبيُّن والتأكُّد، وقطع الأرحام لأَتْفَهِ الأسباب.
كلُّ تلك المنكرات ممَّا انتشر وفشا وعمَّ وطمَّ، ولو أننا حافَظنا على الصلاة بشروطها وأركانها وسننها، وتقرّبنا إلى الله بفعل الرواتب وبكَّرنا إلى المساجد - لنهتْنَا صلاتنا عن الفحشاء والمنكر، ولكنَّا لمَّا تساهلنا في عمود ديننا - بل كسره بعضنا - استمرأنا ما هو دون ذلك، ولم تتمعَّر لمنكرٍ وجوهُنا، ولا وَجِلَتْ لمعصيةٍ قلوبُنا.
نعم، أيها المسلمون:
إن مَن يقوم بين يدي الله في كل يوم خمس مرات مخلصًا، بين تكبير وتسبيح وتحميد، وقراءة وقنوت ودعاء، وركوع بتعظيم وسجود بخضوع، إنه ليستحيي أن يتسمرَّ أمام قناة أو شبكة؛ لينظر إلى مغنية فاسقة أو يتأمَّل داعرة فاجرة، وإن مَن يقف في المساجد مع المؤمنين ويركع مع الراكعين، لن يهنأ بصحبة أهل الزنا والخنا، أو يميل إلى أهل المسكرات والمخدرات، أو تشدُّه قنوات العصبية والنعرات الجاهلية، وإن مَن يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويسأل الله أن يهديه صراط المنعَم عليهم، ويجنِّبه طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه ليضنُّ بوقته عن أن يضيِّعه مع البطَّالين، ويحرص على بذل أسباب الاستقامة والهداية، ويعمل على اجتناب أسباب الضلال والغواية، وإن مَن يستعيذ بصدق في آخر صلاته من عذاب النار وعذاب القبر، ليحذر أشدَّ الحذر من أسباب العذاب فيهما، من لواط وزنا وأكل ربا، وكذب وغيبة ونميمة، وسرقة وغلول وخيانة، ألاَ فاتقوا الله وعودوا إلى ربكم وتوبوا من ذنوبكم، وحافظوا على صلاتكم وزكُّوا أنفسكم وأصلحوا قلوبكم، فـ{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10].
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
الخطبة الثانية
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وعظِّموا شعائره ولا تعصوه؛ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5- 6].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208- 209].
أيها المسلمون:
تداركوا أنفسكم بطاعة ربكم، واحذروا الشيطان فإنه عدوكم، وإياكم والتهاونَ بالذنوب والمعاصي، وتذكَّروا أن معصية واحدة قد تُخرِج من رحمة الله؛ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: يا مغرورًا بالأماني، لُعِن إبليس وأُهبِط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمِر بها، وأُخرِج آدم من الجنة بلقمة تناوَلَها، وحُجِب القاتل عنها بعد أن رآها عيانًا بملء كفٍّ من دم، وأُمِر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدرِ الأنملة فيما لا يحلُّ، وأُمِر بإيساع الظهر سياطًا بكلمة قذف أو بقطرة من مُسكِر، وأبان عضوًا من أعضائك بثلاثة دراهم، فلا تأمَنْه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه؛ {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15].
أيها المسلمون:
إنه لا أضعف عقلاً ولا أقل توفيقًا ممَّن وعَدَه ربُّه وعد الحق فأعرض عن وعده وعصاه، ثم هو بعد ذلك يتبع شيطانه ويُطِيعه مع علمه بعداوته وتبرُّئه منه في يوم لا يُغنِي مولى عن مولى شيئًا ولا هم ينصرون، واسمعوا إلى كلام ربكم في ذلك، ومَن أصدق من الله قيلاً؟! قال - سبحانه -: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 21- 22].
اللهم إنَّا نعوذ بك من منكَرات الأخلاق والأعمال، والأهواء والأدواء، ربِّ أعنَّا ولا تُعِن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على مَن بغى علينا، ربِّ اجعلنا لك شكَّارين، لك ذكَّارين، لك رهَّابين، لك مطواعين، لك مخبِتين أوَّاهين، إليك منيبين، رب تقبَّل توباتنا، واغسل حوباتنا، وأجِب دعواتنا، وثبِّت حججنا، وسدِّد ألسنتنا واهدِ قلوبنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهمَّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منَّا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصُرنا على مَن عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا مَن لا يرحمنا.
فأُوصِيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فإن بها النجاة والفوز في الآخرة، ولأهلها السلامة والسرور يوم القيامة؛ {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61].
أيها المسلمون:
قلب المرء هو منطلق أعماله، بصلاحه تصلح عند الله وتزكو، وبفساده تفسد ولا ينتفع بها؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألاَ وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))، ومن ثَمَّ فإن من فقه المرء ورجاحة عقله أن يحرص على إصلاح قلبه ويحذر من فساده، وإنه لا صلاح للقلب بمثل دوام الطاعة والاستكثار منها، فإنها تزكِّيه وتطهِّره وترقِّقه، ولا فساد له بمثل كثرة ورود المعاصي عليه واعتياده لها؛ إذ بها يظلم ويقسو وينتكس؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أشربها نُكِتت فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نُكِتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا؛ فلا تضرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكِر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه))؛ رواه مسلم وغيره.
