إنَّ الحمد لله تعالى، نحمَده ونستعينه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله - تعالى - من شرور أنفُسنا ومِن سيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70، 71].
وبعد:
فإنَّ الأخوَّة من أقوى دعائم بناء الأُمَم؛ فبِها أقام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دولةَ الإسلام، الَّتي دان لها ممالك الأرض في ذلك الوقت: الفرس والروم؛ ويرجِع ذلك لرباط العقيدة والدين.
وما أحوجَنا - نحن أمَّةَ الإسلام - خاصَّة في هذا الزَّمان الذي ساد فيه التفرُّق والتشرْذُم بين أبناء الأمَّة، فأضعْنا مجدًا تليدًا، وتكالب عليْنا الأمم، وبِتْنا مفرَّقين مشتَّتين، ربَّما على مستوى الأسرة، فضلاً عن مستوى الأقطار والبلدان.
ولن يعود للأمَّة مجدُها إلاَّ بالرّجوع إلى الأُسُس الَّتي بنَى عليها رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - دولة الإسلام، وعضضْنَا عليها بالنَّواجذ، وتمسَّكْنا بأخوَّتنا في الله ولله، ونبذْنا التَّفرُّق؛ قال - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
ومن هنا كانت هذه التَّذْكِرة، من خلال هذا البحث الذي هو عبارة عن تطْوافةٍ حول فضْل الإخاء والمحبَّة في الله، ويشتمل على مباحثَ عدَّة:
أوَّلها: فضل الأخوَّة في الله وأهمّيَّتها من القرآن والآثار.
ثانيها: الأحاديث والآثار الدَّالَّة على فضل المحبَّة في الله.
ثالثها: ثمار المحبَّة في الله.
المبحث الأوَّل:
مدخل:
اعلم أنَّ الألفة والمحبَّة والإخاء ثمرة حسن الخلق، والتفرُّق ثمرة سوء الخلق؛ فحُسن الخلق يوجب التحابَّ والتآلف والتَّوافق، وسوء الخلُق يُثْمِر التَّباغُض والتَّحاسُد والتَّدابُر.
وإذا كان حسن الخلق يوجب التحابَّ والتَّآلف، وعدمه يوجب التَّباغُض والتنافر - كما أشار الإمام الغزالي - فينبغي أن نشير إلى أنَّ حسن الخلق ليس من نافلة الحديث؛ لأنَّ حسن الأخلاق هو مدخل وباب الأخوَّة، فلا يمكن أن نتصوَّر أخوَّة حقيقيَّة تقوم على سوء الأخلاق، ولعلَّ البعض يقول: بلى، هناك أخوَّة بين قرناء السوء على ما بِهم من سوء الأخلاق!
وأقول: إنَّني حينما أتكلَّم عن الأخوَّة أقصد الأخوَّة الحقيقيَّة، التي تقوم على الإيمان والتَّرابُط في الله ولله، ليس من أجل منفعةٍ دنيويَّة عاجلة، أو مصلحةٍ شخصيَّة، أو عصبيَّة قبليَّة، أو غير ذلك من المادّيَّات، فما كان لله دام واتَّصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
والتَّاريخ الإسلامي خيرُ شاهدٍ على ذلك، وكلّ أخوَّة تقوم على غير ذلك فهي لا محالة محكوم عليها بالفشل والخسران، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، وصدق الله إذ يقول: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وقد مدح الله - تعالى - رسوله بأعْلى وسامٍ في الإنسانيَّة بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وبيَّن الله - تعالى - في آيةٍ أُخرى ما يؤكِّد أنَّ حسن خلقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان سببًا في التِفاف الصَّحابة حوله ومحبَّتهم له؛ قال - تعالى -: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ومن هنا حصر النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعثته في تتْميم الأخلاق فقال: ((إنَّما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق))؛ الحديث رواه أحمد والبيْهقي والحاكم، وصحَّحه من حديث أبي هريرة.
ومَن نظر فى قصص الأنبياء وجد أنَّ كلَّ نبيٍّ كان يُبعث ليدْعو إلى حسن الأخلاق، كما يتَّضح لكلّ من يتتبَّع القرآن في قصَّة لوط وهود، وصالح وشعيب، وغيرهم - عليهم الصَّلاة والسَّلام.
فإذا حسَّنَّا أخلاقَنا استطعنا أن نحقِّق الأخوَّة الإيمانية الحقيقيَّة، التي عُرِفت بين المهاجرين والأنصار، والَّتي ما عرف التَّاريخ مثلَها، والَّتي جعلت الأخَ يتنازَلُ عن أغْلى ما يملك، لا أقول: مالاً، وإنَّما يعرض أن يتنازلَ عن إحدى زوجاتِه لأخيه من المهاجرين، هذه الأخوَّة غابت عنَّا في هذا الزَّمان، إلاَّ مَن رحم الله.
ورحِم الله القائلَ:
فمدار الأخوَّة تقوم على حسن الأخلاق والعقيدة، وقد سبق الحديث عن حُسن الأخلاق.
ويبقى الأمر الثاني، وهو رباط العقيدة، وهو أمتن رباط للأخوَّة، هذا الرّباط الإيماني متمِّثلاً في العقيدة أقْوى من رباط النَّسب، وهذا الَّذي جعل مصعبَ بن عمير يقدِّم أخاه في العقيدة على أخيه في النَّسَب، ولنسمعْ إلى هذا الموقف بأذن واعية.
ففي غزْوة بدرٍ أمَرَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين أقبل بالأسارى وفرَّقهم بين أصحابِه، وقال: ((استوْصوا بهم خيرًا))، فكان من بين الأسرى أبو عزيز بن عُمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمِّه قال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مُصعب بن عمير، ورجلٌ من الأنصار يأسرُني، فقال: "اشدد يديْك به؛ فإنَّ أمَّه ذات متاع لعلَّها تفديه منك"، ولمَّا قال أخوه مصعب هذا التفت إليه أخوه أبو عزيز قائلا: يا أخي، هذه وصاتك بي! فقال له مصعب: "إنَّه أخي دونك"[1].
ولنستعرضْ معًا بعض الآيات والأحاديث الدَّالَّة على فضل التَّآلُف والأخوَّة؛ لعلَّنا نُحْيي موات قلوبِنا، ونعضُّ بالنَّواجذ على الإخاء في الله، والحبّ في الله، والبغض في الله.
قال - تعالى - ممْتَنًّا على رسوله بتأليف قلوب عبادِه المؤمنين: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62، 63].
يقول صاحب "الظلال" معلِّقًا على هذه الآية: "حسبك الله، فهو كافيك، وهو الَّذي أيَّدك بنصْرِه أوَّل مرَّة، وأيَّدك بالمؤمنين الَّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجعل منهم قوَّة موحَّدة، بعد أن كانت قلوبهم شتَّى، وعداواتُهم جاهرة وبأسهم بينهم شديدًا، سواء كان المقصود هم الأوْس والخزرج - وهم الأنصار - فقد كان بينهم في الجاهلية من الثَّارات والدِّماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتِئام، فضلاً عن هذا الإخاء الَّذي لم تَعرف له الأرض نظيرًا ولا شبيهًا، أو كان المقصود هم المهاجرين، وهم كانوا كالأنصار في الجاهليَّة، أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعًا! ولقد وقعت المعجِزة الَّتي لا يقدر عليها إلاَّ الله، والَّتي لا تصنعها إلاَّ هذه العقيدة، فاستحالت هذه القلوب النَّافرة، وهذه الطِّباع الشَّموس، إلى هذه الكُتْلة المتراصَّة المتآخية الذَّلول بعضها لبعض، المحبّ بعضها لبعض، المتآلِف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الَّذي لم يعرفه التاريخ، كما تشهد الأمَّة التي بناها على الحبّ أنَّها لم تكن مجرَّد كلمات مجنَّحة، ولا مجرَّد أعمال مثاليَّة فردية، إنَّما كانت واقعًا شامخًا قام على هذا الأساس الثَّابت، بإذن الله، الَّذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه".اهـ.
