بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
أمَّا بعد:
تكتسب الأرض المباركة فلسطين ميزة تاريخيَّة ذات معنى ومبنى لدى أهل العلم وفقهاء الشريعة، وذلك على مرِّ العصور وكرِّ الدهور، فلقد كان أهل العلم يفخرون بما وصلت له الديار المقدسية من رخاء علمي قام على سواعد العلماء المقادسة وغيرهم، الذين عاشوا في كنفها وتفيئوا ظلالها، حتَّى نشروا علمهم بين الناس وخصوا به طلابهم بروح تأصيليَّة وخبرة منهجيَّة مبنية على أسس علميَّة سليمة.
لكنَّ المتتبع لأحوال فلسطين في زمننا هذا لا يدور باله أو يسنح خياله، إلاَّ بما يقع في أراضيها من صراعات بين أهلها وبين المغتصبين لأرضها من اليهود، فقد قدَّر الله سبحانه وقضى أن تكون هذه الأرض محطَّ أنظار الغزاة منذ القدم وإلى أن تقوم الساعة، ما يشعرنا بأهمية هذه الأرض المقدَّسة المباركة.
وممَّا يؤسف له أن نجد كثيراً من أبناء المسلمين بل من أهالي فلسطين لا يعلمون عن هذه الأرض فقط إلا حسب ما يتنامى لهم عبر وسائل الإعلام، أو أحاديث المجالس التي تتحدث عن الصراع الدائر بين الإسلام والصهيونية على هذه الأرض المباركة!!
بيد أنَّ فلسطين قد عرفت قديماً بأنَّها مثوى الأنبياء، وسكنى صحابة أجلاء، ومهوى أفئدة طلبة العلم النجباء، ومنها خرج العلماء الفضلاء، الذين كان لهم دور في إحداث نهضة تغييريَّة علمية حضارية في القرون الهجرية الماضية...
ودارت رحى الأيام، وانقلب الحال لأسوأ ما نتصور؛ فصرنا نأسف لخفاء هذا الأثر في هذه القطعة المباركة وانتقاص العلم فيها، وقلَّة إدراك كثير من أبناء المسلمين بل نخبهم الفكرية، حين تسألهم عن علماء فلسطين وتاريخ هذه الأرض المقدسة وما تزخر به من تاريخ علمي عريق، وماض معرفي عميق، أنتجت ثماره، وأينعت أزهاره إلى وقتنا الحاضر وواقعنا المعاصر، فلا تكاد تجد جواباً، أو أن تجد جواباً مبتوراً ناقصا!!
ومع هذا كلِّه لا نجد من يجدِّد مسيرة سلفنا الصالح وعلماء فلسطين الأجلاء القدماء، إلاَّ بجهود فرديَّة ضعيفة للغاية، وقلَّما نجد جهداً جماعياً يعيد لفلسطين نهضتها العلميَّة والتأصيليَّة، إلاَّ بشيء لا يكاد يذكر إن أردنا أن يُحصر!!
ولن ينسى القارئ لتاريخ الحركة العلميَّة في فلسطين، أولئك العلماء الفطاحل الذين ولدوا في فلسطين المباركة وكان لهم نسب طويل يمتد عبر السنين الطويلة بارتباط وجودهم بهذه الأرض المباركة الطيبة، وقد شهد لهم التاريخ بل سجَّل لهم شهادة بسعة علمهم وعمق فقههم وعلو مكانتهم ، فمنهم التابعي الجليل رجاء بن حيوة، ت: (112) والإمام الشافعي، ت: (204) والإمام الطبراني، ت: (360) والحافظ عبد الغني المقدسي، ت: (600) والإمام الفقيه ابن قدامة، ت: (620) والإمام المحدث ابن عبد الهادي، ت: (744) والإمام ابن مفلح الحنبلي، ت: (763) والإمام ابن حجر العسقلاني، ت: (852) والعالم الفقيه المرداوي، ت: (885) والفقيه الحنبلي موسى الحجاوي، ت: (895)، والإمام السَّفاريني، ت: (1188) وغيرهم كثير رحمة الله على الجميع رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جنَّاته.
