ذكرتُ في العدد السابق الخاص بـ(الانتصار للنبي المختار سيِّد المهاجرين والأنصار) مقدمات ومداخل حول المقاطعة الاقتصاديَّة، ووعدتُ بإبراز جهود العلماء في هذه النازلة ولا سيما بعد أفاعيل العلوج الكفَّار في الطعن في سيِّد الأبرار، من الحادثة الدنماركيَّة التي اشتهرت في وسائل الإعلام، ووعدتُ بذكر قواعد الأحكام، وفتوى الأئمة الأعلام وإبرازها للأنام، في وقت أصبحت هذه النازلة حديث المجالس، وترددها ألسنة العوام.
وهذه النازلة كغيرها ممن لم يرد بعينها نصّ، فيبقى فيها الاستنباط، وتخريجها على قواعد المصالح والمفاسد، وتنزيلها على المقرَّر عند التنازع، وهذا الإلحاق يعتريه خلاف في التقدير، ولا سيَّما أن الحوادث تتنوع، والنوازل تختلف، فليست المقاطعات في درجة واحدة من حيث الثمرة، وليس تأثيرها واحداً من حيث كونها وسيلة، وهي قائمة عند الاضطرار، وتعطيل الحكم المختار، المنصوص عليه في كلام الأخيار، من إرغام أنوف الكفَّار، وإلحاق الذلِّ بهم والصَّغار.
وبلا شك أنّ المقاطعة في الشرع لها أصول، وهي مظهر من مظاهر البراء، وضرب ولون من ألوان الهجر المشروع، ولكن لا بدَّ لها من ضوابط وقيود، وإبراز ذلك بتأصيل وتقعيد يظهر من خلال فتاوى العلماء الربانيّين، وأسوق في هذه المقالة جملة نقول مهمَّة في هذا الموضوع، والله الموفق، لا ربَّ سواه.
( 1 ) فتوى شيخنا الإمام الألباني –رحمه الله-:
قال في (سلسلة الهدى والنور) شريط رقم (190) ما نصُّه: «قلت آنفاً لبعض إخواننا سألني وكثيراً ما نُسأل عن اللحم البلغاري، وأنا حقيقة أتعجب من الناس! اللحم البلغاري بُلينا به منذ سنين طويلة كل هذه السنين ما آن للمسلمين أن يفهموا شو حكم هذا اللحم البلغاري؟ أمر عجيب! فأنا أقول: لا بدَّ أنكم سمعتم إذا كنتم في شك وفي ريب من أن هذه الذبائح تذبح على الطريقة الإسلاميَّة أو لا تذبح على الطريقة الإسلاميَّة، فلستم في شكّ بأنهم يذبحون إخواننا المسلمين هناك الأتراك المقيمين منذ زمن طويل يذبحونهم ذبح النعاج، فلو كان البلغاريون يذبحون هذه الذبائح التي نستوردها منهم ذبحاً شرعيّاً حقيقةً أنا أقول لا يجوز لنا أن نستورده منهم، بل يجب علينا أن نقاطعهم حتى يتراجعوا عن سفك دماء إخواننا المسلمين هناك، فسبحان الله مات شعور الأخوة التي وصفها الرسول -عليه السلام- بأنها كالجسد الواحد «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر»، لم يعد المسلمون يحسُّون بآلام إخوانهم فانقطعت الصلات الإسلاميّة بينهم، ولذلك همهم السؤال أيجوز أكل اللحم البلغاري! لك يا أخي أنت عرفت أن البلغار يذبحون المسلمين هناك، ولا فرق بين مسلم عربي ومسلم تركي ومسلم أفغاني إلى آخره، والأمر كما قال -تعالى-: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات:10]، فإذا كنّا إخوانناً فيجب أن يغار بعضنا على بعض، ويحزن بعضنا لبعض، ولا يهتم بمأكله ومشربه فقط.
فلو فرضنا أن إنساناً ما اقتنع بعد بأنّ اللحم البلغاري فطيسة . . . حكمها فطيسة؛ لأنها تقتل ولا تذبح، لا نستطيع أن نقنع الناس بكل رأي؛ لأنَّ الناس لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك كما جاء في القرآن الكريم، فإذا كنا لا نستطيع أن نقنع الناس بأنّ هذه اللحوم التي تأتينا من البلغار هي حكمها كالميتة، لكن ألا يعلمون أن هؤلاء البلغار يذبحون إخواننا المسلمين هناك، أما يكفي هذا الطغيان وهذا الاعتداء الأليم على إخواننا من المسلمين هناك أن يصرفنا عن اللحم البلغاري، ولو كان حلالاً هذا يكفي، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين».