أقول: ومن عجيب أمْر هذه الآية أن نَجِد أنَّ الله - تعالى - بدأ في الآية ممتنًّا على رسوله بالنَّصر ونظم معه التَّأليف والتَّرابُط بين المؤمنين، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، ولعلَّ في هذا إشارة إلى أنَّ من أهمِّ خطوات النَّصر بعد توفيق الله - تعالى - التَّآلفَ والأخوَّة والتَّرابط بين المؤمنين، فإذا ما فقدت فلن يكون هناك نصر؛ إذ كيف يتصور نصرٌ بين أناس لا رابط بينهم مفرَّقين، ويؤكِّد هذا قوله - تعالى - واصفًا حال اليهود: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14].
ومن الآيات الدَّالَّة على فضْل الأخوَّة وأنَّها سبب لتماسُك المجتمعات: قولُه - جلَّ وعلا -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
يقول صاحب "الظلال" معلِّقًا على هذه الآية بقوله: "فهي أخوَّة إذن تنبثق من التَّقوى والإسلام، من الركيزة الأولى، أساسها الاعتِصام بحبل الله – أي: عهْده ونهجه ودينه - وليست مجرَّد تجمُّع على أيّ تصوُّر آخر، ولا على أيِّ هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخَر من حبال الجاهليَّة الكثيرة؛ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}، هذه الأخوَّة المعتصمة بحبل الله نعمةٌ يمتنُّ الله بها على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهَبها الله لِمَن يحبُّهم من عباده دائمًا، وهو هنا يذكرهم هذه النّعمة، يذكرهم كيف كانوا في الجاهليَّة "أعداء"... وما كان أعْدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد، وهُما الحيَّان العربيَّان في يثرب، يُجاوِرُهما اليهود الَّذين كانوا يُوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارِها؛ حتَّى تأكل روابط الحيَّين جميعًا، ومِن ثمَّ تجد يهود مجالَها الصَّالح الذي لا تعمل إلاَّ فيه، ولا تعيش إلاَّ معه، فألَّف الله بين قلوب الحيَّين من العرب بالإسلام.... وما كان إلاَّ الإسلام وحْده يَجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلاَّ حبل الله الَّذي يعتصم به الجميع فيُصْبِحون بنعمة الله إخوانًا.
وما يمكن أن يجمع القلوب إلاَّ أخوَّة في الله، تصغر إلى جانبِها الأحقاد التَّاريخيَّة، والثَّارات القبليَّة، والأطْماع الشَّخصيَّة والرَّايات العنصريَّة، ويتجمَّع الصَّفّ تحت لواء الله الكبير المتعال.
وقد ذكر المفسِّرون في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في شأن الأوْس والخزرج، وذلك أنَّ رجُلا من اليهود مرَّ بملأ من الأوْس والخزرج، فساءَه ما هم عليه من الاتِّفاق والألفة، فبعث رجُلا معه، وأمره أن يَجلس بينهم، ويذكر لهم ما كان من حروبِهم يوم "بعاث" وتلك الحروب، ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتَّى حَميت نفوس القوم، وغضب بعضُهم على بعض، وتثاوَروا، ونادَوا بشعارِهِم، وطلبوا أسلحتَهم وتوعدوا إلى "الحرة" ... فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأتاهم، فجعل يسكِّنُهم، ويقول: ((أبِدعوى الجاهليَّة وأنا بين أظهركم))، وتلا عليهم هذه الآية، فندِموا على ما كان منهم، واصْطلحوا وتعانقوا وألْقوا السِّلاح، رضي الله عنهم".
ومن الآيات التي أكَّدت على ضرورة رباط الأخوَّة بين المؤمنين: قوله - تعالى- حتَّى في حالة نشوب خلافات بيْنهم وضرورة الإصْلاح حتَّى يلتحم الصَّفّ، قال - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
يقول صاحب "التحرير والتنوير" في تفسيره: "وجيء بصيغة القصْر المفيدة لحصْر حالهم في حال الإخوة؛ مبالغةً في تقرير هذا الحكم بين المسلمين، فهو قصر ادعائي، أو هو قصر إضافي للرَّدّ على أصحاب الحالة المفْروضة، الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين، وأخبر عنهم بأنَّهم إخوة مجازًا على وجْه التَّشبيه البليغ؛ زيادة لتقرير معنى الأخوَّة بينهم، حتَّى لا يحق أن يقرن بحرف التَّشبيه المشْعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخوة".
وهذه الآية فيها دلالة قويَّة على تقرّر وجوب الأخوَّة بين المسلمين؛ لأنَّ شأن (إنَّما) أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحَّته، أو لما ينزل منزلة ذلك، كما قال الشيخ عبدالقاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" في الفصل الثَّاني عشر، وساق عليه شواهد كثيرةً من القرآن وكلام العرب؛ فلذلك كان قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} مفيد أنَّ معنى الأخوَّة بينهم معلوم مقرَّر، وقد تقرَّر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلامِ رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذلك قولُه تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وهي سابقةٌ في النزول على هذه السورة؛ فإنَّها معدودة الثَّانية والمائة، وسورة الحجرات معدودة الثَّامنة والمائة من السور.
وآخى النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المهاجرين والأنصار حين ورودِه المدينة، وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين، وفي الحديث: ((لو كنتُ متَّخذًا خليلاً غير ربِّي لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوَّة الإسلام أفضل)).
وفي باب تزويج الصّغار من الكبار من "صحيح البخاري" أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطب عائشةَ من أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنَّما أنا أخوك، فقال: ((أنت أخي في دينِ الله وكتابِه وهي لي حلال)).
وفي حديثه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلِم أخو المسلم، لا يظلِمه ولا يخْذله ولا يَحقره، بَحسب امرئ من الشَّرّ أن يَحقِر أخاه المسلم))؛ رواه مسلم.
وفي الحديث: ((لا يؤمن أحدُكم حتَّى يحبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِه))؛ أي: يحب للمسلم ما يُحب لنفسه.
فأشارت جملة {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} إلى وجه وجوب الإصْلاح بين الطَّائفتَين المتباغيتَين منهم، ببيان أنَّ الإيمان قد عقد بين أهلِه من النَّسب الموحي ما لا ينقص عن نسب الأخوَّة الجسديَّة، على نحو قول عمر بن الخطَّاب للمرأة الَّتي شكتْ إليْه حاجة أولادِها، وقالت: أنا بنت خفاف بن أيماء، وقد شهِد أبِي مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الحُدَيْبية، فقال عمر: "مرحبًا بنسَبٍ قريب".
ثمَّ يقول صاحب تفسير "التحرير والتنوير": "ولمَّا كان المتعارَف بين النَّاس أنَّه إذا نشبت مشاقَّة بين الأخويْن لزم بقيَّة الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتِها، مشيًا بالصُّلح بينهما، فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شِقاق بين طائفتَين منهم، أن ينهض سائرهم بالسَّعي بالصُّلح بينهما وبثّ السُّفراء إلى أن يرقعوا ما وهى ويرفعوا ما أصاب ودهى.
وتفْريع الأمر بالإصلاح بين الأخوَين على تحقيق كون المؤمنين إخوةً تأكيدٌ لما دلَّت عليه (إنَّما) من التَّعليل، فصار الأمر بالإصْلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ} قد أردف بالتَّعليل فحصل تقريرُه، ثم عقب بالتَّفريع فزاده تقريرًا.
وقد حصل من هذا النَّظم ما يشبه الدَّعوى، وهي كمطلوب القياس، ثمَّ ما يشبه الاستِدلال بالقياس ثمَّ ما يشبه النتيجة.
ولمَّا تقرَّر معنى الأخوَّة بين المؤمنين كمال التقرُّر، عدل عن أن يقول: فأصلحوا بين الطَّائفتَين إلى قوله: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فهو وصف جديد نشأ عن قوله: {إنَّما المؤْمِنُونَ إخْوَة} فتعيَّن إطلاقه على الطَّائفتَين، فليس هذا من وضْع الظَّاهر موضع الضَّمير، فتأمَّل.
وأُوثرت صيغة التَّثنية في قوله: (أخويكم) مراعاة لكون الكلام جاريًا على طائفتين من المؤمِنِين فجعلت كلّ طائفة كالأخ للأخرى.
وقرأ الجمهور: (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) بلفظ تثنية الأخ على تشْبيه كل طائفة بأخ.