هؤلاء العلماء الذين ما فتؤوا يعلمون الناس دينهم، ويوضحون لهم أصول الشريعة، ومقاصد هذا الدين العظيم، وقد علت شهرتُهم الآفاق، ووصلت للناس مدوناتهم ومصنفاتهم ومتونهم العلمية، وكتبهم المطوَّلة، حيث برعوا في فنون العلم من عقيدة وتوحيد، وعلوم قرآن، إضافة إلى السنة وعلومها، والفقه وأصوله، والتأريخ والسِّير والتراجم والمعاجم وغيرها فرحمة الله عليهم، وأنالهم الرضوان والثواب.
وقبالة ذلك فإنَّا نجد الحال العلميَّة لبلادنا الغالية فلسطين؛ في هذا الوقت وبالذات ضعيفة للغاية، وقد يكون للاحتلال الصهيوني تأثيره الكبير في ضعف المشروع العلمي التأصيلي، وسجنه لبعض أهل العلم، وطرده لآخرين خارج هذه الأرض، ومنعهم من الرجوع لأراضيهم لكي يقدِّموا لأهلها ما فتح الله عليهم من علوم الشريعة، وهذا كله قد أثَّر تدريجياً وبصورة مباشرة أو غير مباشرة في تقليل اهتمام الشباب المسلم بأصول العلم الشرعي طلباً له واجتهاداً في تحصيله، على الأسس العلمية والقواعد المنهجيَّة المبنية على فقه مصادر التلقي الصحيحة، وإدراك مناهج الاستدلال الرصينة.
وعودة للحال العلميَّة في فلسطين، فإنَّا نشاهد شيئاً من الضعف في نشر العلم الشرعي في بلادنا المباركة، وقلما أرى اجتهاداً علمياً ملموساً في نشر العلم الشرعي على النمط التأصيلي الذي يبني طلاب علم في حلق علمية خاصة، سواء في المساجد أو في غيرها، وكأنَّ فلسطين ليست بحاجة لهذا النمط التعليمي!!
بل تكاد تكون الدروس الشرعية شبيهة بمواعظ أو دروس خفيفة ملَّ السامع من كثرة سماعها، فصارت الدروس ذات نمط ممل، تجلب الخمول والنوم، ولا تبعث النهضة العلمية وصناعة التأصيل العلمي الذي يبني طلاب علم شرعيين أصحاب أصول منهجيَّة وفهم علمي رصين، والحقيقة أنَّ ذلك القحط في التأصيل للعلوم الشرعيَّة شيء مشاهد وواقع منظور له بمرأى العين، حتَّى بتنا نسمع بعض الناس، لأن يقولوا: أين هم علماء فلسطين؟، ومن هم؟، وكيف نعرفهم؟، وما مشاريعهم العلمية؟، وما مؤلفاتهم التي تدل على سمو علمهم؟... إلى غير ذلك من الأسئلة التي تخطر في بال الكثيرين.
