الحمد لله العليم الخبير؛ يصطفي من عباده مَن يشاء فيجعلهم أنصارًا لدينه، دعاةً لشريعته، حُرَّاسًا لمقدَّساته، حُمَاة للحق من تسلُّط أهل الباطل؛ ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [الحج: 75]، نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فليس أحدٌ أحقَّ بالشكر منه؛ خلقنا ورعانا، وهدانا واجتبانا، ومن كلِّ خيرٍ أعطانا، فله الحمد لا نحصِي ثناءً عليه كما أثنى هو على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ شرَّفه الله - تعالى - بالرسالة، وعرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العُلاَ، فبلَغ مقامًا عليًّا لم يبلغه أحدٌ قبله، ولا يبلغه أحدٌ بعده، وكلَّمه ربه - سبحانه - بلا واسطة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وأسلموا له وجوهكم، وأقيموا له دينكم، وانتصروا للحق وأهله؛ فإن الباطل مهما ظهر أمره، وعلا أهله، وكثر أزلامه، وغرَّ الناسَ بزخرفه، فإنه مدموغٌ بالحق، وإن كان أتباع الحق ضعفاء؛ ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18].
أيها الناس:
لا تهون مقدَّسات أمَّة عليها إلا حين يهون دينها في قلوب أفرادها، وإذا هان دينهم في نفوسهم تسلَّط أعداؤهم عليهم فأذلُّوهم وأهانوهم، ولم يحفظوا لهم حقًّا، ولم يفوا لهم بعهد، والأمَّة المسلِمة في زمننا هذا تمرُّ بمرحلة عَسِرة جدًّا؛ إذ انتَفَش فيه صهاينة اليهود وصهاينة النصارى، وأعانهم المنافقون على ظلمهم، مع تفريطِ كثيرٍ من المسلمين في دينهم، وعدم مبالاتهم بحقوق أمَّتهم ومقدَّساتها، وكثر حديث الناس في هذه الأيام عن عزم اليهود على هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل الثالث؛ لإقامة مملكة داود الكبرى.
والمسجد الأقصى له مكانة عظيمة في قلوب المسلمين؛ إذ بارَك الله - تعالى - أرضه وما جاوَرَها، وهو أوَّل مسجد بُني لله - تعالى - في الأرض بعد المسجد الحرام، وشُرِع شدُّ الرحال إليه للعبادة فيه والمجاوَرَة في أرضه، والصلاةُ فيه مضاعَفة على الصلاة في غيره إلا الحرَمَين المكي والمدني، كما أن الصلاة فيه سببٌ لتكفير الذنوب، ومَلاحِم آخر الزمان تكون على أرضه، ويَؤُوب إليه أهل الإيمان، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: وقد دلَّ الكتاب والسنة وما رُوِي عن الأنبياء المتقدِّمين - عليهم السلام - مع ما عُلِم بالحس والعقل وكشوفات العارِفين - أن الخلق والأمر ابتدأا من مكة أم القرى فهي أم الخلق، وفيها ابتُدِئت الرسالة المحمَّدية التي طبق نورها الأرض... ودلَّت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوَّة بالشام والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشَر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأوَّل الأمَّة خيرٌ من آخرها، وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام كما أُسرِي بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فخِيار أهل الأرض في آخِر الزمان ألزَمُهم مهاجر إبراهيم - عليه السلام - وهو بالشام... ا.هـ.