وقرأ يعقوب: (فأصْلِحُوا بين إِخْوَتِكُمْ) بتاء فوقيَّة بعد الواو؛ على أنَّه جمع أخ، باعتبار كلّ فرد من الطائفتين كالأخ".
وقال صاحب "الظلال": "وممَّا يترتَّب على هذه الأخوَّة أن يكون الحبّ والسَّلام والتَّعاون والوحدة هي الأصْل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القِتال هو الاستثناء الَّذي يجب أن يردَّ إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقْريره قتال المؤمنين الآخرين للبُغاة من إخوانهم ليردُّوهم إلى الصَّفّ، وليُزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة".
وإذا كان ما سبق بعض الآيات الَّتي تحثُّ على التَّآخي وضرورة التَّرابط بين الصَّفّ المسلم، وقوام الأخوة الحبّ في الله، فإلى بعض الأحاديث والآثار التي تحثُّ على ذلك:
فمن الأحاديث الدَّالَّة على فضل الأخوَّة في الله والحب لله:
ما رواه مسلم عن أبِي هريرة - رضِي الله عنه - عنِ النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ رجلا زار أخًا له في الله، فأرصد الله له ملَكًا، فقال: أين تُريد؟ قال: أُريد أن أَزور أخِي فلانًا، فقال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا، قال: لقرابةٍ بيْنك وبينه؟ قال: لا، قال: فبِنعمة له عندك؟ قال: لا، قال: فبم؟ قال: أحبُّه في الله، قال: فإنَّ الله أرسلني إليْك يُخبرك بأنَّه يحبُّك لحبِّك إيَّاه، وقد أوجب لك الجنَّة.
وعن أنس بن مالك أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليْه ممَّا سواهما، وأن يكره الرَّجُل أن يعود إلى الكفْر كما يكره أن يقذف في النَّار، وأن يحبَّ العبد لا يحبُّ إلاَّ لله - أو قال: في الله)).
ورحِم الله مَن قال:
وكتب الأحنف بن قيس مع رجُل إلى صديق له: "أمَّا بعد، فإذا قدِم عليك أخ لك موافق فليكن منك مكان سمعِك وبصرِك؛ فإنَّ الأخَ الموافق أفضلُ من الولد المخالف، ألا تسمع إلى قوْل الله - عزَّ وجلَّ - لنوح في شأن ابنِه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، يقول: ليس من أهْل ملَّتك، فانظر إلى هذا وأشباهه فاجعلْهم كنوزك وذخائرك وأصحابك في سفرك وحضرك، فإنَّك إن تقربهم تقرَّبوا منك، وإن تباعدهم يستغْنوا بالله - عزَّ وجلَّ - والسَّلام".
وقال الشاعر:
وقال عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: "عليْك بإخوان الصّدق فعش في أكنافِهم؛ فإنَّهم زَين في الرخاء وعدَّة في البلاء".
عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ أفضل الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله)).
وعنِ ابن عمر قال: "لقد رأيتُنا وما الرَّجل المسلم بأحقَّ بديناره ودرهمِه من أخيه المسلم".
قال رجل لداود الطَّائي: أوْصِني، قال: "اصحب أهل التقْوى؛ فإنَّهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة وأكثرهم لك معونة".
وعن أبي عمْرٍو العوفي قال: كان يقال: "اصحب من إن صحِبْتَه زانك، وإن خدمتَه صانك، وإن أصابتْك خصاصة مَانَك، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن رأى منك سقطةً سدَّها، وإن قلت صدَّق قولك، وإن صُلْت سدَّد صولك".
وزاد غيره: "ولا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليْك منه الطَّرائق، ومَن إن سألتَه أعطاك، وإن سكتَّ ابتدأك، وإن نازعتَه يَذِلّ لك".
وقال عبدالله بن الحسن: "أربع من سعادة المرْء: أن تكون زوجتُه صالحة، وأن يكون ولده أبرارًا، وأن تكون معيشتُه في بلده، وإخوانه صالحين".
وقال الحسن: "المؤمن مرآة أخيه، إن رأى فيه ما لا يعجبه سدَّده وقوَّمه، وحاطه وحفِظه في السّرّ والعلانية، إنَّ لك من خليلِك نصيبًا، وإنَّ لك نصيبًا من ذكر مَن أحببت، فثِقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس".
وأختم هذا المبحث بما قاله د. البوطي في كتابه "فقه السيرة" مبيِّنًا أهمّيَّة الأخوَّة بقوله:
"أوَّلاً: إنَّ أيَّ دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلاَّ على أساس من وحْدة الأمة وتسانُدها، ولا يمكن لكلّ من الوحدة والتسانُد أن يتمَّ بغير عامل التَّآخي والمحبَّة المتبادلة، فكلّ جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودَّة والتآخي الحقيقيَّة لا يُمكن أن تتَّحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتّحاد حقيقة قائمة في الأمَّة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألَّف منها دولة.
على أنَّ التَّآخي أيضًا لا بدَّ أن يكون مسبوقًا بعقيدة يتمّ اللقاء عليها والإيمان بها.
ومن أجل ذلك؛ فقد جعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أساس الأخوَّة التي جمع عليها أفئدة أصحابه: العقيدة الإسلاميَّة التي جاءهم بها من عند الله تعالى، والَّتي تضع النَّاس كلهم في مصافّ العبودية الخالصة لله تعالى، دون الاعتبار لأيّ فارق إلاَّ فارق التقوى والعمل الصَّالح؛ إذ ليس من المتوقَّع أن يسود الإخاء والتَّعاون والإيثار بين أناس شتَّتتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكًا لأنانيَّته وأثرته وأهوائه.
ثانيًا: إنَّ المجتمع - أيّ مجتمع - إنَّما يختلف عن مجموعةٍ ما من النَّاس منتثرة مفكَّكة، بشيء واحد، هو قيام مبدأ التَّناصُر والتَّعاون فيما بين أشخاص هذا المجتمع، وفي كلّ نواحي الحياة ومقوّماتها، فإن كان هذا التَّعاون والتَّناصُر قائمًا، طبق نظام العدل والمساواة فيما بينهم، فذلِك هو المجتمع العادل السَّليم، وإن كان ذلك قائمًا على الحيف والظلم، فذلك هو المجتمع الظَّالم المنحرف، وإذا كان المجتمع السليم إنَّما يقوم على أساس من العدالة في الاستِفادة من أسباب الحياة والرِّزْق، فما الَّذي يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟
إنَّ الضَّمانة الطبيعيَّة والفطريَّة الأولى لذلك، إنَّما هي التَّآخي والتَّواد.
ثالثًا: المعنى التفسيري الذي صاحب شعار التآخي:
لَم يكن ما أقامه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين أصحابه من مبدأ التَّآخي مجرَّد شعار في كلِمة أجراها على ألسِنَتهم، وإنَّما كان حقيقة عمليَّة تتَّصل بواقع الحياة وبكلّ أوجُه العلاقات القائمة بين المهاجرين والأنصار؛ ولذلك جعل النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذه الأخوَّة مسؤوليَّة حقيقيَّة تشيع بين هؤلاء الإخوة، وكانت هذه المسؤوليَّة تؤدَّى فيما بينهم على خير وجه، وحسبُنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الرَّبيع الذي كان قد آخى الرَّسول بيْنه وبين عبدالرَّحمن بن عوف، إذ عرض على عبدالرحمن بن عوف أن يشركه في بيْتِه وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكنَّ عبدالرَّحمن بن عوف شكرَه وطلب منه أن يُرْشِده إلى سوق المدينة ليشتغِل فيها، وَلَم يكُن سعد بن الربيع منفردًا عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظنّ، بل كان هذا شأْن عامَّة الصَّحابة في علاقتهم وتعاوُنِهم مع بعض، خصوصًا بعد الهجرة، وبعد أن آخى النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما بينهم.
ولذلك أيضًا جعل الله - سبحانه وتعالى - حقَّ الميراث منوطًا بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرَّحِم، فقد كان من حكمة هذا التَّشريع أن تتجلَّى الأخوَّة الإسلاميَّة حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين، وأن يعلموا أنَّ ما بين المسلمين من التَّآخي والتَّحابّ ليس شعارًا وكلامًا مجرَّدين، وإنَّما هي حقيقة قائمة ذات نتائج اجتِماعيَّة محسوسة، تكون أهمَّ أسس نظام العدالة الاجتِماعيَّة.