لقد تذكرت حينئذٍ ـ ما رأيته بكل وضوح من القصور العلمي في فلسطين، وقلَّة الفقهاء المتمكِّنين من أصول الشريعة ومحكماتها ومقرراتها وقواعدها ومقاصدها ـ الموقف الذي جرى للإمام الغزالي رحمه الله عندما نظر لأحوال علماء عصره فوجدهم فئاتٍ شتى ما بين محصل للعلم، وتارك له، أو جامع للاثنين مع السعي نحو الشهرة والجاه، والذكر والانتباه، والتوسع في ملذات الدنيا وشهواتها، وربط ذلك بظهور عزة الإسلام وشرف العلم، ومنهم من أوغل في جزئيات العلوم وفروع الفنون، تاركاً وراء ظهره بقية العلوم ومكملات الفهوم بل منهم من عزف عن الحياة زهداً فيها ورغبة عنها، فتركوا ديار الإسلام لكل ناهب وسالب، فما كان منه رحمه الله إلاَّ أن يردد هذين البيتين في تحسر:
فقهاؤنا كذبالة النبراس ** هي في الحريق وضوءها للناس
خبر ذميم تحت رائق منظر ** كالفضة البيضاء فوق نحاس
ونجد بالفعل بعضاً ـ ولا أقول الكل فإنَّ هناك من يبذل نفسه لنشر العلم على قلَّتهم ـ أساتذة كليات الشريعة في جامعاتنا مشتغلين بحالهم وأنفسهم، وصومعتهم الفكرية، أو برجهم العاجي، وقلَّما ينزل أحدهم لواقع المجتمع لنشر العلم والحث على طلبه واستنهاض الهمم في ذلك، والتفرس في وجوه الشباب لعلَّه يعثر من بينهم على من يكون فتىً هصوراً جسوراً على تحمل مشاقِّ العلم الشرعي؛ لكي يقوم هؤلاء الأستاذة والعلماء تجاه طلبة العلم، بدورهم الأصيل؛ وذلك بتأصيلهم علمياً وشرعياً على أسس متينة، وقواعد منهجيَّة قويمة.
أقول هذا لسماعي لكثير من المحبين للعلم، وممَّن عرضوا على بعض الأساتذة والمشايخ أن يدرِّسوهم كتاباً، أو يشرحوا لهم متناً، أو يلقِّنوهم درساً، ولكنَّهم لا يرون إلاَّ البرود في التعاطي معهم، وقلَّة الاهتمام بذلك، بل انعدام التوجيه لهم في المسيرة العلمية، ودعوتهم لاستكمال همَّتهم لطلب العلم والاجتهاد في تحصيله، ولعلَّ هذا يكون أقلَّ واجب على هؤلاء الأساتذة في تلك الكليَّات الشرعيَّة نحو طلاَّبهم، والشعور بالمسؤوليَّة، ونشر العلم الشرعي، كيف وهو سبحانه وتعالى يحثنا على البدار لطلب العلم، فيقول سبحانه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[سورة التوبة: 122].
إنَّ المشاهد للواقع العلمي في فلسطين والمريد لهذه البلاد نهضة علميَّة حقيقيَّة تذكرنا بأمجاد السابقين من علماء فلسطين، فإنَّه ولا شك حينما يشاهد الواقع فسيرجع طرفه خائباً وهو حسير على الضعف الشديد للحركة العلميَّة ، وهي حالة تمقت الصالح وترضي الطالح، وإلا فعلامَ هذا الفتور في الخروج إلى الناس ونشر العلم أمامهم بشكل مدروس ومنهجي؟!
نعم لدينا وعَّاظ وخطباء ودعاة، ولكن قلَّما نجد علماء أصحاب تقعيد علمي، وتمكن منهجي، وخبرة تأصيليَّة، والأمَّة إن كثر بها الخطباء والوعاظ وقلَّ فيها العلماء فإنَّه نذير شؤم عليها، وعلامة إخفاق في مواجهة التحديات التي تنوبها، وقد صحَّ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوله: "إنَّكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وإنَّ بعدكم زماناً كثير خطباؤه والعلماء فيه قليل".
ألا يجب علينا حيال ذلك أن نتنبه لهذا الأمر الذي حذرنا إياه الصحابي الجليل ابن مسعود، وخصوصاً أنَّنا نلحظ موت عدد من أهل العلم في أصقاع الأرض وكذلك في أرض فلسطين واستشهاد بعض أهل العلم كذلك، ألا يكون ذلك داعياً ومحفِّزاً لبقيَّة من العلماء في فلسطين ـ على قلَّتهم ـ أن يستنهضوا همَّتهم، ويرفعوا ألويتهم لنشر العلم، خصوصاً أنَّنا نعلم أنَّ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»[رواه البخاري]، وحقاً فإنَّ موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما تعاقب الليل والنهار.