ومعنى الحديث - أيها المسلمون -: أن العبد إذا أرخى لنفسه العنان وتوسَّع في ارتكاب المعاصي، دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمةٌ، وأصابته بكلِّ سيئة وحشة وقسوة، وإذا صار كذلك افتتن واحترق، وزال عنه نور الإسلام وفارَقَه ضياء الإيمان، وعلَتْه ظلمة النفاق، وتغشَّاه سواد الكفر، وأَلِفَ الشرَّ واطمأنَّ إليه، واستنكر الخير ونفر منه، ويدلُّ هذا الحديث أيضًا على أن القلب مثل الكوز، فإذا انكبَّ وانتكس، انصبَّ ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك.
وكفى بهذا المثل النبوي البليغ تقبيحًا للمعاصي، وبيانًا لخطَر عاقبتها وسوء مغبَّتها، وكفى به تحذيرًا من التهاون بها واستصغار شأنها، ومن ثَمَّ فإن المؤمن وإن غلبته نفسه مرَّة أو زلَّت به قدمه يومًا، فإن له عند كلِّ ذنب توبةً ورجوعًا، وله مع كلِّ خطيئة استغفار وإنابة، يفعل ذلك ويتعاهَد نفسه؛ ليبقى قلبه نظيفًا نقيًّا سليمًا، فينجو بذلك من الخزي {يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89].
هذه هي حال المؤمن، لا يبتعد عن ربه مهما حاوَل عدوه أن يصدَّه ويبعده، ولا يتمادَى في الغي، وإن زين له الشيطان أو حاوَل إضلاله، بل هو توَّاب مستغفر منيب، مسلم لربه، منطرح بين يديه، متعرِّض لرحمته، طالب لعفوه، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
أمَّا ضعيف الإيمان وقليل التقوى، فإنه يظلُّ يقترف الذنب مستصغرًا له، غير ناظر إلى عظمة مَن عصاه، فما تزال به الذنوب وإن صغرت حتى يقع فيما حذَّر منه - عليه الصلاة والسلام - حيث قال: ((إياكم ومحقَّرات الذنوب؛ فإنما مثل محقَّرات الذنوب كمثل قومٍ نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنَّ محقَّرات الذنوب متى يُؤخَذ بها صاحبها تهلكه)).
وإذا كان هذا هو شأنَ محقَّرات الذنوب وصغائر السيئات إذا اجتمعت، فكيف بإتيان الكبائر والموبقات وانتهاك الحرمات؟! كيف ببواقع تُرتَكب ليلاً ونهارًا، وتؤتى سرًّا وجهارًا، يأتيها أصحابها مرَّة بعد أخرى، ويفعلونها حينًا بعد حين، ويسمحون لها بطعن قلوبهم طعنةً بعد طعنة؟! وتمرُّ الأيام والطعنات تزداد والقلوب تُنهَك، وتذهب الليالي ونور الإيمان يخبو ووهجه يضعف؛ فتثقل على المرء العبادات وتصعب عليه الطاعات، ولا يجد قوَّة للاستكثار من الخيرات والازدياد من الحسنات، ثم لا يدري إلا وقد أخذه الموت وهو على غير أُهْبَة، فواحسرة المفرِّط! ويا لندم مَن لم يستعد!
أيها المسلمون:
إن الرقيب ليرى في المجتمع اليوم منكرات منتشرة متكرِّرة، زادت في المجتمع واستفحلت، وقلَّ مستنكروها وضعف منكروها، وصارَت لكثرة مَن يفعلها كالمباح الجائز.
غير أن أعظم تلك المنكرات وأقواها أثرًا في إماتة القلوب وجعلها تستمرئ ما دونها - تركُ الصلاة والتهاون بها، والتكاسُل عن أدائها مع الجماعة، وهما المنكران اللذان حُرِم الواقعون فيهما خيرًا كثيرًا وابتلوا بشرور عظيمة؛ إذ من المتقرّر في نفوس المؤمنين بدلالة الكتاب والسنة أن الصلاة هي عمود الدين، والناهية عن الفحشاء والمنكر، والتي مَن حفظها وحافَظ عليها حفظ دينه، ومَن ضيَّعها فهو لما سواها أَضْيَع، ومن ثَمَّ فإن من آثار تركها بالكلية أو عدم أدائها مع الجماعة: أن تجرَّأ فِئَام من الناس على اجتراح السيِّئات بأنواعها، وسهل عليهم الوقوع في المخالفات بألوانها؛ فأكلوا الحرام وتغذوا به، وتناولوا السُّحْتَ ونبتَتْ منه أجسادهم، وتهاوَنوا بأكل الرِّشوة واستكثروا من الربا، وعمَّ فيهم إطلاق النظر في المشاهد التي تسمِّم القلوب وتُمِيت الغيرة، سواء بمعاكسة النساء في الأسواق والشوارع، أو بمضايقتهن عند أبواب الجامعات والمدارس، أو بالتلذُّذ بالجلوس أمام القنوات والدخول في الشبكات، التي تنقل مشاهد اللواط والزنا، وتعرض صور الفجور والخنا، هذا مع إسبال الثياب والتهاون بحلق اللحى، واستسهال التصوير واعتياد الاستماع للغناء، واستمراء الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية، والاستخفاف بالكذب وعدم التثبُّت في نقل الأخبار، وأخذ الناس بالظن والتهمة، وعدم التبيُّن والتأكُّد، وقطع الأرحام لأَتْفَهِ الأسباب.