أمَّا حكمة نسخ التَّوارث على أساس هذه الأخوَّة فيما بعد، فهي أنَّ نظام الميراث الَّذي استقرَّ أخيرًا، إنَّما هو نفسه قائم على أخوَّة الإسلام بين المتوارثين؛ إذ لا توارُث بين دينَين مختلفين، إلاَّ في الفترة الأولى من الهجرة وضعت كلّ من الأنصار والمهاجرين أمام مسؤولية خاصَّة من التعاون والتناصُر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلِهم وترْكهم ديارهم وأموالهم في مكَّة، ونزولهم ضيوفًا على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان ما أقامه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسؤوليَّة، ولقد كان من مقْتضى هذه المسؤوليَّة أن يكون التَّآخي أقوى في حقيقتِه وأثره من أخوَّة الرحِم المجرَّدة.
ثمَّ إنَّ هذا التَّآخي الذي عقده رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقًا بمؤاخاة أُخرى أقامها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المهاجرين في مكَّة، قال ابن عبدالبر: "كانت المؤاخاة مرَّتين: مرَّة بين المهاجرين خاصَّة، وذلك بمكَّة، ومرَّة بين المهاجرين والأنصار".
وهذا ما يؤكِّد لنا أنَّ مناط الأخوَّة وأساسها إنَّما هو رابطة الإسلام، غير أنَّها احتاجت إلى تجديد وتأكيد بعد الهجرة؛ بسبب ظروفها وبسبَب اجتِماع المهاجرين والأنصار في دار واحدة.
فهي ليست في الحقيقة شيئًا آخَر غير الأخوَّة القائمة على أساس جامعة الإسلام ووحْدة العقيدة، وإنَّما هي تأْكيد لها عن طريق التَّطبيق.
المبحث الثَّاني: ثمرة المحبَّة في الله.
إذا ما حقَّقنا الأخوَّة والمحبَّة في الله ولله، والَّتي لا تقوم على تبادُل المنافع المادّيَّة أو المصالح الشَّخصيَّة، كما قال أحد السَّلف: علامة الحبّ في الله ألاَّ يزيد بالبِرِّ ولا ينقص بالجفاء، إذا ما حقَّقْنا ذلك نلنا هذه الثّمار الجنيَّة.
أوَّلها: أنَّ المتحابين في الله يكونون في ظلّ عرش الله في وقت تدْنو الشَّمس من الرُّؤوس، ويَسيح الناس في عرقهم؛ ففي الحديث عن أبِي هُريرة عن النَّبيّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه))، وذكر من بينها: ((ورجُلَين تحابَّا في الله - عزَّ وجلَّ - اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه)).
وعن أبي هريرة عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يقول الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة: أين المتحابُّون في جلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلِّي)).
ثانيًا: المتحابون في الله يحبُّهم الله - تعالى - ووالله ما أجملَها من ثمرة أن يحبَّنا الله - جلَّ جلالُه - وهو الغني عن عباده!
ففي الحديث القدسي يقول - تعالى-: ((حقَّت محبَّتي للَّذين يتحابّون فيَّ، وحقَّت محبَّتي للَّذين يتباذلون فيَّ، وحقَّت محبَّتي للَّذين يتزاورون فيَّ)).
ثالثها: المتحابّون في الله في مكان يغبطهم عليه مَن هم في أفضلِ المنازل: النبيُّون والشهداء.
المتحابُّون في الله لا يَخافون إذا خاف النَّاس، ولا يفزعون حين يفزع النَّاس، ولنسمع إلى هذا الحديث النبوي الَّذي يهزُّ الوجدان.
عن معاذ بن جبل قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: المتحابّون في جلالي لهم منابرُ من نورٍ يغْبطهم النبيُّون والشهداء))؛ الحديث أخرجه التِّرْمذي في سننه وقال: حسن صحيح.
وعن ابنِ عمر - رضِي الله عنْهُما - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إنَّ لله عبادًا ليْسوا بأنبِياء ولا شهداء، يغبطُهُم الشهداء والنبيُّون يوم القيامة؛ لقربهم من الله تعالى ومجلسهم منْه))، فجثا أعرابيٌّ على ركبتَيه فقال: يا رسول الله، صفْهم لنا وجلّهم لنا، قال: ((قوم من أقناء النَّاس من نزَّاع القبائل، تصادقوا في الله وتحابّوا فيه، يضَع الله - عزَّ وجلَّ - لهم يوْم القيامة منابرَ من نورٍ، يَخاف النَّاسُ ولا يخافون، هم أولياء الله - عزَّ وجلَّ - الَّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون))؛ الحديث أخرجه الحاكِم في "المستدرك" وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
فهل لنا أن نقرأ الحديث مرَّة أخرى ثمَّ نتأمَّل هذا الفضْل والمنزلة، الَّتي وهبها الله للمتحابِّين في الله؟! ألا يَجدر بنا أن نسعى لتحْقيق الأخوَّة بيننا القائمة على التحابّ والتآلُف في الله؛ لنحْظى بهذا الفضْل؟! جعلنا الله من المتحابّين في الله.
وحديث أبِي هريرة - رضي الله عنه -: ((إنَّ حول العرش منابرَ من نور، عليها قوم لباسُهم نور ووجوههم نور، ليْسوا بأنبِياء ولا شهداء، يغبطهم النبيُّون والشُّهداء)) فقالوا: يا رسول الله، صفْهم لنا، فقال: ((هم المتحابّون في الله، والمتجالِسون في الله، والمتزاوِرون في الله)).
قال العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء: أخرجه النَّسائي في سننِه الكبرى، ورجاله ثقات.
رابعها: أنَّ المحبَّة في الله - تعالى - تصِل بالإنسان لدرجةٍ لا يصِل إليْها بعمله، فلو أنَّ إنسانًا أحبَّ مَن هو فوقه في الدِّين والمنزلة يُحشر يوم القيامة معه، ولنسمعْ لحديث النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم:
عن أنس بن مالك أنَّ أعرابيًّا قال لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: متى الساعة؟ قال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أعددتَ لها؟)) قال: حبّ الله ورسوله، قال: ((أنتَ معَ مَن أحببت))؛ الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وعن أنس بن مالك قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، متى السَّاعة؟ قال: ((وما أعددت للسَّاعة؟)) قال: حبّ الله ورسوله، قال: ((فإنَّك مع مَن أحببتَ))، قال أنس: فما فرِحْنا بعد الإسلام فرحًا أشدَّ مِن قول النَّبيّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((فإنَّك مع مَن أحببت)).
قال أنس: فأنا أحبُّ الله ورسولَه، وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالِهم.
فحريّ بنا أن نقول ما قاله أنسٌ: فإنِّي أحبّ الله ورسوله، وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بعملهم، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
خامسها: أنَّ المحبَّة في الله تكون سببًا في تحاتّ الذنوب والخطايا؛ فعن مجاهد قال: "إذا التقى المتحابَّان فبشَّ بعضُهم إلى بعض، تحاتَّت عنهم الخطايا كما يتحاتُّ ورق الشَّجر في الشتاء إذا يبس".
فالحبُّ في الله - تعالى - وتحقيق مبدأ الأخوَّة من أهمِّ ما ينبغي أن يحرِص عليه كلُّ مسلم غيور على دينه، حتى يسود التَّرابط بين المسلمين، وحتَّى يكتب لهم النَّصر على عدوِّهم.
على أنَّ الأخوَّة لها حقوقٌ وآداب ينبغي مراعاتُها، وسأردها - إن شاء الله - في بحث منفرد إن يسَّر الله تعالى.
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} [هود: 88]، فإن وفّقت فمِن الله - تعالى - وإن كانت الأخرى فمِن نفسي، وأستغفر الله.
اللهُمَّ ارزقْنا الإخلاص في أقوالِنا وأفعالِنا، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] راجع: البداية والنهاية لابن كثير، 3/ 306 - 307، بتصرّف يسير.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70، 71].