• اعتذارات قد نسمعها!!
سيأتي من يقول: إنَّ هذه البلاد تعيش تحت عذابات الاحتلال، والوضع العام الذي قد يضيق الخناق على بوادر الخير من حلقات العلم، ودروس الشريعة، وهذا الأمر يجعلنا في أرق وقلق في نشر العلم، ولسنا قادرين على مواجهة أمر كهذا!!
والحقيقة أنني أسلِّم بشيء ممَّا يقوله هؤلاء الفضلاء، ولكني لست مقتنعاً بكامل قولهم؛ وكأنهم يرددون مثلاً قديما بقولهم: (السيل الهادر لا تسده عباءتك)؛ لأننا نجد على قلة فينا وفي علمائنا وفي طلاب العلم من يمكنه أن يقوم بهذا العلم حق قيام نشراً ودعوة وتأليفاً وقياماً بواجباته، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر بعلم ورفق وحلم!
وإنَ عقدة الانتظار، والترقب للشخص الذي يكون له دور في نشر العلم، لا يليق بالشخصيَّة العلميَّة القياديَّة فـ: "إنَّ جلوس الفرد في مكانه منتظراً أن تصبح مشاكله جزءاً من الماضي ليس إلا كجلوس الفرد في موقف السيارات قائلاً لنفسه: (سأقود عندما تتحول جميع إشارات البلد للون الأخضر) وهذا يعني أن يظل قابعاً في مكانه إلى الأبد".
وفعلاً ؛ فإنَّ المسألة برمَّتها تحتاج إلى عزمة أبيَّة، وهبَّة عمريَّة، لكي يتحقق المقصود، وينال المراد والمطلوب، وصدق من قال:
أيا صاح، هذا الركب قد سار مسرعا *** ونحن قعود ما الذي أنت صانع؟
أترضى بأن تبقى المخلف بعدهم؟ *** صريع الأماني، والغرام ينازع
صحيح أنَّ بلادنا تفتقر للعلماء ولكن هذا لا يعني خلوها من العلماء، وصحيح أنَّ بلادنا تنتشر فيها البدع والأهواء والمخالفات الشرعية لكن هذا لا يفهم منه أنَّ بلادنا لا يوجد بها علماء ودعاة أصحاب منهج صافٍ ومورد عذب نقي، وصحيح أنَّ بلادنا تمتلئ بالكثير من الحزبيات الضيقة، بيد أننا نشهد الكثير من المستقلين ومن المنتمين لبعض الأحزاب الإسلامية الذين نشهد بسعة أفقهم وعلو كعبهم بالعلم الشرعي، وسمو منهجهم المتوازن الرصين.
وعليه فإنَّ هذه الاعتذارات لا يعني إن كانت صحيحة أن نجد لها أذناً صاغية، فإنَّ بناة النهضة العلمية ينبغي عليهم أن تجتمع لديهم هذه الخصال الخمس وهي أن يكونوا: (علماء ـ حكماء ـ مربين ـ أمناء ـ دعاة) باختصار: علماء ربَّانيون... ( ولا تخلو فلسطين منهم)...