فالمقاطعة في كلام شيخنا ظاهرة، وهي في سياقه بمعنى (الهجر الزاجر) إن وجدت (الأخوة) الصادقة بين المسلمين.
( 2 ) فتوى الشيخ أحمد شاكر –رحمه الله-:
ويظهر هذا المعنى على وجه بيِّن في كلام العلامة أحمد شاكر -رحمه الله تعالى-، قال تحت عنوان (مقاطعة الملحدين) ما نصُّه:
«بث الملحدون دعوتهم بين كثير من الناس؛ فأفسدوا كثيراً من عقائدهم، ولمسنا خطرهم على الإسلام بأيدينا، ورأيناه بأعيننا، ثمّ رأوا من المسلمين الصادقين التواكل والسكون؛ فراشوا سهامهم وأعدُّوا عدتهم وهاجمونا من كل جانب، والمبشرون من ورائهم يؤدونهم بأموالهم وصحفهم اتباعاً لخطَّةٍ اختطُّوها بعد التجارب، وقد علموا أن تنصير المسلم دونه خرط القتاد، فاكتفوا الآن -مؤقتاً- بالعمل على تنفيرهم من الإسلام، وتحقيره في أعينهم، وانتزاع عقائده من صدورهم، وآية ذلك أن تجد هؤلاء المجددين لا يطعنون إلا في دين الإسلام وإن تظاهروا بمحاربة كل الأديان.
وقد قامت حركة مباركة بين المخلصين المجاهدين في سبيل الله بالكتابة ضد كل من تحدثه نفسه بالعدوان على الدين الحق، ولكن الكتابة في نظري غير كافية، والمناظرة لا تجدي إلا قليلاً، وإنما الجهاد عمل.
ولا يجوز لنا أن نعتمد في كلّ أمورنا -بل في أمور حياة الإسلام- على الحكومة، وما هي بمجيبة لنا دعوة، ولا بسامعة لصوتنا صدىً، والإسلام يكره العنف والهوج، ولكنه بجانب هذا يحتقر الجبن والذل، ويرفض من يؤمن ببعض الكتب ويكفر ببعض. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [الممتحنة:1]، { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة:4]، فكرت في هذا كثيراً فما وجدتُ من طرق الجهاد السلمي الهادئ أجدى علينا من مقاطعة الملحدين.
لا أقصد بهذا أن لا نكلمهم فقط فذا أمر هين، ولكني أريد أن نقاطعهم في كل شيء، لا نأكل طعامهم، ولا نضيفهم، ولا نبايعهم، ولا نصاهرهم، ونقطع كلَّ صلة بأيِّ فرد منهم، ونعلمهم بحكم الله –تعالى- بأنهم خرجوا من الإسلام وحاربوه؛ فلا صلة بينهم وبين المسلمين.
إذا مات أحدهم لا يرثه وارثه المسلم، وإذا مات قريب لهم لا يرثونه، وإذا علمت المرأة أن زوجها منهم وجب عليها أن تفارقه؛ فإن نكاح الكافر للمسلمة نكاح باطل ومعاشرتها له حرام.
إذا كان للرجل ولد منهم حرم عليه إبقاؤه معه تحت سقف واحد ووجب عليه إخراجه، وأن لا ينفق عليه، وكل ما يعطيه فإنما ينفقه في إعانة من يحارب دينه وهو عليه حرام.
وقـد أعجبني من هذا النوع كلمة لأستاذنا السيد رشيد رضا للآنسة التي أيدت الأستاذ محمود عزمي في وجوب مساواة المرأة بالرجل، فإنه قال لها (في عدد رمضان سنة 1348 من مجلة المنار الغرّاء): «يجب أن تعلم هذه الفتاة هي وأهلها أنها كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه المساواة، وتنكر حقيقة ما قرَّره الإسلام وحسَّنه، فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها، ولا ترث المسلمين ولا يرثونها».
وهكذا يجب أن نفعل؛ كل من أبدى للإسلام صفحته، صدعنا بأمر الله وصارحناه بحكم الإسلام فيه، وعاملناه بما تأمرنا به الشريعة في كل أموره.
هذه فكرة كانت تجول بخاطري من زمن بعيد، وكلَّما هممتُ بكتابتها تريثت حتى تنضج، وأنا أعرضها الآن على إخواني المؤمنين، فما قولهم؟».
فالهجر الإيجابي الزاجر يدخل فيه في نظري وتقديري (المقاطعة الاقتصاديّة) للبلاد التي تسيء للإسلام والمسلمين، فإنَّ (الترك فعل) على الراجح عند الأصوليين، شريطة التأثير الذي يقدره أهل الخبرة، فالمقاطعة معقولة المعنى واستخدامها مشروع -بل مطلوب- فيما ينفع المسلمين، أو يرفع الأذى عنهم، أو إن ترتب عليها زوال المنكر أو تنقيصه، ولعله تصل للوجوب إذا كان أولياء الأمور يأذنون بذلك، أو يأمرون.