وبعد:
فإنَّ الأخوَّة من أقوى دعائم بناء الأُمَم؛ فبِها أقام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دولةَ الإسلام، الَّتي دان لها ممالك الأرض في ذلك الوقت: الفرس والروم؛ ويرجِع ذلك لرباط العقيدة والدين.
وما أحوجَنا - نحن أمَّةَ الإسلام - خاصَّة في هذا الزَّمان الذي ساد فيه التفرُّق والتشرْذُم بين أبناء الأمَّة، فأضعْنا مجدًا تليدًا، وتكالب عليْنا الأمم، وبِتْنا مفرَّقين مشتَّتين، ربَّما على مستوى الأسرة، فضلاً عن مستوى الأقطار والبلدان.
ولن يعود للأمَّة مجدُها إلاَّ بالرّجوع إلى الأُسُس الَّتي بنَى عليها رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - دولة الإسلام، وعضضْنَا عليها بالنَّواجذ، وتمسَّكْنا بأخوَّتنا في الله ولله، ونبذْنا التَّفرُّق؛ قال - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
ومن هنا كانت هذه التَّذْكِرة، من خلال هذا البحث الذي هو عبارة عن تطْوافةٍ حول فضْل الإخاء والمحبَّة في الله، ويشتمل على مباحثَ عدَّة:
أوَّلها: فضل الأخوَّة في الله وأهمّيَّتها من القرآن والآثار.
ثانيها: الأحاديث والآثار الدَّالَّة على فضل المحبَّة في الله.
ثالثها: ثمار المحبَّة في الله.
المبحث الأوَّل:
مدخل:
اعلم أنَّ الألفة والمحبَّة والإخاء ثمرة حسن الخلق، والتفرُّق ثمرة سوء الخلق؛ فحُسن الخلق يوجب التحابَّ والتآلف والتَّوافق، وسوء الخلُق يُثْمِر التَّباغُض والتَّحاسُد والتَّدابُر.
وإذا كان حسن الخلق يوجب التحابَّ والتَّآلف، وعدمه يوجب التَّباغُض والتنافر - كما أشار الإمام الغزالي - فينبغي أن نشير إلى أنَّ حسن الخلق ليس من نافلة الحديث؛ لأنَّ حسن الأخلاق هو مدخل وباب الأخوَّة، فلا يمكن أن نتصوَّر أخوَّة حقيقيَّة تقوم على سوء الأخلاق، ولعلَّ البعض يقول: بلى، هناك أخوَّة بين قرناء السوء على ما بِهم من سوء الأخلاق!
وأقول: إنَّني حينما أتكلَّم عن الأخوَّة أقصد الأخوَّة الحقيقيَّة، التي تقوم على الإيمان والتَّرابُط في الله ولله، ليس من أجل منفعةٍ دنيويَّة عاجلة، أو مصلحةٍ شخصيَّة، أو عصبيَّة قبليَّة، أو غير ذلك من المادّيَّات، فما كان لله دام واتَّصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
والتَّاريخ الإسلامي خيرُ شاهدٍ على ذلك، وكلّ أخوَّة تقوم على غير ذلك فهي لا محالة محكوم عليها بالفشل والخسران، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، وصدق الله إذ يقول: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وقد مدح الله - تعالى - رسوله بأعْلى وسامٍ في الإنسانيَّة بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وبيَّن الله - تعالى - في آيةٍ أُخرى ما يؤكِّد أنَّ حسن خلقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان سببًا في التِفاف الصَّحابة حوله ومحبَّتهم له؛ قال - تعالى -: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ومن هنا حصر النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعثته في تتْميم الأخلاق فقال: ((إنَّما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق))؛ الحديث رواه أحمد والبيْهقي والحاكم، وصحَّحه من حديث أبي هريرة.
ومَن نظر فى قصص الأنبياء وجد أنَّ كلَّ نبيٍّ كان يُبعث ليدْعو إلى حسن الأخلاق، كما يتَّضح لكلّ من يتتبَّع القرآن في قصَّة لوط وهود، وصالح وشعيب، وغيرهم - عليهم الصَّلاة والسَّلام.
فإذا حسَّنَّا أخلاقَنا استطعنا أن نحقِّق الأخوَّة الإيمانية الحقيقيَّة، التي عُرِفت بين المهاجرين والأنصار، والَّتي ما عرف التَّاريخ مثلَها، والَّتي جعلت الأخَ يتنازَلُ عن أغْلى ما يملك، لا أقول: مالاً، وإنَّما يعرض أن يتنازلَ عن إحدى زوجاتِه لأخيه من المهاجرين، هذه الأخوَّة غابت عنَّا في هذا الزَّمان، إلاَّ مَن رحم الله.
ورحِم الله القائلَ:
أَخُوكَ الَّذِي يَحْمِيكَ فِي الغَيْبِ جَاهِدًا وَيَسْتُرُ مَا تَأْتِي مِنَ السُّوءِ وَالقُبْحِ وَيَنْشُرُ مَا يُرْضِيكَ فِي النَّاسِ مُعْلِنًا وَيُغْضِي وَلا يَأْلُو مِنَ البِرِّ وَالنُّصْحِ |
ويبقى الأمر الثاني، وهو رباط العقيدة، وهو أمتن رباط للأخوَّة، هذا الرّباط الإيماني متمِّثلاً في العقيدة أقْوى من رباط النَّسب، وهذا الَّذي جعل مصعبَ بن عمير يقدِّم أخاه في العقيدة على أخيه في النَّسَب، ولنسمعْ إلى هذا الموقف بأذن واعية.
ففي غزْوة بدرٍ أمَرَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين أقبل بالأسارى وفرَّقهم بين أصحابِه، وقال: ((استوْصوا بهم خيرًا))، فكان من بين الأسرى أبو عزيز بن عُمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمِّه قال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مُصعب بن عمير، ورجلٌ من الأنصار يأسرُني، فقال: "اشدد يديْك به؛ فإنَّ أمَّه ذات متاع لعلَّها تفديه منك"، ولمَّا قال أخوه مصعب هذا التفت إليه أخوه أبو عزيز قائلا: يا أخي، هذه وصاتك بي! فقال له مصعب: "إنَّه أخي دونك"[1].
ولنستعرضْ معًا بعض الآيات والأحاديث الدَّالَّة على فضل التَّآلُف والأخوَّة؛ لعلَّنا نُحْيي موات قلوبِنا، ونعضُّ بالنَّواجذ على الإخاء في الله، والحبّ في الله، والبغض في الله.
قال - تعالى - ممْتَنًّا على رسوله بتأليف قلوب عبادِه المؤمنين: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62، 63].
يقول صاحب "الظلال" معلِّقًا على هذه الآية: "حسبك الله، فهو كافيك، وهو الَّذي أيَّدك بنصْرِه أوَّل مرَّة، وأيَّدك بالمؤمنين الَّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجعل منهم قوَّة موحَّدة، بعد أن كانت قلوبهم شتَّى، وعداواتُهم جاهرة وبأسهم بينهم شديدًا، سواء كان المقصود هم الأوْس والخزرج - وهم الأنصار - فقد كان بينهم في الجاهلية من الثَّارات والدِّماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتِئام، فضلاً عن هذا الإخاء الَّذي لم تَعرف له الأرض نظيرًا ولا شبيهًا، أو كان المقصود هم المهاجرين، وهم كانوا كالأنصار في الجاهليَّة، أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعًا! ولقد وقعت المعجِزة الَّتي لا يقدر عليها إلاَّ الله، والَّتي لا تصنعها إلاَّ هذه العقيدة، فاستحالت هذه القلوب النَّافرة، وهذه الطِّباع الشَّموس، إلى هذه الكُتْلة المتراصَّة المتآخية الذَّلول بعضها لبعض، المحبّ بعضها لبعض، المتآلِف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الَّذي لم يعرفه التاريخ، كما تشهد الأمَّة التي بناها على الحبّ أنَّها لم تكن مجرَّد كلمات مجنَّحة، ولا مجرَّد أعمال مثاليَّة فردية، إنَّما كانت واقعًا شامخًا قام على هذا الأساس الثَّابت، بإذن الله، الَّذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه".اهـ.