ثمّ إن كانوا كذلك فلا بدَّ لهم أن ينزلوا لواقع الناس، ويتفهموا ما لديهم من أفكار ومواقف وآراء، وينظروا في وجوههم حتى إذا رأوا بعض المحبين للعلم، دعوهم لحضور بعض دروسهم التأصيلية، ليكون جيل اليوم الواعد علماء الغد المشرق، ويردد كل واحد منهم ويترنم بما قاله الشاعر:
اطلب العلم ولا تكسل فما *** أبعد الخيرات عن أهل الكسل
لا تقل قد ذهبت أربابه *** كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العدى *** وصلاح القول إصلاح العمل
إن بعض هؤلاء العلماء أو طلاب العلم المتمكنين في فلسطين قد يعتذرون بانشغالاتهم العائليَّة وواجباتهم الوظيفية وضعف إمكاناتهم العلميَّة، ولهؤلاء أقول: إنَّ الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وبما آتاها وبما تطيقه وتستطيعه، إلاَّ أنَّ من الممكن تنظيم الوقت ولو بدرس واحد في الأسبوع يحضره طلاب العلم الشرعي الجادين ولو كانوا خمسة طلاب بشرط أن يكون لديهم قابلية لتلقي العلم، وحفظ المتون التي تشرح، وتحضير الدرس قبل أن يأتوا إليه، وأنا أشهد الله أنَّ هذه الدروس سيشعر العالم والطالب ببركتها أكثر من مائة درس في بعض جامعاتنا في فلسطين التي لو دخلها طالب العلم الشرعي لقسا قلبه من الفتن والمعاصي التي في داخلها، والتي أصبحت عبارة عن عروض أزياء طلابيَّة من كلا الجنسين!!
إنَّ ذلك لا يعني على الإطلاق ترك طلبة العلم للدراسة الجامعيَّة، أو حتَّى التقليل من دراستها؛ فإنَّ هذه الجامعات بحاجة لهم ولعلمهم بعد الاستكمال لدراستهم للتأثير على الطلبة والتلاميذ، بل باتت هذه الجامعات آخر معقل علمي يمكن أن يتعلَّم فيه الطالب في كليَّات الشريعة شيئاً من أمور دينه، ولكنَّ هذا لا يعني الإبقاء والوقوف على الحد والقدر الذي تعلَّمه الطالب، وكذلك فإنَّ شهادة الكثير من أهل العلم في طبيعة المناهج الدراسيَّة في كليات الشريعة بفلسطين فإنَّها ليست بتلك القوَّة العلمية الموجودة في بعض جامعات الدول العربية كالسعودية ومصر والأردن وسورية وغيرها.
فكان لزاماً على طلبة الشريعة أن يتقووا علمياً بدروس شرعيَّة إضافيًّةٍ على بعض العلماء وأساتذة الشريعة، وهو ما نلحظه كذلك من ضعف لديهم في التوجه العلمي، وهو ما يشتكيه بعض أهل العلم في فلسطين من ضعف همم الطلاب في التلقي، أو تقصيرهم بالحفاوة لعلمائهم واحترامهم وتبجيلهم، من خلال نشر علمهم، والثناء عليهم، وحفظ لحومهم أن تنتهك بالقيل والقال، وكذلك بسؤالهم والاستفسار منهم في شؤون دينهم، وهذا ما يذكِّرني بقصَّة سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ حينما (قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان، فقال: "اكروا لي ـ أي استأجروا لي ـ لأخرج من هذا البلد. هذا بلد يموت فيه العلم"، وقد علَّق الإمام الغزالي على ذلك فقال: "وإنَّما قال ذلك حرصاً على فضيلة التعليم واستبقاء العلم به".
فحينما يرى العلماء أنَّ الناس لا تعطيهم قدرهم؛ سواء أكان ذلك من قبيل الاحترام والتبجيل، أو تحريك أذهانهم بالسؤال، والاستمراريَّة في طلب العلم وثني الركب أمامهم والصبر في الاجتهاد في تحصيل العلم؛ فإن لم يجد العلماء ذلك كله فإنَّه سيسبِّب الإحباط لدى بعضهم...