( 3 ) فتوى الشيخ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله-:
وصرَّح بمشروعية هذه الصورة: فضيلة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز، واللجنة الدائمة للإفتاء ترى ذلك في فتاواها (فتوى رقم 21776).
( 4 ) فتوى الشيخ محبّ الدين الخطيب –رحمه الله-:
ووجدت كلمة جيدة للعلامة السلفي محب الدين الخطيب، كتبها في افتتاحية العدد (175) من مجلته القيِّمة «الفتح» بتأريخ ( 26 جمادى الآخرة 1348هـ - الموافق 28 نوفمبر 1929)، وهي بعنوان (المقاطعة أمضى سلاح بأيدي عرب فلسطين)، ومما قال فيها:
«المقاطعة عنوان الرجولة والحزم، والأمَّة التي تثبت على مقاطعة من يسيء إليها تشعر الأمم كلها بالحرمة لها، وفي مقدمة من يحترمها أعداؤها.
وبالمقاطعة تعرف الأمَّة مواطن ضعفها، وتنتبه إلى ما ينقصها في صناعاتها وتجاراتها، فالصنف من أصناف الحاجيات إذا كان لا يستحضره من مصادره غير اليهود؛ فإن العرب سيشعرون بحاجتهم إلى من يتقدَّم منهم لاستحضاره من مصادره، فيعظم إقبال الوطنيين على بطاعة أخيهم الوطني؛ الذي يأتيهم بما لا يوجد منه إلا عند أعدائهم، وبذلك يسد حاجتهم ويستفيد من إقبالهم على سلعته.
والمقاطعة ستنبه الأمَّة إلى ما هو أعظم من ذلك، فبعد أن يكون المتجرون بالكبريت -مثلاً- من اليهود دون غيرهم؛ يبادر إلى الاتجار بهذا الصنف تجار من العرب، ثمَّ تخطو الأمَّة خطوة أخرى فتؤسس مصنعاً وطنياً للكبريت، ومتى تقدَّمت الأمَّة خطوات متعددة في سبيل الاستقلال الاقتصادي؛ كان لها من ذلك شهود عدول على كفاءتها للاستقلال القومي والسياسي.
وقبل أن تكون المقاطعة طريقاً إلى الاستقلال الاقتصادي والسياسي، فهي طريق إلى النضوج الأخلاقي؛ لأنَّ الأمَّة التي تشعر بحاجتها في صناعاتها وتجاراتها إلى الاستعانة بأعدائها يتأصل في نفوس أبنائها اعتقاد بضعفها وفاقتها، وهذا الشعور مدرجة انحطاط في الأخلاق، ونقص في عزَّة النفس، ويأس من بلوغ الأمل.
وفضلاً عن هذا وذاك فإن الأمّة التي قطعت على نفسها عهد المقاطعة؛ تتعفف بطبيعة الحال عن كثير من الكماليات التي لا تجدها إلا في أيدي أعدائها، وأسمي هذا النوع بالكماليات من باب التساهل، وإلا فإن الغرب إنما غزا الشرق ثم فتحه منذ تمكن من تعويد الشرقيين والشرقيات استعمال هذه الكماليات، فقام على أموال الشرق القليلة بناءُ ثروة الغرب العظيمة».
( 5 ) فتوى الشيخ عبدالرحمن السعدي –رحمه الله-:
ومن أجمع الكلمات وأقواها وأجلِّها التي وقفت عليها في (المقاطعة) كلمة للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي، وهذا نصها:
«اعلموا أنَّ الجهاد يتطوّر بتطوُّر الأحوال، وكل سعي وكل عمل فيه صلاح المسلمين، وفيه نفعهم، وفيه عزّهم فهو من الجهاد، وكل سعي وعمل فيه دفع لضرر على المسلمين وإيقاع الضرر بالأعداء الكافرين فهو من الجهاد، وكل مساعدة للمجاهدين مالياً فإنها من الجهاد . . فمن جهَّز غازياً فقد غزى، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزى، وإنَّ الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنّة: صانعه يحتسب فيه الأجر، والذي يساعد به المجاهدين، والذي يباشر به الجهاد.