أيها الإخوة:
لو حقَّق اليهود مرادهم بهدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم - وهم عازِمون على ذلك لا يتراجعون عنه إلا مِن عَجْزٍ - فإن هذه الكارِثَة ستكون عارًا على المسلمين كلهم لا يمحوه التاريخ، ولا يُنسَى بتعاقُب الأزمان، كما لم يَنسَ المسلمون على مرِّ القرون تدنيس الصليبيين لبيت المقدس في القرن الخامس الهجري، ومكثهم فيه زُهاء تسعين سنة، إلى أن حرَّره الله منهم على يد صلاح الدين وجنده، ولم يتمَّ تحرير الأقصى من بَراثِن الصليبيين إلا بعد أن أُعِيد بناء الأمَّة المسلمة من جديد، ورُبِّي أفرادها على العزَّة والأنَفَة وإقامة العدل وإحقاق الحق في الدولتين العِمَادية والنُّورِية، ثم تُوِّج ذلك بالفتح المبين في الدولة الصلاحية.
إن لليهود معتقدات دينية في أرض القدس المباركة، لا يتمُّ لهم تحقيقها إلا بإفراغ الأرض من أهلها بالقتل والتهجير القسريِّ، وملئِها بعصابات اليهود عن طريق الاستيطان؛ لتغيير التركيبة السكَّانية، ثم بناء (أورشليم) اليهودية بإزاء القدس الإسلامية، مع الانتقاص المستمرِّ لتراث المسلمين، والانقضاض المتتابِع على مساجدهم ومنازلهم لضمِّها إلى أورشليم، والتوسُّع شيئًا فشيئًا لابتلاع القدس كلها.
ولا زال المقدسيون المسلمون يُقاوِمون العدوان المستمرَّ على تراث المسلمين، ويحرسون القدس المباركة بجدارة منقطِعَة النظير، ولكن الأمر ليس مَنُوطًا بهم وحدهم، ومسؤولية حماية الأرض المباركة واجبةٌ على كلِّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وكان من حِيَل اليهود والنصارى أنهم خلال العقود الماضية، وعبر الضخِّ الإعلامي المتكرِّر، والمراوَغَات السياسية المتعدِّدة استطاعوا تحويل قضيَّة احتلال بيت المقدس من كونها قضيَّة إسلامية عالمية إلى حصرها في العنصر العربي؛ لئلاَّ تأخذ بُعْدًا دينيًّا، ولتحييد مليار مسلم من غير العرب عنها، ثم حوَّلوها إلى قضيَّة إقليميَّة شرق أوسطية تهمُّ دول الطوق المحيطة بالأرض المحتلَّة، وتَمَّ إخراج سائر الدول العربية منها، ثم طُوِّعت دول الطوق بالترغيب والترهيب لخدمة الأهداف الصهيونية الاستعمارية، وتَمَّ تضييق هذه القضية التي تهمُّ كلَّ مسلم لتصبح شأنًا فلسطينيًّا داخليًّا، يكون تعامُل اليهود فيه مع الفلسطينيين مباشَرَة، ولا علاقة لدول الطوق به إلا فيما يخدم المصالح الصهيونية؛ كتركيع المقاومة، وحصار المقاوِمين، وتجويع أهل الأرض المباركة، وقتلهم صبرًا، وحشرهم بالجُدُر العازِلَة فوق الأرض، والفولاذية تحت الأرض.
إن اليهود وحلفاءهم استطاعوا أن يُفتِّتوا الأمَّة المسلمة، ويفرِّقوها بعد اجتماعها، ويحيِّدوها عن قضاياها، ومن ثَمَّ استباحوا مقدَّساتها، وهم عازِمون على تنفيذ مشروعاتهم الدينية، ولو اقتضى ذلك إبادة أهل الأرض المبارَكة جميعًا، وإن على الأمَّة المسلِمة واجبًا عظيمًا تجاه الأرض المبارَكة، في حمايتها، والدفاع عنها، ونُصرة المرابِطين في أكنافها.
ولقد كان جهاد المقدسيين ومَن حولهم خلال العقود الماضية أكبر عقبة عرقلت المشروعات الصهيونية، وأرجأت تحقيق أهدافهم الاستعمارية الدينية.