مع أنِّي أرى أنَّ العالم ينبغي عليه أن يكون مشعلاً وداعية إلى الله، وخصوصاً في ظلِّ الوضع الراهن في فلسطين لقلَّة العلماء المتمكِّنين، ومن لا يعاني لم يدرك المعاني؛ كما يقول الحكماء، فلا بَّد من عزيمة ومثابرة للصبر على الطلبة، وقد أدركت بعض مشايخنا ومنهم الشيخ العلاَّمة ابن جبرين ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ كان في بداية تدريسه لطلاَّب العلم لا يجتمع لديه إلاَّ خمسة من طلبة العلم وقد لا يحضرون جميعاً، حتَّى إنَّه في يوم من الأيام وأثناء حرب الخليج!! لم يحضر أحد من طلبته في الدرس فنادى حارس المسجد ـ وقد كان من جنسية هنديَّة ويعرف شيئاً من اللغة العربيَّة ـ وبدأ تعليمه بشيء من آيات الذكر الحكيم، وكان ما كان حتَّى اشتهر ابن جبرين؛ وصارت دروسه يحضرها المئات بل الآلاف إن كان ذلك في دورات علمية.
قال يحيى بن أبي كثير:"لا ينال العلم براحة الجسم، فلا بدَّ من صبر العالم وصبر المتعلم كل منهما على الآخر، فالعالم يصبر في دعوته حتَّى يرى ثمارها يانعة في المستقبل بإذن الله، ويتحرك بعلمه ويبذل من وقته وجهده، ولو كان ذلك على خمسة من طلاَّب العلم يربيهم ويعلمهم، حتَّى يكونوا بعد ذلك خير خلف لزمان ذهب فيه أشياخهم وبقوا هم للناس كي يعلِّموهم أمر دينهم، وأولئك الطلبة يصبرون على تلقيهم العلم،ويقتفون سيرة الجادين من طلبة العلم حتَّى يحصِّلوا العلم المرتجى وينفع الله بهم العباد والبلاد".
تعلم فإن العلم زين لأهله * وفضل وعنوان لكل المحامد
وكن مستفيداً كل يوم زيادة * من العلم واسبح في بحور الفوائد
• دور العلماء في الإصلاح:
لقد شهد الله تعالى بفضلهم فقال: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[سورة آل عمران: 18]، وذكَّر المسلمين بضرورة الرجوع إليهم إن اعترضتهم مسائل مشكلة في أمور دينهم، فقال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[سورة النساء: 83].
ولهذا كان للعلماء فضل كبير وأي فضل حين جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وارثي علم النبوَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: «العلماء هم ورثة الأنبياء»[رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وللشيخ محمد أبو زهرة رأيٌ في الدور المنوط بالعلماء، حيث يعلِّق على الحديث الوارد ذكره فيقول:"وراثة العلماء للأنبياء هي جهاد في إعلان الإسلام، وبيان حقائقه وإزالة الأوهام التي تلحق جوهره، فيُبديْه للناس صافيًا مشرقًا منيرًا، فَيعْشو الناسُ إلى نوره، ويهتدوا بهديه، وإن تلك الوراثة تتقاضى العالِم أن يجاهد، كما جاهد النبيون، ويصبر على البأساء والضراء كما صبروا، وأن يلقَى العنَت ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لقوا، فليست تلك الوراثة شرفًا إلا لمن أخذ في أسبابها، وقام بحقها، وعرف الواجب فيها".
وإنَّ من فضائل قيام العلماء بهذا الواجب المنعقد عليهم، أن يكونوا من ضمن الطائفة المنصورة التي ورد فيها حديث يبشِّرها بوعد الله ونصره ما دامت على ذلك، فنجد في صحيح الإمام البخاري ذلك الحديث الذي يرويه عن معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمَّتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتَّى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
وقد علَّق البخاري على ذلك بقوله: "وهم أهل العلم"، وهذه رواية من روايات حديث الطائفة المنصورة، والتي امتدحها وأثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يستشعر دوره في نشر العلم الشرعي فليعلم إن احتسب الأجر وأخلص النيَّة في ذلك؛ أنَّه سيكون من هذه الطائفة المنصورة، ومن المجددين لهذا الدين في فلسطين المباركة، ورسولنا الهادي صلى الله عليه وسلم يخبرنا ويقول: «إنَّ الله يبعث على رأس كلِّ مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» [أخرجه أبو داود بسند صحيح].