ومن أعظم الجهاد وأنفعه: السعي في تسهيل اقتصاديات المسلمين والتوسعة عليهم في غذائياتهم الضرورية والكمالية، وتوسيع مكاسبهم وتجاراتهم وأعمالهم وعمالهم، كما أن من أنفع الجهاد وأعظمه مقاطعة الأعداء في الصادرات والواردات، فلا يسمح لوارداتهم وتجاراتهم، ولا تفتح لها أسواق المسلمين ولا يمكَّنون من جلبها على بلاد المسلمين . . بل يستغني المسلمون بما عندهم من منتوج بلادهم، ويوردون ما يحتاجونه من البلاد المسالمة، وكذلك لا تصدَّر لهم منتوجات بلاد المسلمين ولا بضائعهم، وخصوصاً ما فيه تقوية للأعداء: كالبترول، فإنه يتعيَّن منع تصديره إليهم . . وكيف يصدّر لهم من بلاد المسلمين ما به يستعينون على قتالهم؟؟! فإنَّ تصديره إلى المعتدين ضرر كبير، ومنعه من أكبر الجهاد، ونفعه عظيم.
فجهاد الأعداء بالمقاطعة العامة لهم من أعظم الجهاد في هذه الأوقات، ولملوك المسلمين ورؤسائهم -ولله الحمد- من هذا الحظ الأوفر والنصيب الأكمل، وقد نفع الله بهذه المقاطعة لهم نفعاً كبيراً . . وأضرت الأعداء وأجحفت باقتصادياتهم، وصاروا من هذه الجهة محصورين مضطرين إلى إعطاء المسلمين كثيراً من الحقوق التي لولا هذه المقاطعة لمنعوها، وحفظ الله بذلك ما حفظ من عزّ المسلمين وكرامتهم.
ومن أعظم الخيانات وأبلغ المعاداة للمسلمين تقريب أولي الجشع والطمع الذين لا يهمهم الدين ولا عز المسلمين ولا تقوية الأعداء نقود البلاد أو بضائعها أو منتوجاتها إلى بلاد الأعداء . .! وهذا من أكبر الجنايات وأفظع الخيانات، وصاحب هذا العمل ليس له عند الله نصيب ولا خلاق.
فواجب الولاة الضرب على أيدي هؤلاء الخونة، والتنكيل بهم، فإنهم ساعدوا أعداء الإسلام مساعدة ظاهرة، وسعوا في ضرار المسلمين ونفع أعدائهم الكافرين . . فهؤلاء مفسدون في الأرض يستحقون أن ينزل بهم أعظم العقوبات.
والمقصود أن مقاطعة الأعداء بالاقتصاديات والتجارات والأعمال وغيرها ركن عظيم من أركان الجهاد، وله النفع الأكبر، وهو جهاد سلمي وجهاد حربي.
وفق الله المسلمين لكل خير، وجمع كلمتهم، وألَّف بين قلوبهم، وجعلهم إخواناً متحابين ومتناصرين، وأيدهم بعونه وتوفيقه، وساعدهم بمدده وتسديده، إنَّه جواد كريم رؤوف رحيم . .».
( 6 ) فتوى أبي الكلام الكلكتوني –رحمه الله-:
ومن نادى بالمقاطعة قديماً: أبو الكلام أحمد بن خير الدين الكلكتوني الشهير بـ (أبي كلام آزاد).
جاء في ترجمته في «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» (3/1169):
«وكانت البلاد في ذلك الحين تشتعل قلقاً واضطراباً بتأثير ما حدث في ممتلكات الدولة العثمانية وسياسة الحلفاء، وفي مقدمتهم الحكومة البريطانية في قضية العثمانيين والبلاد الإسلامية كلها، وظهر تقرير «رولت» وصدر القانون الخاص بالمسلمين، وكانت حركة الخلافة على قدم وساق، فخاض أبو الكلام في هذه الحركة وأشعلها بخطاباته الساحرة، ومقالاته البليغة القوية، ورافق مستر «غاندي» الذي كان قد احتضن حركة الخلافة وفكرتها مجاراة لعواطف المسلمين، وتأييداً لقضية عادلة، وأيد أبو الكلام مبدأ ترك موالاة الحكومة الإنجليزيّة، ومقاطعة البضائع الأجنبيّة، ومبدأ «لا عنف ولا اعتداء» المبادئ التي دعا إليها «غاندي» فأقام عليها الدلائل الشرعيّة، وجال فيها وصال، فكان لها الرواج والقبول في الأوساط الإسلاميّة، واضطربت لها الحكومة الإنجليزيّة، وقام بجولات واسعة مع «غاندي» وزعماء الخلافة في أنحاء الهند، وألقى الخطب الرنانة في المحافل الكبيرة».
وممن كان يؤيد حركة مقاطعة البضائع الأجنبيّة: عبدالباري الفرنكي محلي الكهنوي، كما في ترجمته في «الإعلام» (3/1259) -أيضاً-.