أقول: ومن عجيب أمْر هذه الآية أن نَجِد أنَّ الله - تعالى - بدأ في الآية ممتنًّا على رسوله بالنَّصر ونظم معه التَّأليف والتَّرابُط بين المؤمنين، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، ولعلَّ في هذا إشارة إلى أنَّ من أهمِّ خطوات النَّصر بعد توفيق الله - تعالى - التَّآلفَ والأخوَّة والتَّرابط بين المؤمنين، فإذا ما فقدت فلن يكون هناك نصر؛ إذ كيف يتصور نصرٌ بين أناس لا رابط بينهم مفرَّقين، ويؤكِّد هذا قوله - تعالى - واصفًا حال اليهود: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14].
ومن الآيات الدَّالَّة على فضْل الأخوَّة وأنَّها سبب لتماسُك المجتمعات: قولُه - جلَّ وعلا -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
يقول صاحب "الظلال" معلِّقًا على هذه الآية بقوله: "فهي أخوَّة إذن تنبثق من التَّقوى والإسلام، من الركيزة الأولى، أساسها الاعتِصام بحبل الله – أي: عهْده ونهجه ودينه - وليست مجرَّد تجمُّع على أيّ تصوُّر آخر، ولا على أيِّ هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخَر من حبال الجاهليَّة الكثيرة؛ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}، هذه الأخوَّة المعتصمة بحبل الله نعمةٌ يمتنُّ الله بها على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهَبها الله لِمَن يحبُّهم من عباده دائمًا، وهو هنا يذكرهم هذه النّعمة، يذكرهم كيف كانوا في الجاهليَّة "أعداء"... وما كان أعْدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد، وهُما الحيَّان العربيَّان في يثرب، يُجاوِرُهما اليهود الَّذين كانوا يُوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارِها؛ حتَّى تأكل روابط الحيَّين جميعًا، ومِن ثمَّ تجد يهود مجالَها الصَّالح الذي لا تعمل إلاَّ فيه، ولا تعيش إلاَّ معه، فألَّف الله بين قلوب الحيَّين من العرب بالإسلام.... وما كان إلاَّ الإسلام وحْده يَجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلاَّ حبل الله الَّذي يعتصم به الجميع فيُصْبِحون بنعمة الله إخوانًا.
وما يمكن أن يجمع القلوب إلاَّ أخوَّة في الله، تصغر إلى جانبِها الأحقاد التَّاريخيَّة، والثَّارات القبليَّة، والأطْماع الشَّخصيَّة والرَّايات العنصريَّة، ويتجمَّع الصَّفّ تحت لواء الله الكبير المتعال.
وقد ذكر المفسِّرون في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في شأن الأوْس والخزرج، وذلك أنَّ رجُلا من اليهود مرَّ بملأ من الأوْس والخزرج، فساءَه ما هم عليه من الاتِّفاق والألفة، فبعث رجُلا معه، وأمره أن يَجلس بينهم، ويذكر لهم ما كان من حروبِهم يوم "بعاث" وتلك الحروب، ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتَّى حَميت نفوس القوم، وغضب بعضُهم على بعض، وتثاوَروا، ونادَوا بشعارِهِم، وطلبوا أسلحتَهم وتوعدوا إلى "الحرة" ... فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأتاهم، فجعل يسكِّنُهم، ويقول: ((أبِدعوى الجاهليَّة وأنا بين أظهركم))، وتلا عليهم هذه الآية، فندِموا على ما كان منهم، واصْطلحوا وتعانقوا وألْقوا السِّلاح، رضي الله عنهم".
ومن الآيات التي أكَّدت على ضرورة رباط الأخوَّة بين المؤمنين: قوله - تعالى- حتَّى في حالة نشوب خلافات بيْنهم وضرورة الإصْلاح حتَّى يلتحم الصَّفّ، قال - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
يقول صاحب "التحرير والتنوير" في تفسيره: "وجيء بصيغة القصْر المفيدة لحصْر حالهم في حال الإخوة؛ مبالغةً في تقرير هذا الحكم بين المسلمين، فهو قصر ادعائي، أو هو قصر إضافي للرَّدّ على أصحاب الحالة المفْروضة، الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين، وأخبر عنهم بأنَّهم إخوة مجازًا على وجْه التَّشبيه البليغ؛ زيادة لتقرير معنى الأخوَّة بينهم، حتَّى لا يحق أن يقرن بحرف التَّشبيه المشْعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخوة".
وهذه الآية فيها دلالة قويَّة على تقرّر وجوب الأخوَّة بين المسلمين؛ لأنَّ شأن (إنَّما) أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحَّته، أو لما ينزل منزلة ذلك، كما قال الشيخ عبدالقاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" في الفصل الثَّاني عشر، وساق عليه شواهد كثيرةً من القرآن وكلام العرب؛ فلذلك كان قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} مفيد أنَّ معنى الأخوَّة بينهم معلوم مقرَّر، وقد تقرَّر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلامِ رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذلك قولُه تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وهي سابقةٌ في النزول على هذه السورة؛ فإنَّها معدودة الثَّانية والمائة، وسورة الحجرات معدودة الثَّامنة والمائة من السور.
وآخى النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المهاجرين والأنصار حين ورودِه المدينة، وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين، وفي الحديث: ((لو كنتُ متَّخذًا خليلاً غير ربِّي لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوَّة الإسلام أفضل)).
وفي باب تزويج الصّغار من الكبار من "صحيح البخاري" أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطب عائشةَ من أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنَّما أنا أخوك، فقال: ((أنت أخي في دينِ الله وكتابِه وهي لي حلال)).
وفي حديثه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلِم أخو المسلم، لا يظلِمه ولا يخْذله ولا يَحقره، بَحسب امرئ من الشَّرّ أن يَحقِر أخاه المسلم))؛ رواه مسلم.
وفي الحديث: ((لا يؤمن أحدُكم حتَّى يحبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسِه))؛ أي: يحب للمسلم ما يُحب لنفسه.
فأشارت جملة {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} إلى وجه وجوب الإصْلاح بين الطَّائفتَين المتباغيتَين منهم، ببيان أنَّ الإيمان قد عقد بين أهلِه من النَّسب الموحي ما لا ينقص عن نسب الأخوَّة الجسديَّة، على نحو قول عمر بن الخطَّاب للمرأة الَّتي شكتْ إليْه حاجة أولادِها، وقالت: أنا بنت خفاف بن أيماء، وقد شهِد أبِي مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الحُدَيْبية، فقال عمر: "مرحبًا بنسَبٍ قريب".
ثمَّ يقول صاحب تفسير "التحرير والتنوير": "ولمَّا كان المتعارَف بين النَّاس أنَّه إذا نشبت مشاقَّة بين الأخويْن لزم بقيَّة الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتِها، مشيًا بالصُّلح بينهما، فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شِقاق بين طائفتَين منهم، أن ينهض سائرهم بالسَّعي بالصُّلح بينهما وبثّ السُّفراء إلى أن يرقعوا ما وهى ويرفعوا ما أصاب ودهى.
وتفْريع الأمر بالإصلاح بين الأخوَين على تحقيق كون المؤمنين إخوةً تأكيدٌ لما دلَّت عليه (إنَّما) من التَّعليل، فصار الأمر بالإصْلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ} قد أردف بالتَّعليل فحصل تقريرُه، ثم عقب بالتَّفريع فزاده تقريرًا.
وقد حصل من هذا النَّظم ما يشبه الدَّعوى، وهي كمطلوب القياس، ثمَّ ما يشبه الاستِدلال بالقياس ثمَّ ما يشبه النتيجة.
ولمَّا تقرَّر معنى الأخوَّة بين المؤمنين كمال التقرُّر، عدل عن أن يقول: فأصلحوا بين الطَّائفتَين إلى قوله: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فهو وصف جديد نشأ عن قوله: {إنَّما المؤْمِنُونَ إخْوَة} فتعيَّن إطلاقه على الطَّائفتَين، فليس هذا من وضْع الظَّاهر موضع الضَّمير، فتأمَّل.
وأُوثرت صيغة التَّثنية في قوله: (أخويكم) مراعاة لكون الكلام جاريًا على طائفتين من المؤمِنِين فجعلت كلّ طائفة كالأخ للأخرى.