والواجب على أهل الأرض المبارَكة أن يستمرُّوا في جهادهم للحيلولة دون هدم المسجد الأقصى، كما يجب على إخوانهم من ورائهم أن يمدُّوهم بكلِّ ما يستطيعون من أنواع المعونة والتأييد والتثبيت:
فالعلماء والدُّعَاة يجب عليهم بيان حقيقة اليهود ومَن يقف وراءهم، وحكم مَن يُعِينهم على ظلمهم، ويسوِّغ لهم إجرامهم من المنافقين والمتلوِّنين، وأصحاب المصالح الخاصَّة الذين يجلِدون المؤمنين، وينتصِرون للظالمين.
كما يجب على أهل الأقلام الراشدة أن يجاهدوا بأقلامهم، وأن يقفوا في سبيل أقلام التزييف والتزوير التي تروِّج للخطط الاستعمارية تحت دعاوى التنوير والحدَاثَة والإصلاح ونشر الديمقراطية، وأن يفضحوا المخطَّطات الصهيونية والصليبية في المنطقة؛ فإن أقلام المنافقين تعمل على خداع الناس بتزوير الحقائق، وتحسين صورة الأعداء، وتشويه سمعة الإخوة المرابطين في أكناف بيت المقدس.
وواجبٌ على جمهور المسلمين إحياء قضيَّة المسجد الأقصى في مجالسهم وأحاديثهم، وجعلها شأنًا أوليًّا؛ وذلك ببيان فضائله، وتاريخه المجيد، وما يُعانِيه أهله من ظلم اليهود وبطشهم، وتفعيل عقيدة الولاء للمقدسيين وعموم المسلمين، والبراءة من اليهود وسائر الكافرين، تلك العقيدة التي يجتَهِد المنافقون ومَن وافَقَهم في طَمْسِها، والقضاء عليها؛ ليسهل للأعداء السيطرة على المسلمين.
واجِبٌ على الآباء والأمهات أن يَغْرِسوا في نفوس أولادهم محبَّة القدس ومَن يدافعون عنه، وبغض مَن يعتَدُون عليه من اليهود ومَن يُعِينهم على ذلك، وكذلك يفعل المعلِّمون مع طلاَّبهم، وأئمَّة المساجد مع جماعة مساجدهم، وكبار القوم مع جلسائهم حتى تحيَا قضية الأقصى في القلوب، فيُثمِر ذلك أفعالاً ومبادرات لنصرة الأقصى والمرابِطين في أرضه.
وقبل ذلك وبعده إصلاح ما بيننا وبين الله - تعالى - بالتوبة من الذنوب، حتى يتغيَّر حال الأمة، ويتبدَّل ذلُّها إلى عزٍّ، وضعفُها إلى قوَّة، وتفرُّقها إلى اجتماع وألفة؛ وقد قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
مع كثرة الدعاء والتضرُّع بنصر المقدسيين على أعدائهم، وحفظ المسجد الأقصى من ظلم اليهود وأعوانهم.
نسأل الله - تعالى - بمنِّه وكرمه أن يحفظ المسجد الأقصى من مكر اليهود، وأن يردَّهم على أعقابهم خاسِرِين، وأن يُخرِجهم من الأرض المباركة أذلَّة صاغِرين، وأن ينصر إخواننا عليهم، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
أيُّها الناس:
يقدِّم المنافقون في كل زمان ومكان خدمات لأعداء المسلمين، ويعملون على كسر المسلمين وهزيمتهم، وكما أن العبيديين المنافقين هم مَن سهَّلوا للصليبيين احتلالَ بيت المقدس قبل ألف سنة، فإن منافقي زماننا هم مَن يُعِينون الصهاينة على إخواننا، ويسوِّغون في إعلامهم الليبرالي اعتداءات الصهاينة ومذابحهم للمسلمين، ويُوجِدون الأعذار المتكلَّفة لهم، ويَفُتُّون في عَضُدِ المسلمين، ويُطالبونهم في صحفهم وفضائيَّاتهم بالانكفاء على أوْطَانهم، وعدم الاهتمام بقضايا إخوانهم ومقدَّساتهم، وهم في واقِع الأمر طلائع الحملات الاستعمارية، وجنود مخلِصون للأعداء، مُوالون لهم بأقلامهم وأقوالهم وأفعالهم، ويُرِيدون منهم احتلال بلاد المسلمين كلها بدعوى استصلاحها، وهم يعرفون أن القُوَى الاستعمارية المستكبِرة لن تقف عند حدٍّ حتى تبتلع أرض المسلمين، كما يعلمون أن أطماع اليهود تجاوِز فلسطين المحتلَّة إلى المدينة النبوية وخيبر التي يُرِيدون أن يُعِيدوا أمجاد أجدادهم فيها مرَّة أخرى، وقد وقفت رئيسة وزرائهم جولدا مائير قبل أربعين سنة على خليج العقبة في إيلات وقالت وهي تستنشق الهواء: "إني أشمُّ رائحة أجدادي في خيبر".