ووجدتُ العلامة تقي الدين يذكر قصصاً في مقاطعة الهندوس للبضائع البريطانيّة في الهند، ويثني على ذلك، فهي عنده مقبولة، إن آتت ثمارها وترتبت عليها نتائجها.
والله الهادي والعاصم.
وهذه النازلة كغيرها ممن لم يرد بعينها نصّ، فيبقى فيها الاستنباط، وتخريجها على قواعد المصالح والمفاسد، وتنزيلها على المقرَّر عند التنازع، وهذا الإلحاق يعتريه خلاف في التقدير، ولا سيَّما أن الحوادث تتنوع، والنوازل تختلف، فليست المقاطعات في درجة واحدة من حيث الثمرة، وليس تأثيرها واحداً من حيث كونها وسيلة، وهي قائمة عند الاضطرار، وتعطيل الحكم المختار، المنصوص عليه في كلام الأخيار، من إرغام أنوف الكفَّار، وإلحاق الذلِّ بهم والصَّغار.
وبلا شك أنّ المقاطعة في الشرع لها أصول، وهي مظهر من مظاهر البراء، وضرب ولون من ألوان الهجر المشروع، ولكن لا بدَّ لها من ضوابط وقيود، وإبراز ذلك بتأصيل وتقعيد يظهر من خلال فتاوى العلماء الربانيّين، وأسوق في هذه المقالة جملة نقول مهمَّة في هذا الموضوع، والله الموفق، لا ربَّ سواه.
( 1 ) فتوى شيخنا الإمام الألباني –رحمه الله-:
قال في (سلسلة الهدى والنور) شريط رقم (190) ما نصُّه: «قلت آنفاً لبعض إخواننا سألني وكثيراً ما نُسأل عن اللحم البلغاري، وأنا حقيقة أتعجب من الناس! اللحم البلغاري بُلينا به منذ سنين طويلة كل هذه السنين ما آن للمسلمين أن يفهموا شو حكم هذا اللحم البلغاري؟ أمر عجيب! فأنا أقول: لا بدَّ أنكم سمعتم إذا كنتم في شك وفي ريب من أن هذه الذبائح تذبح على الطريقة الإسلاميَّة أو لا تذبح على الطريقة الإسلاميَّة، فلستم في شكّ بأنهم يذبحون إخواننا المسلمين هناك الأتراك المقيمين منذ زمن طويل يذبحونهم ذبح النعاج، فلو كان البلغاريون يذبحون هذه الذبائح التي نستوردها منهم ذبحاً شرعيّاً حقيقةً أنا أقول لا يجوز لنا أن نستورده منهم، بل يجب علينا أن نقاطعهم حتى يتراجعوا عن سفك دماء إخواننا المسلمين هناك، فسبحان الله مات شعور الأخوة التي وصفها الرسول -عليه السلام- بأنها كالجسد الواحد «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر»، لم يعد المسلمون يحسُّون بآلام إخوانهم فانقطعت الصلات الإسلاميّة بينهم، ولذلك همهم السؤال أيجوز أكل اللحم البلغاري! لك يا أخي أنت عرفت أن البلغار يذبحون المسلمين هناك، ولا فرق بين مسلم عربي ومسلم تركي ومسلم أفغاني إلى آخره، والأمر كما قال -تعالى-: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات:10]، فإذا كنّا إخوانناً فيجب أن يغار بعضنا على بعض، ويحزن بعضنا لبعض، ولا يهتم بمأكله ومشربه فقط.
فلو فرضنا أن إنساناً ما اقتنع بعد بأنّ اللحم البلغاري فطيسة . . . حكمها فطيسة؛ لأنها تقتل ولا تذبح، لا نستطيع أن نقنع الناس بكل رأي؛ لأنَّ الناس لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك كما جاء في القرآن الكريم، فإذا كنا لا نستطيع أن نقنع الناس بأنّ هذه اللحوم التي تأتينا من البلغار هي حكمها كالميتة، لكن ألا يعلمون أن هؤلاء البلغار يذبحون إخواننا المسلمين هناك، أما يكفي هذا الطغيان وهذا الاعتداء الأليم على إخواننا من المسلمين هناك أن يصرفنا عن اللحم البلغاري، ولو كان حلالاً هذا يكفي، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين».
فالمقاطعة في كلام شيخنا ظاهرة، وهي في سياقه بمعنى (الهجر الزاجر) إن وجدت (الأخوة) الصادقة بين المسلمين.