وقرأ الجمهور: (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) بلفظ تثنية الأخ على تشْبيه كل طائفة بأخ.
وقرأ يعقوب: (فأصْلِحُوا بين إِخْوَتِكُمْ) بتاء فوقيَّة بعد الواو؛ على أنَّه جمع أخ، باعتبار كلّ فرد من الطائفتين كالأخ".
وقال صاحب "الظلال": "وممَّا يترتَّب على هذه الأخوَّة أن يكون الحبّ والسَّلام والتَّعاون والوحدة هي الأصْل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القِتال هو الاستثناء الَّذي يجب أن يردَّ إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقْريره قتال المؤمنين الآخرين للبُغاة من إخوانهم ليردُّوهم إلى الصَّفّ، وليُزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة".
وإذا كان ما سبق بعض الآيات الَّتي تحثُّ على التَّآخي وضرورة التَّرابط بين الصَّفّ المسلم، وقوام الأخوة الحبّ في الله، فإلى بعض الأحاديث والآثار التي تحثُّ على ذلك:
فمن الأحاديث الدَّالَّة على فضل الأخوَّة في الله والحب لله:
ما رواه مسلم عن أبِي هريرة - رضِي الله عنه - عنِ النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ رجلا زار أخًا له في الله، فأرصد الله له ملَكًا، فقال: أين تُريد؟ قال: أُريد أن أَزور أخِي فلانًا، فقال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا، قال: لقرابةٍ بيْنك وبينه؟ قال: لا، قال: فبِنعمة له عندك؟ قال: لا، قال: فبم؟ قال: أحبُّه في الله، قال: فإنَّ الله أرسلني إليْك يُخبرك بأنَّه يحبُّك لحبِّك إيَّاه، وقد أوجب لك الجنَّة.
وعن أنس بن مالك أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليْه ممَّا سواهما، وأن يكره الرَّجُل أن يعود إلى الكفْر كما يكره أن يقذف في النَّار، وأن يحبَّ العبد لا يحبُّ إلاَّ لله - أو قال: في الله)).
ورحِم الله مَن قال:
اسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الإِخْوَانِ إِنَّهُمُ خَيْرٌ لِكَانِزِهِمْ كَنْزًا مِنَ الذَّهَبِ كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَوْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ وَجَدْتَهُ لَكَ خَيْرًا مِنْ أَخِي النَّسَبِ |
وقال الشاعر:
عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الثِّقَاتِ فَإِنَّهُمْ قَلِيلٌ فَصِلْهُمْ دُونَ مَنْ كُنْتَ تَصْحَبُ وَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا وَصُنْهَا فَإِنَّهَا مَتَى مَا تُجَالِسْ سِفْلَةَ النَّاسِ تَغْضَبُ |
عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ أفضل الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله)).
وعنِ ابن عمر قال: "لقد رأيتُنا وما الرَّجل المسلم بأحقَّ بديناره ودرهمِه من أخيه المسلم".
قال رجل لداود الطَّائي: أوْصِني، قال: "اصحب أهل التقْوى؛ فإنَّهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة وأكثرهم لك معونة".
وعن أبي عمْرٍو العوفي قال: كان يقال: "اصحب من إن صحِبْتَه زانك، وإن خدمتَه صانك، وإن أصابتْك خصاصة مَانَك، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن رأى منك سقطةً سدَّها، وإن قلت صدَّق قولك، وإن صُلْت سدَّد صولك".
وزاد غيره: "ولا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليْك منه الطَّرائق، ومَن إن سألتَه أعطاك، وإن سكتَّ ابتدأك، وإن نازعتَه يَذِلّ لك".
وقال عبدالله بن الحسن: "أربع من سعادة المرْء: أن تكون زوجتُه صالحة، وأن يكون ولده أبرارًا، وأن تكون معيشتُه في بلده، وإخوانه صالحين".
وقال الحسن: "المؤمن مرآة أخيه، إن رأى فيه ما لا يعجبه سدَّده وقوَّمه، وحاطه وحفِظه في السّرّ والعلانية، إنَّ لك من خليلِك نصيبًا، وإنَّ لك نصيبًا من ذكر مَن أحببت، فثِقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس".
وأختم هذا المبحث بما قاله د. البوطي في كتابه "فقه السيرة" مبيِّنًا أهمّيَّة الأخوَّة بقوله:
"أوَّلاً: إنَّ أيَّ دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلاَّ على أساس من وحْدة الأمة وتسانُدها، ولا يمكن لكلّ من الوحدة والتسانُد أن يتمَّ بغير عامل التَّآخي والمحبَّة المتبادلة، فكلّ جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودَّة والتآخي الحقيقيَّة لا يُمكن أن تتَّحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتّحاد حقيقة قائمة في الأمَّة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألَّف منها دولة.
على أنَّ التَّآخي أيضًا لا بدَّ أن يكون مسبوقًا بعقيدة يتمّ اللقاء عليها والإيمان بها.
ومن أجل ذلك؛ فقد جعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أساس الأخوَّة التي جمع عليها أفئدة أصحابه: العقيدة الإسلاميَّة التي جاءهم بها من عند الله تعالى، والَّتي تضع النَّاس كلهم في مصافّ العبودية الخالصة لله تعالى، دون الاعتبار لأيّ فارق إلاَّ فارق التقوى والعمل الصَّالح؛ إذ ليس من المتوقَّع أن يسود الإخاء والتَّعاون والإيثار بين أناس شتَّتتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكًا لأنانيَّته وأثرته وأهوائه.
ثانيًا: إنَّ المجتمع - أيّ مجتمع - إنَّما يختلف عن مجموعةٍ ما من النَّاس منتثرة مفكَّكة، بشيء واحد، هو قيام مبدأ التَّناصُر والتَّعاون فيما بين أشخاص هذا المجتمع، وفي كلّ نواحي الحياة ومقوّماتها، فإن كان هذا التَّعاون والتَّناصُر قائمًا، طبق نظام العدل والمساواة فيما بينهم، فذلِك هو المجتمع العادل السَّليم، وإن كان ذلك قائمًا على الحيف والظلم، فذلك هو المجتمع الظَّالم المنحرف، وإذا كان المجتمع السليم إنَّما يقوم على أساس من العدالة في الاستِفادة من أسباب الحياة والرِّزْق، فما الَّذي يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟
إنَّ الضَّمانة الطبيعيَّة والفطريَّة الأولى لذلك، إنَّما هي التَّآخي والتَّواد.
ثالثًا: المعنى التفسيري الذي صاحب شعار التآخي:
لَم يكن ما أقامه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين أصحابه من مبدأ التَّآخي مجرَّد شعار في كلِمة أجراها على ألسِنَتهم، وإنَّما كان حقيقة عمليَّة تتَّصل بواقع الحياة وبكلّ أوجُه العلاقات القائمة بين المهاجرين والأنصار؛ ولذلك جعل النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذه الأخوَّة مسؤوليَّة حقيقيَّة تشيع بين هؤلاء الإخوة، وكانت هذه المسؤوليَّة تؤدَّى فيما بينهم على خير وجه، وحسبُنا دليلاً على ذلك ما قام به سعد بن الرَّبيع الذي كان قد آخى الرَّسول بيْنه وبين عبدالرَّحمن بن عوف، إذ عرض على عبدالرحمن بن عوف أن يشركه في بيْتِه وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكنَّ عبدالرَّحمن بن عوف شكرَه وطلب منه أن يُرْشِده إلى سوق المدينة ليشتغِل فيها، وَلَم يكُن سعد بن الربيع منفردًا عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظنّ، بل كان هذا شأْن عامَّة الصَّحابة في علاقتهم وتعاوُنِهم مع بعض، خصوصًا بعد الهجرة، وبعد أن آخى النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما بينهم.
ولذلك أيضًا جعل الله - سبحانه وتعالى - حقَّ الميراث منوطًا بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرَّحِم، فقد كان من حكمة هذا التَّشريع أن تتجلَّى الأخوَّة الإسلاميَّة حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين، وأن يعلموا أنَّ ما بين المسلمين من التَّآخي والتَّحابّ ليس شعارًا وكلامًا مجرَّدين، وإنَّما هي حقيقة قائمة ذات نتائج اجتِماعيَّة محسوسة، تكون أهمَّ أسس نظام العدالة الاجتِماعيَّة.