وكانت تنظر إلى الأطفال الفلسطينيين على أنهم بذور شقاء الشعب الصهيوني، فتقول: "كلَّ صباح أتمنَّى أن أستيقِظ ولا أجد طفلاً فلسطينيًّا واحدًا على قيد الحياة".
وحين سقطت القدس القديمة بأيديهم، وبعد أدائهم صلاة الشكر اليهودية عند حائط البُراق، قال قائدهم موشي ديان: "اليوم فُتِح الطريق إلى بابل ويثرب، هذا يومٌ بيوم خيبر، وتعالت هُتافات النصر التي ردَّدها اليهود المنتصِرون: يا لثارات خيبر".
إن الخوَنَة في الإعلام الليبرالي يُطالِبون زُعَماء الدول الإسلامية بالتخلِّي عن قضية بيت المقدس، والانكفاء على مصالحهم الذاتية، ويُبرِزون في إعلامهم خطوات تطبيع بعض العرب مع اليهود، ويُثنون عليهم بها، ويجعلونها مثالاً يجب أن يحتذيه الجميع، ويستميتون في إماتة الشعور الإسلامي في قلوب الشعوب المسلمة تجاه القضايا المصيرية، وهذا يمثِّل انتحارًا سياسيًّا؛ لأن الاجتماع قوَّة، والتفرُّق ضعف، ولأن الأعداء إن استطاعوا اليوم تحييد المسلمين عن مآسي إخوانهم في فلسطين، استطاعوا غدًا افتراسهم دولة بعد أخرى، والقضاء عليهم شيئًا فشيئًا.
إنهم يحاوِلون بشتَّى الطرق تحويل قضية القدس من كونها قضية دينية شرعية لجعلها قضية وطنية كما فعلوا من قبل، وأكبر شيء يؤرِّقهم ويؤرِّق اليهود هو بقاء الوَهَج الديني في هذه القضية التي ثبَت فيها فشل المشاريع العلمانية القومية والوطنية، ولم ينجح إلا الشعار الديني الإسلامي الذي رَعَب اليهود، وهزَمَهم في معركة غزة السابقة.
إن إماتَة القضيَّة في قلوب المسلمين هو تمهيدٌ لهدم المسجد الأقصى، وهو ما يسعى إليه الصهاينة وأعوانهم المنافقون، وإن إحياء قضية الأقصى في قلوب المسلمين سيكون سببًا في فشل اليهود والمنافقين عن تحقيق مرادهم، فأحيوا - عبادَ الله - قضية القدس وأرضها المباركة في قلوبكم وقلوب أولادكم، وفي بيوتكم ومجالسكم؛ ليُثمِر ذلك دعمًا وتأييدًا وتثبيتًا للمرابطين في المسجد الأقصى وأكنافه، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تزال عصابةٌ من أمتي يُقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرُّهم خذلان مَن خذَلَهم، ظاهِرِين على الحقِّ إلى أن تقوم الساعة))؛ رواه أبو يعلى والطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
فانصُروهم نصَرَكم الله - تعالى - ولا تخذلوهم وتُسْلِموهم إلى أعدائكم وأعدائهم، وستُسأَلون عنهم يوم القيامة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ شرَّفه الله - تعالى - بالرسالة، وعرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العُلاَ، فبلَغ مقامًا عليًّا لم يبلغه أحدٌ قبله، ولا يبلغه أحدٌ بعده، وكلَّمه ربه - سبحانه - بلا واسطة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وأسلموا له وجوهكم، وأقيموا له دينكم، وانتصروا للحق وأهله؛ فإن الباطل مهما ظهر أمره، وعلا أهله، وكثر أزلامه، وغرَّ الناسَ بزخرفه، فإنه مدموغٌ بالحق، وإن كان أتباع الحق ضعفاء؛ ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18].