( 2 ) فتوى الشيخ أحمد شاكر –رحمه الله-:
ويظهر هذا المعنى على وجه بيِّن في كلام العلامة أحمد شاكر -رحمه الله تعالى-، قال تحت عنوان (مقاطعة الملحدين) ما نصُّه:
«بث الملحدون دعوتهم بين كثير من الناس؛ فأفسدوا كثيراً من عقائدهم، ولمسنا خطرهم على الإسلام بأيدينا، ورأيناه بأعيننا، ثمّ رأوا من المسلمين الصادقين التواكل والسكون؛ فراشوا سهامهم وأعدُّوا عدتهم وهاجمونا من كل جانب، والمبشرون من ورائهم يؤدونهم بأموالهم وصحفهم اتباعاً لخطَّةٍ اختطُّوها بعد التجارب، وقد علموا أن تنصير المسلم دونه خرط القتاد، فاكتفوا الآن -مؤقتاً- بالعمل على تنفيرهم من الإسلام، وتحقيره في أعينهم، وانتزاع عقائده من صدورهم، وآية ذلك أن تجد هؤلاء المجددين لا يطعنون إلا في دين الإسلام وإن تظاهروا بمحاربة كل الأديان.
وقد قامت حركة مباركة بين المخلصين المجاهدين في سبيل الله بالكتابة ضد كل من تحدثه نفسه بالعدوان على الدين الحق، ولكن الكتابة في نظري غير كافية، والمناظرة لا تجدي إلا قليلاً، وإنما الجهاد عمل.
ولا يجوز لنا أن نعتمد في كلّ أمورنا -بل في أمور حياة الإسلام- على الحكومة، وما هي بمجيبة لنا دعوة، ولا بسامعة لصوتنا صدىً، والإسلام يكره العنف والهوج، ولكنه بجانب هذا يحتقر الجبن والذل، ويرفض من يؤمن ببعض الكتب ويكفر ببعض. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [الممتحنة:1]، { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة:4]، فكرت في هذا كثيراً فما وجدتُ من طرق الجهاد السلمي الهادئ أجدى علينا من مقاطعة الملحدين.
لا أقصد بهذا أن لا نكلمهم فقط فذا أمر هين، ولكني أريد أن نقاطعهم في كل شيء، لا نأكل طعامهم، ولا نضيفهم، ولا نبايعهم، ولا نصاهرهم، ونقطع كلَّ صلة بأيِّ فرد منهم، ونعلمهم بحكم الله –تعالى- بأنهم خرجوا من الإسلام وحاربوه؛ فلا صلة بينهم وبين المسلمين.
إذا مات أحدهم لا يرثه وارثه المسلم، وإذا مات قريب لهم لا يرثونه، وإذا علمت المرأة أن زوجها منهم وجب عليها أن تفارقه؛ فإن نكاح الكافر للمسلمة نكاح باطل ومعاشرتها له حرام.
إذا كان للرجل ولد منهم حرم عليه إبقاؤه معه تحت سقف واحد ووجب عليه إخراجه، وأن لا ينفق عليه، وكل ما يعطيه فإنما ينفقه في إعانة من يحارب دينه وهو عليه حرام.
وقـد أعجبني من هذا النوع كلمة لأستاذنا السيد رشيد رضا للآنسة التي أيدت الأستاذ محمود عزمي في وجوب مساواة المرأة بالرجل، فإنه قال لها (في عدد رمضان سنة 1348 من مجلة المنار الغرّاء): «يجب أن تعلم هذه الفتاة هي وأهلها أنها كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه المساواة، وتنكر حقيقة ما قرَّره الإسلام وحسَّنه، فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها، ولا ترث المسلمين ولا يرثونها».
وهكذا يجب أن نفعل؛ كل من أبدى للإسلام صفحته، صدعنا بأمر الله وصارحناه بحكم الإسلام فيه، وعاملناه بما تأمرنا به الشريعة في كل أموره.
هذه فكرة كانت تجول بخاطري من زمن بعيد، وكلَّما هممتُ بكتابتها تريثت حتى تنضج، وأنا أعرضها الآن على إخواني المؤمنين، فما قولهم؟».
فالهجر الإيجابي الزاجر يدخل فيه في نظري وتقديري (المقاطعة الاقتصاديّة) للبلاد التي تسيء للإسلام والمسلمين، فإنَّ (الترك فعل) على الراجح عند الأصوليين، شريطة التأثير الذي يقدره أهل الخبرة، فالمقاطعة معقولة المعنى واستخدامها مشروع -بل مطلوب- فيما ينفع المسلمين، أو يرفع الأذى عنهم، أو إن ترتب عليها زوال المنكر أو تنقيصه، ولعله تصل للوجوب إذا كان أولياء الأمور يأذنون بذلك، أو يأمرون.