أمَّا حكمة نسخ التَّوارث على أساس هذه الأخوَّة فيما بعد، فهي أنَّ نظام الميراث الَّذي استقرَّ أخيرًا، إنَّما هو نفسه قائم على أخوَّة الإسلام بين المتوارثين؛ إذ لا توارُث بين دينَين مختلفين، إلاَّ في الفترة الأولى من الهجرة وضعت كلّ من الأنصار والمهاجرين أمام مسؤولية خاصَّة من التعاون والتناصُر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلِهم وترْكهم ديارهم وأموالهم في مكَّة، ونزولهم ضيوفًا على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان ما أقامه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسؤوليَّة، ولقد كان من مقْتضى هذه المسؤوليَّة أن يكون التَّآخي أقوى في حقيقتِه وأثره من أخوَّة الرحِم المجرَّدة.
ثمَّ إنَّ هذا التَّآخي الذي عقده رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقًا بمؤاخاة أُخرى أقامها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين المهاجرين في مكَّة، قال ابن عبدالبر: "كانت المؤاخاة مرَّتين: مرَّة بين المهاجرين خاصَّة، وذلك بمكَّة، ومرَّة بين المهاجرين والأنصار".
وهذا ما يؤكِّد لنا أنَّ مناط الأخوَّة وأساسها إنَّما هو رابطة الإسلام، غير أنَّها احتاجت إلى تجديد وتأكيد بعد الهجرة؛ بسبب ظروفها وبسبَب اجتِماع المهاجرين والأنصار في دار واحدة.
فهي ليست في الحقيقة شيئًا آخَر غير الأخوَّة القائمة على أساس جامعة الإسلام ووحْدة العقيدة، وإنَّما هي تأْكيد لها عن طريق التَّطبيق.
المبحث الثَّاني: ثمرة المحبَّة في الله.
إذا ما حقَّقنا الأخوَّة والمحبَّة في الله ولله، والَّتي لا تقوم على تبادُل المنافع المادّيَّة أو المصالح الشَّخصيَّة، كما قال أحد السَّلف: علامة الحبّ في الله ألاَّ يزيد بالبِرِّ ولا ينقص بالجفاء، إذا ما حقَّقْنا ذلك نلنا هذه الثّمار الجنيَّة.
أوَّلها: أنَّ المتحابين في الله يكونون في ظلّ عرش الله في وقت تدْنو الشَّمس من الرُّؤوس، ويَسيح الناس في عرقهم؛ ففي الحديث عن أبِي هُريرة عن النَّبيّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه))، وذكر من بينها: ((ورجُلَين تحابَّا في الله - عزَّ وجلَّ - اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه)).
وعن أبي هريرة عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يقول الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة: أين المتحابُّون في جلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلِّي)).
ثانيًا: المتحابون في الله يحبُّهم الله - تعالى - ووالله ما أجملَها من ثمرة أن يحبَّنا الله - جلَّ جلالُه - وهو الغني عن عباده!
ففي الحديث القدسي يقول - تعالى-: ((حقَّت محبَّتي للَّذين يتحابّون فيَّ، وحقَّت محبَّتي للَّذين يتباذلون فيَّ، وحقَّت محبَّتي للَّذين يتزاورون فيَّ)).
ثالثها: المتحابّون في الله في مكان يغبطهم عليه مَن هم في أفضلِ المنازل: النبيُّون والشهداء.
المتحابُّون في الله لا يَخافون إذا خاف النَّاس، ولا يفزعون حين يفزع النَّاس، ولنسمع إلى هذا الحديث النبوي الَّذي يهزُّ الوجدان.
عن معاذ بن جبل قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: المتحابّون في جلالي لهم منابرُ من نورٍ يغْبطهم النبيُّون والشهداء))؛ الحديث أخرجه التِّرْمذي في سننه وقال: حسن صحيح.
وعن ابنِ عمر - رضِي الله عنْهُما - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إنَّ لله عبادًا ليْسوا بأنبِياء ولا شهداء، يغبطُهُم الشهداء والنبيُّون يوم القيامة؛ لقربهم من الله تعالى ومجلسهم منْه))، فجثا أعرابيٌّ على ركبتَيه فقال: يا رسول الله، صفْهم لنا وجلّهم لنا، قال: ((قوم من أقناء النَّاس من نزَّاع القبائل، تصادقوا في الله وتحابّوا فيه، يضَع الله - عزَّ وجلَّ - لهم يوْم القيامة منابرَ من نورٍ، يَخاف النَّاسُ ولا يخافون، هم أولياء الله - عزَّ وجلَّ - الَّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون))؛ الحديث أخرجه الحاكِم في "المستدرك" وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
فهل لنا أن نقرأ الحديث مرَّة أخرى ثمَّ نتأمَّل هذا الفضْل والمنزلة، الَّتي وهبها الله للمتحابِّين في الله؟! ألا يَجدر بنا أن نسعى لتحْقيق الأخوَّة بيننا القائمة على التحابّ والتآلُف في الله؛ لنحْظى بهذا الفضْل؟! جعلنا الله من المتحابّين في الله.
وحديث أبِي هريرة - رضي الله عنه -: ((إنَّ حول العرش منابرَ من نور، عليها قوم لباسُهم نور ووجوههم نور، ليْسوا بأنبِياء ولا شهداء، يغبطهم النبيُّون والشُّهداء)) فقالوا: يا رسول الله، صفْهم لنا، فقال: ((هم المتحابّون في الله، والمتجالِسون في الله، والمتزاوِرون في الله)).
قال العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء: أخرجه النَّسائي في سننِه الكبرى، ورجاله ثقات.
رابعها: أنَّ المحبَّة في الله - تعالى - تصِل بالإنسان لدرجةٍ لا يصِل إليْها بعمله، فلو أنَّ إنسانًا أحبَّ مَن هو فوقه في الدِّين والمنزلة يُحشر يوم القيامة معه، ولنسمعْ لحديث النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم:
عن أنس بن مالك أنَّ أعرابيًّا قال لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: متى الساعة؟ قال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أعددتَ لها؟)) قال: حبّ الله ورسوله، قال: ((أنتَ معَ مَن أحببت))؛ الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وعن أنس بن مالك قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، متى السَّاعة؟ قال: ((وما أعددت للسَّاعة؟)) قال: حبّ الله ورسوله، قال: ((فإنَّك مع مَن أحببتَ))، قال أنس: فما فرِحْنا بعد الإسلام فرحًا أشدَّ مِن قول النَّبيّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((فإنَّك مع مَن أحببت)).
قال أنس: فأنا أحبُّ الله ورسولَه، وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالِهم.
فحريّ بنا أن نقول ما قاله أنسٌ: فإنِّي أحبّ الله ورسوله، وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بعملهم، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
خامسها: أنَّ المحبَّة في الله تكون سببًا في تحاتّ الذنوب والخطايا؛ فعن مجاهد قال: "إذا التقى المتحابَّان فبشَّ بعضُهم إلى بعض، تحاتَّت عنهم الخطايا كما يتحاتُّ ورق الشَّجر في الشتاء إذا يبس".
فالحبُّ في الله - تعالى - وتحقيق مبدأ الأخوَّة من أهمِّ ما ينبغي أن يحرِص عليه كلُّ مسلم غيور على دينه، حتى يسود التَّرابط بين المسلمين، وحتَّى يكتب لهم النَّصر على عدوِّهم.
على أنَّ الأخوَّة لها حقوقٌ وآداب ينبغي مراعاتُها، وسأردها - إن شاء الله - في بحث منفرد إن يسَّر الله تعالى.
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} [هود: 88]، فإن وفّقت فمِن الله - تعالى - وإن كانت الأخرى فمِن نفسي، وأستغفر الله.
اللهُمَّ ارزقْنا الإخلاص في أقوالِنا وأفعالِنا، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] راجع: البداية والنهاية لابن كثير، 3/ 306 - 307، بتصرّف يسير.
محمد الرفاعى
مآآآآآآجده
مآآآآآآجده