أيها الناس:
لا تهون مقدَّسات أمَّة عليها إلا حين يهون دينها في قلوب أفرادها، وإذا هان دينهم في نفوسهم تسلَّط أعداؤهم عليهم فأذلُّوهم وأهانوهم، ولم يحفظوا لهم حقًّا، ولم يفوا لهم بعهد، والأمَّة المسلِمة في زمننا هذا تمرُّ بمرحلة عَسِرة جدًّا؛ إذ انتَفَش فيه صهاينة اليهود وصهاينة النصارى، وأعانهم المنافقون على ظلمهم، مع تفريطِ كثيرٍ من المسلمين في دينهم، وعدم مبالاتهم بحقوق أمَّتهم ومقدَّساتها، وكثر حديث الناس في هذه الأيام عن عزم اليهود على هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل الثالث؛ لإقامة مملكة داود الكبرى.
والمسجد الأقصى له مكانة عظيمة في قلوب المسلمين؛ إذ بارَك الله - تعالى - أرضه وما جاوَرَها، وهو أوَّل مسجد بُني لله - تعالى - في الأرض بعد المسجد الحرام، وشُرِع شدُّ الرحال إليه للعبادة فيه والمجاوَرَة في أرضه، والصلاةُ فيه مضاعَفة على الصلاة في غيره إلا الحرَمَين المكي والمدني، كما أن الصلاة فيه سببٌ لتكفير الذنوب، ومَلاحِم آخر الزمان تكون على أرضه، ويَؤُوب إليه أهل الإيمان، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: وقد دلَّ الكتاب والسنة وما رُوِي عن الأنبياء المتقدِّمين - عليهم السلام - مع ما عُلِم بالحس والعقل وكشوفات العارِفين - أن الخلق والأمر ابتدأا من مكة أم القرى فهي أم الخلق، وفيها ابتُدِئت الرسالة المحمَّدية التي طبق نورها الأرض... ودلَّت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوَّة بالشام والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشَر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأوَّل الأمَّة خيرٌ من آخرها، وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام كما أُسرِي بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فخِيار أهل الأرض في آخِر الزمان ألزَمُهم مهاجر إبراهيم - عليه السلام - وهو بالشام... ا.هـ.
أيها الإخوة:
لو حقَّق اليهود مرادهم بهدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم - وهم عازِمون على ذلك لا يتراجعون عنه إلا مِن عَجْزٍ - فإن هذه الكارِثَة ستكون عارًا على المسلمين كلهم لا يمحوه التاريخ، ولا يُنسَى بتعاقُب الأزمان، كما لم يَنسَ المسلمون على مرِّ القرون تدنيس الصليبيين لبيت المقدس في القرن الخامس الهجري، ومكثهم فيه زُهاء تسعين سنة، إلى أن حرَّره الله منهم على يد صلاح الدين وجنده، ولم يتمَّ تحرير الأقصى من بَراثِن الصليبيين إلا بعد أن أُعِيد بناء الأمَّة المسلمة من جديد، ورُبِّي أفرادها على العزَّة والأنَفَة وإقامة العدل وإحقاق الحق في الدولتين العِمَادية والنُّورِية، ثم تُوِّج ذلك بالفتح المبين في الدولة الصلاحية.