( 3 ) فتوى الشيخ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله-:
وصرَّح بمشروعية هذه الصورة: فضيلة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز، واللجنة الدائمة للإفتاء ترى ذلك في فتاواها (فتوى رقم 21776).
( 4 ) فتوى الشيخ محبّ الدين الخطيب –رحمه الله-:
ووجدت كلمة جيدة للعلامة السلفي محب الدين الخطيب، كتبها في افتتاحية العدد (175) من مجلته القيِّمة «الفتح» بتأريخ ( 26 جمادى الآخرة 1348هـ - الموافق 28 نوفمبر 1929)، وهي بعنوان (المقاطعة أمضى سلاح بأيدي عرب فلسطين)، ومما قال فيها:
«المقاطعة عنوان الرجولة والحزم، والأمَّة التي تثبت على مقاطعة من يسيء إليها تشعر الأمم كلها بالحرمة لها، وفي مقدمة من يحترمها أعداؤها.
وبالمقاطعة تعرف الأمَّة مواطن ضعفها، وتنتبه إلى ما ينقصها في صناعاتها وتجاراتها، فالصنف من أصناف الحاجيات إذا كان لا يستحضره من مصادره غير اليهود؛ فإن العرب سيشعرون بحاجتهم إلى من يتقدَّم منهم لاستحضاره من مصادره، فيعظم إقبال الوطنيين على بطاعة أخيهم الوطني؛ الذي يأتيهم بما لا يوجد منه إلا عند أعدائهم، وبذلك يسد حاجتهم ويستفيد من إقبالهم على سلعته.
والمقاطعة ستنبه الأمَّة إلى ما هو أعظم من ذلك، فبعد أن يكون المتجرون بالكبريت -مثلاً- من اليهود دون غيرهم؛ يبادر إلى الاتجار بهذا الصنف تجار من العرب، ثمَّ تخطو الأمَّة خطوة أخرى فتؤسس مصنعاً وطنياً للكبريت، ومتى تقدَّمت الأمَّة خطوات متعددة في سبيل الاستقلال الاقتصادي؛ كان لها من ذلك شهود عدول على كفاءتها للاستقلال القومي والسياسي.
وقبل أن تكون المقاطعة طريقاً إلى الاستقلال الاقتصادي والسياسي، فهي طريق إلى النضوج الأخلاقي؛ لأنَّ الأمَّة التي تشعر بحاجتها في صناعاتها وتجاراتها إلى الاستعانة بأعدائها يتأصل في نفوس أبنائها اعتقاد بضعفها وفاقتها، وهذا الشعور مدرجة انحطاط في الأخلاق، ونقص في عزَّة النفس، ويأس من بلوغ الأمل.
وفضلاً عن هذا وذاك فإن الأمّة التي قطعت على نفسها عهد المقاطعة؛ تتعفف بطبيعة الحال عن كثير من الكماليات التي لا تجدها إلا في أيدي أعدائها، وأسمي هذا النوع بالكماليات من باب التساهل، وإلا فإن الغرب إنما غزا الشرق ثم فتحه منذ تمكن من تعويد الشرقيين والشرقيات استعمال هذه الكماليات، فقام على أموال الشرق القليلة بناءُ ثروة الغرب العظيمة».
( 5 ) فتوى الشيخ عبدالرحمن السعدي –رحمه الله-:
ومن أجمع الكلمات وأقواها وأجلِّها التي وقفت عليها في (المقاطعة) كلمة للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي، وهذا نصها:
«اعلموا أنَّ الجهاد يتطوّر بتطوُّر الأحوال، وكل سعي وكل عمل فيه صلاح المسلمين، وفيه نفعهم، وفيه عزّهم فهو من الجهاد، وكل سعي وعمل فيه دفع لضرر على المسلمين وإيقاع الضرر بالأعداء الكافرين فهو من الجهاد، وكل مساعدة للمجاهدين مالياً فإنها من الجهاد . . فمن جهَّز غازياً فقد غزى، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزى، وإنَّ الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنّة: صانعه يحتسب فيه الأجر، والذي يساعد به المجاهدين، والذي يباشر به الجهاد.
ومن أعظم الجهاد وأنفعه: السعي في تسهيل اقتصاديات المسلمين والتوسعة عليهم في غذائياتهم الضرورية والكمالية، وتوسيع مكاسبهم وتجاراتهم وأعمالهم وعمالهم، كما أن من أنفع الجهاد وأعظمه مقاطعة الأعداء في الصادرات والواردات، فلا يسمح لوارداتهم وتجاراتهم، ولا تفتح لها أسواق المسلمين ولا يمكَّنون من جلبها على بلاد المسلمين . . بل يستغني المسلمون بما عندهم من منتوج بلادهم، ويوردون ما يحتاجونه من البلاد المسالمة، وكذلك لا تصدَّر لهم منتوجات بلاد المسلمين ولا بضائعهم، وخصوصاً ما فيه تقوية للأعداء: كالبترول، فإنه يتعيَّن منع تصديره إليهم . . وكيف يصدّر لهم من بلاد المسلمين ما به يستعينون على قتالهم؟؟! فإنَّ تصديره إلى المعتدين ضرر كبير، ومنعه من أكبر الجهاد، ونفعه عظيم.