كلُّ تلك المنكرات ممَّا انتشر وفشا وعمَّ وطمَّ، ولو أننا حافَظنا على الصلاة بشروطها وأركانها وسننها، وتقرّبنا إلى الله بفعل الرواتب وبكَّرنا إلى المساجد - لنهتْنَا صلاتنا عن الفحشاء والمنكر، ولكنَّا لمَّا تساهلنا في عمود ديننا - بل كسره بعضنا - استمرأنا ما هو دون ذلك، ولم تتمعَّر لمنكرٍ وجوهُنا، ولا وَجِلَتْ لمعصيةٍ قلوبُنا.
نعم، أيها المسلمون:
إن مَن يقوم بين يدي الله في كل يوم خمس مرات مخلصًا، بين تكبير وتسبيح وتحميد، وقراءة وقنوت ودعاء، وركوع بتعظيم وسجود بخضوع، إنه ليستحيي أن يتسمرَّ أمام قناة أو شبكة؛ لينظر إلى مغنية فاسقة أو يتأمَّل داعرة فاجرة، وإن مَن يقف في المساجد مع المؤمنين ويركع مع الراكعين، لن يهنأ بصحبة أهل الزنا والخنا، أو يميل إلى أهل المسكرات والمخدرات، أو تشدُّه قنوات العصبية والنعرات الجاهلية، وإن مَن يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويسأل الله أن يهديه صراط المنعَم عليهم، ويجنِّبه طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه ليضنُّ بوقته عن أن يضيِّعه مع البطَّالين، ويحرص على بذل أسباب الاستقامة والهداية، ويعمل على اجتناب أسباب الضلال والغواية، وإن مَن يستعيذ بصدق في آخر صلاته من عذاب النار وعذاب القبر، ليحذر أشدَّ الحذر من أسباب العذاب فيهما، من لواط وزنا وأكل ربا، وكذب وغيبة ونميمة، وسرقة وغلول وخيانة، ألاَ فاتقوا الله وعودوا إلى ربكم وتوبوا من ذنوبكم، وحافظوا على صلاتكم وزكُّوا أنفسكم وأصلحوا قلوبكم، فـ{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10].
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
الخطبة الثانية
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وعظِّموا شعائره ولا تعصوه؛ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5- 6].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208- 209].
أيها المسلمون:
تداركوا أنفسكم بطاعة ربكم، واحذروا الشيطان فإنه عدوكم، وإياكم والتهاونَ بالذنوب والمعاصي، وتذكَّروا أن معصية واحدة قد تُخرِج من رحمة الله؛ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: يا مغرورًا بالأماني، لُعِن إبليس وأُهبِط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمِر بها، وأُخرِج آدم من الجنة بلقمة تناوَلَها، وحُجِب القاتل عنها بعد أن رآها عيانًا بملء كفٍّ من دم، وأُمِر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدرِ الأنملة فيما لا يحلُّ، وأُمِر بإيساع الظهر سياطًا بكلمة قذف أو بقطرة من مُسكِر، وأبان عضوًا من أعضائك بثلاثة دراهم، فلا تأمَنْه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه؛ {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15].
أيها المسلمون:
إنه لا أضعف عقلاً ولا أقل توفيقًا ممَّن وعَدَه ربُّه وعد الحق فأعرض عن وعده وعصاه، ثم هو بعد ذلك يتبع شيطانه ويُطِيعه مع علمه بعداوته وتبرُّئه منه في يوم لا يُغنِي مولى عن مولى شيئًا ولا هم ينصرون، واسمعوا إلى كلام ربكم في ذلك، ومَن أصدق من الله قيلاً؟! قال - سبحانه -: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 21- 22].
اللهم إنَّا نعوذ بك من منكَرات الأخلاق والأعمال، والأهواء والأدواء، ربِّ أعنَّا ولا تُعِن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على مَن بغى علينا، ربِّ اجعلنا لك شكَّارين، لك ذكَّارين، لك رهَّابين، لك مطواعين، لك مخبِتين أوَّاهين، إليك منيبين، رب تقبَّل توباتنا، واغسل حوباتنا، وأجِب دعواتنا، وثبِّت حججنا، وسدِّد ألسنتنا واهدِ قلوبنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهمَّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منَّا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصُرنا على مَن عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا مَن لا يرحمنا.
الشيخ عبدالله بن محمد البصري
مجووووووده
مجووووووده