إن لليهود معتقدات دينية في أرض القدس المباركة، لا يتمُّ لهم تحقيقها إلا بإفراغ الأرض من أهلها بالقتل والتهجير القسريِّ، وملئِها بعصابات اليهود عن طريق الاستيطان؛ لتغيير التركيبة السكَّانية، ثم بناء (أورشليم) اليهودية بإزاء القدس الإسلامية، مع الانتقاص المستمرِّ لتراث المسلمين، والانقضاض المتتابِع على مساجدهم ومنازلهم لضمِّها إلى أورشليم، والتوسُّع شيئًا فشيئًا لابتلاع القدس كلها.
ولا زال المقدسيون المسلمون يُقاوِمون العدوان المستمرَّ على تراث المسلمين، ويحرسون القدس المباركة بجدارة منقطِعَة النظير، ولكن الأمر ليس مَنُوطًا بهم وحدهم، ومسؤولية حماية الأرض المباركة واجبةٌ على كلِّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وكان من حِيَل اليهود والنصارى أنهم خلال العقود الماضية، وعبر الضخِّ الإعلامي المتكرِّر، والمراوَغَات السياسية المتعدِّدة استطاعوا تحويل قضيَّة احتلال بيت المقدس من كونها قضيَّة إسلامية عالمية إلى حصرها في العنصر العربي؛ لئلاَّ تأخذ بُعْدًا دينيًّا، ولتحييد مليار مسلم من غير العرب عنها، ثم حوَّلوها إلى قضيَّة إقليميَّة شرق أوسطية تهمُّ دول الطوق المحيطة بالأرض المحتلَّة، وتَمَّ إخراج سائر الدول العربية منها، ثم طُوِّعت دول الطوق بالترغيب والترهيب لخدمة الأهداف الصهيونية الاستعمارية، وتَمَّ تضييق هذه القضية التي تهمُّ كلَّ مسلم لتصبح شأنًا فلسطينيًّا داخليًّا، يكون تعامُل اليهود فيه مع الفلسطينيين مباشَرَة، ولا علاقة لدول الطوق به إلا فيما يخدم المصالح الصهيونية؛ كتركيع المقاومة، وحصار المقاوِمين، وتجويع أهل الأرض المباركة، وقتلهم صبرًا، وحشرهم بالجُدُر العازِلَة فوق الأرض، والفولاذية تحت الأرض.
إن اليهود وحلفاءهم استطاعوا أن يُفتِّتوا الأمَّة المسلمة، ويفرِّقوها بعد اجتماعها، ويحيِّدوها عن قضاياها، ومن ثَمَّ استباحوا مقدَّساتها، وهم عازِمون على تنفيذ مشروعاتهم الدينية، ولو اقتضى ذلك إبادة أهل الأرض المبارَكة جميعًا، وإن على الأمَّة المسلِمة واجبًا عظيمًا تجاه الأرض المبارَكة، في حمايتها، والدفاع عنها، ونُصرة المرابِطين في أكنافها.
ولقد كان جهاد المقدسيين ومَن حولهم خلال العقود الماضية أكبر عقبة عرقلت المشروعات الصهيونية، وأرجأت تحقيق أهدافهم الاستعمارية الدينية.
والواجب على أهل الأرض المبارَكة أن يستمرُّوا في جهادهم للحيلولة دون هدم المسجد الأقصى، كما يجب على إخوانهم من ورائهم أن يمدُّوهم بكلِّ ما يستطيعون من أنواع المعونة والتأييد والتثبيت:
فالعلماء والدُّعَاة يجب عليهم بيان حقيقة اليهود ومَن يقف وراءهم، وحكم مَن يُعِينهم على ظلمهم، ويسوِّغ لهم إجرامهم من المنافقين والمتلوِّنين، وأصحاب المصالح الخاصَّة الذين يجلِدون المؤمنين، وينتصِرون للظالمين.