فجهاد الأعداء بالمقاطعة العامة لهم من أعظم الجهاد في هذه الأوقات، ولملوك المسلمين ورؤسائهم -ولله الحمد- من هذا الحظ الأوفر والنصيب الأكمل، وقد نفع الله بهذه المقاطعة لهم نفعاً كبيراً . . وأضرت الأعداء وأجحفت باقتصادياتهم، وصاروا من هذه الجهة محصورين مضطرين إلى إعطاء المسلمين كثيراً من الحقوق التي لولا هذه المقاطعة لمنعوها، وحفظ الله بذلك ما حفظ من عزّ المسلمين وكرامتهم.
ومن أعظم الخيانات وأبلغ المعاداة للمسلمين تقريب أولي الجشع والطمع الذين لا يهمهم الدين ولا عز المسلمين ولا تقوية الأعداء نقود البلاد أو بضائعها أو منتوجاتها إلى بلاد الأعداء . .! وهذا من أكبر الجنايات وأفظع الخيانات، وصاحب هذا العمل ليس له عند الله نصيب ولا خلاق.
فواجب الولاة الضرب على أيدي هؤلاء الخونة، والتنكيل بهم، فإنهم ساعدوا أعداء الإسلام مساعدة ظاهرة، وسعوا في ضرار المسلمين ونفع أعدائهم الكافرين . . فهؤلاء مفسدون في الأرض يستحقون أن ينزل بهم أعظم العقوبات.
والمقصود أن مقاطعة الأعداء بالاقتصاديات والتجارات والأعمال وغيرها ركن عظيم من أركان الجهاد، وله النفع الأكبر، وهو جهاد سلمي وجهاد حربي.
وفق الله المسلمين لكل خير، وجمع كلمتهم، وألَّف بين قلوبهم، وجعلهم إخواناً متحابين ومتناصرين، وأيدهم بعونه وتوفيقه، وساعدهم بمدده وتسديده، إنَّه جواد كريم رؤوف رحيم . .».
( 6 ) فتوى أبي الكلام الكلكتوني –رحمه الله-:
ومن نادى بالمقاطعة قديماً: أبو الكلام أحمد بن خير الدين الكلكتوني الشهير بـ (أبي كلام آزاد).
جاء في ترجمته في «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» (3/1169):
«وكانت البلاد في ذلك الحين تشتعل قلقاً واضطراباً بتأثير ما حدث في ممتلكات الدولة العثمانية وسياسة الحلفاء، وفي مقدمتهم الحكومة البريطانية في قضية العثمانيين والبلاد الإسلامية كلها، وظهر تقرير «رولت» وصدر القانون الخاص بالمسلمين، وكانت حركة الخلافة على قدم وساق، فخاض أبو الكلام في هذه الحركة وأشعلها بخطاباته الساحرة، ومقالاته البليغة القوية، ورافق مستر «غاندي» الذي كان قد احتضن حركة الخلافة وفكرتها مجاراة لعواطف المسلمين، وتأييداً لقضية عادلة، وأيد أبو الكلام مبدأ ترك موالاة الحكومة الإنجليزيّة، ومقاطعة البضائع الأجنبيّة، ومبدأ «لا عنف ولا اعتداء» المبادئ التي دعا إليها «غاندي» فأقام عليها الدلائل الشرعيّة، وجال فيها وصال، فكان لها الرواج والقبول في الأوساط الإسلاميّة، واضطربت لها الحكومة الإنجليزيّة، وقام بجولات واسعة مع «غاندي» وزعماء الخلافة في أنحاء الهند، وألقى الخطب الرنانة في المحافل الكبيرة».
وممن كان يؤيد حركة مقاطعة البضائع الأجنبيّة: عبدالباري الفرنكي محلي الكهنوي، كما في ترجمته في «الإعلام» (3/1259) -أيضاً-.
ووجدتُ العلامة تقي الدين يذكر قصصاً في مقاطعة الهندوس للبضائع البريطانيّة في الهند، ويثني على ذلك، فهي عنده مقبولة، إن آتت ثمارها وترتبت عليها نتائجها.
والله الهادي والعاصم.
مشهور حسن سليمان
مآآآآآآجى
مآآآآآآجى