كما يجب على أهل الأقلام الراشدة أن يجاهدوا بأقلامهم، وأن يقفوا في سبيل أقلام التزييف والتزوير التي تروِّج للخطط الاستعمارية تحت دعاوى التنوير والحدَاثَة والإصلاح ونشر الديمقراطية، وأن يفضحوا المخطَّطات الصهيونية والصليبية في المنطقة؛ فإن أقلام المنافقين تعمل على خداع الناس بتزوير الحقائق، وتحسين صورة الأعداء، وتشويه سمعة الإخوة المرابطين في أكناف بيت المقدس.
وواجبٌ على جمهور المسلمين إحياء قضيَّة المسجد الأقصى في مجالسهم وأحاديثهم، وجعلها شأنًا أوليًّا؛ وذلك ببيان فضائله، وتاريخه المجيد، وما يُعانِيه أهله من ظلم اليهود وبطشهم، وتفعيل عقيدة الولاء للمقدسيين وعموم المسلمين، والبراءة من اليهود وسائر الكافرين، تلك العقيدة التي يجتَهِد المنافقون ومَن وافَقَهم في طَمْسِها، والقضاء عليها؛ ليسهل للأعداء السيطرة على المسلمين.
واجِبٌ على الآباء والأمهات أن يَغْرِسوا في نفوس أولادهم محبَّة القدس ومَن يدافعون عنه، وبغض مَن يعتَدُون عليه من اليهود ومَن يُعِينهم على ذلك، وكذلك يفعل المعلِّمون مع طلاَّبهم، وأئمَّة المساجد مع جماعة مساجدهم، وكبار القوم مع جلسائهم حتى تحيَا قضية الأقصى في القلوب، فيُثمِر ذلك أفعالاً ومبادرات لنصرة الأقصى والمرابِطين في أرضه.
وقبل ذلك وبعده إصلاح ما بيننا وبين الله - تعالى - بالتوبة من الذنوب، حتى يتغيَّر حال الأمة، ويتبدَّل ذلُّها إلى عزٍّ، وضعفُها إلى قوَّة، وتفرُّقها إلى اجتماع وألفة؛ وقد قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
مع كثرة الدعاء والتضرُّع بنصر المقدسيين على أعدائهم، وحفظ المسجد الأقصى من ظلم اليهود وأعوانهم.
نسأل الله - تعالى - بمنِّه وكرمه أن يحفظ المسجد الأقصى من مكر اليهود، وأن يردَّهم على أعقابهم خاسِرِين، وأن يُخرِجهم من الأرض المباركة أذلَّة صاغِرين، وأن ينصر إخواننا عليهم، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
أيُّها الناس:
يقدِّم المنافقون في كل زمان ومكان خدمات لأعداء المسلمين، ويعملون على كسر المسلمين وهزيمتهم، وكما أن العبيديين المنافقين هم مَن سهَّلوا للصليبيين احتلالَ بيت المقدس قبل ألف سنة، فإن منافقي زماننا هم مَن يُعِينون الصهاينة على إخواننا، ويسوِّغون في إعلامهم الليبرالي اعتداءات الصهاينة ومذابحهم للمسلمين، ويُوجِدون الأعذار المتكلَّفة لهم، ويَفُتُّون في عَضُدِ المسلمين، ويُطالبونهم في صحفهم وفضائيَّاتهم بالانكفاء على أوْطَانهم، وعدم الاهتمام بقضايا إخوانهم ومقدَّساتهم، وهم في واقِع الأمر طلائع الحملات الاستعمارية، وجنود مخلِصون للأعداء، مُوالون لهم بأقلامهم وأقوالهم وأفعالهم، ويُرِيدون منهم احتلال بلاد المسلمين كلها بدعوى استصلاحها، وهم يعرفون أن القُوَى الاستعمارية المستكبِرة لن تقف عند حدٍّ حتى تبتلع أرض المسلمين، كما يعلمون أن أطماع اليهود تجاوِز فلسطين المحتلَّة إلى المدينة النبوية وخيبر التي يُرِيدون أن يُعِيدوا أمجاد أجدادهم فيها مرَّة أخرى، وقد وقفت رئيسة وزرائهم جولدا مائير قبل أربعين سنة على خليج العقبة في إيلات وقالت وهي تستنشق الهواء: "إني أشمُّ رائحة أجدادي في خيبر".
وكانت تنظر إلى الأطفال الفلسطينيين على أنهم بذور شقاء الشعب الصهيوني، فتقول: "كلَّ صباح أتمنَّى أن أستيقِظ ولا أجد طفلاً فلسطينيًّا واحدًا على قيد الحياة".
وحين سقطت القدس القديمة بأيديهم، وبعد أدائهم صلاة الشكر اليهودية عند حائط البُراق، قال قائدهم موشي ديان: "اليوم فُتِح الطريق إلى بابل ويثرب، هذا يومٌ بيوم خيبر، وتعالت هُتافات النصر التي ردَّدها اليهود المنتصِرون: يا لثارات خيبر".
إن الخوَنَة في الإعلام الليبرالي يُطالِبون زُعَماء الدول الإسلامية بالتخلِّي عن قضية بيت المقدس، والانكفاء على مصالحهم الذاتية، ويُبرِزون في إعلامهم خطوات تطبيع بعض العرب مع اليهود، ويُثنون عليهم بها، ويجعلونها مثالاً يجب أن يحتذيه الجميع، ويستميتون في إماتة الشعور الإسلامي في قلوب الشعوب المسلمة تجاه القضايا المصيرية، وهذا يمثِّل انتحارًا سياسيًّا؛ لأن الاجتماع قوَّة، والتفرُّق ضعف، ولأن الأعداء إن استطاعوا اليوم تحييد المسلمين عن مآسي إخوانهم في فلسطين، استطاعوا غدًا افتراسهم دولة بعد أخرى، والقضاء عليهم شيئًا فشيئًا.
إنهم يحاوِلون بشتَّى الطرق تحويل قضية القدس من كونها قضية دينية شرعية لجعلها قضية وطنية كما فعلوا من قبل، وأكبر شيء يؤرِّقهم ويؤرِّق اليهود هو بقاء الوَهَج الديني في هذه القضية التي ثبَت فيها فشل المشاريع العلمانية القومية والوطنية، ولم ينجح إلا الشعار الديني الإسلامي الذي رَعَب اليهود، وهزَمَهم في معركة غزة السابقة.
إن إماتَة القضيَّة في قلوب المسلمين هو تمهيدٌ لهدم المسجد الأقصى، وهو ما يسعى إليه الصهاينة وأعوانهم المنافقون، وإن إحياء قضية الأقصى في قلوب المسلمين سيكون سببًا في فشل اليهود والمنافقين عن تحقيق مرادهم، فأحيوا - عبادَ الله - قضية القدس وأرضها المباركة في قلوبكم وقلوب أولادكم، وفي بيوتكم ومجالسكم؛ ليُثمِر ذلك دعمًا وتأييدًا وتثبيتًا للمرابطين في المسجد الأقصى وأكنافه، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تزال عصابةٌ من أمتي يُقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرُّهم خذلان مَن خذَلَهم، ظاهِرِين على الحقِّ إلى أن تقوم الساعة))؛ رواه أبو يعلى والطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
فانصُروهم نصَرَكم الله - تعالى - ولا تخذلوهم وتُسْلِموهم إلى أعدائكم وأعدائهم، وستُسأَلون عنهم يوم القيامة.
وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم
الشيخ ابراهيم بن محمد الحقيل
الشيخ ابراهيم بن محمد الحقيل