ولهذا نجد الإمام الجليل ابن قيم الجوزيَّة -رحمه الله- يتحدَّث عن أفضليَّة العلم وأنَّ نشره جزء من الجهاد في سبيل الله حيث يقول:" وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد.
ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان؛ وهذا المشارك فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان؛ وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه"....
ثمَّ قال -يرحمه الله-:"والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذ -رضي الله عنه-: عليكم بطلب العلم؛ فإن تعلمه لله خشية ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد".
إنَّ المراد أن يكون لأهل العلم في فلسطين دورهم الريادي وأسلوبهم القيادي في تبليغ هذا الدين لأهل فلسطين، ولقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[سورة آل عمران: 104]، ولهذا فإذا أردنا بحق إصلاح وضع التعليم الشرعي في بلادنا فإنَّنا بحاجة إلى أن تكون لدينا مجابرة على أنفسنا، واستشعار للمسؤوليَّة المناطة بأهل العلم، ومن لم يعانِ لا يدرك المعاني، والنعيم لا يدرك بالنعيم.
يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم وقال أحد علمائهم:
وأَتْعَبُ إن لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً *** وغيري إن لم يَتْعَبِ الناس يتعبِ
ومن جميل ما اطَّلعت عليه ما قاله الشيخ محمد الخضر حسين:"أهل العلم يرقبون كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة، ولا تعد هذه المراقبة وهذا النقد خارجين عن خطة العالم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه كواجب التعليم والإفتاء. وإذا قص علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قص علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويتلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً".
إنَّ للعلماء الربَّانيين الصادقين عظيم الدور، وكبير الأثر، في إصلاح الأمَّة، والسعي بها نحو الكمال، وعدم المداهنة في عرض الدين، فهم إن لم يقولوا الحق، فيستحيل أن يقولوا الباطل أو يرقعوا له، وها هو الشيخ الذي نقلت عنه آنفاً، وهو الشيخ محمد الخضر حسين أحد علماء تونس المعاصرين الكبار، فإنَّه حين انتقل إلى مصر وأعطي جنسيتها وأسندت إليه إدارة الأزهر في بداية الخمسينيات، وحينما تدخَّلت الحكومة في شؤون الأزهر شعر بالإهانة لعدم احترام حريَّة العلماء واحترام ذلك الصرح الكبير فقدَّم استقالته، رحمه الله رحمة واسعة، وحقيق به قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[سورة الأحزاب: 39]، ولهذا فإنَّا نجد أنَّ (أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر بن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحيةً من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مالٌ موفَّرٌ يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة.
وكان محمد بن عبد الله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وهى منها حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.
وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودَّاً واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً.
أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يَعْرِفون في طائفة من العلماء رجاحةَ الرأي، وصرامةَ العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء.
وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبد الرحمن بن القاسم في القاهرة.
وبهذه الأمثلة ندرك شيئاً كبيراً من الدور الغائب لدى بعض أهل العلم في زمننا هذا، حينما نقارن حالهم بحال كثير من أهل العلم السابقين رحمة الله عليهم.
ولكي لا أظلِمَ أو أُظلَم؛ فإنني أقول لا شكَّ أنَّ الصحوة الإسلاميَّة المباركة بشتَّى أطيافها وأحزابها ومجموعاتها أثَّرت وأثَّرت على الواقع الفلسطيني بالعودة إلى الله، والاهتمام بهذا الدين، وتوجيه الناس نحو هذا الدين، ونقول ذلك مقارنة لما كانت عليه فلسطين قبل عشرين أو ثلاثين سنة من غفلة شديدة عن مظاهر الدين والصلاح، فضلاً عن الأخذ بركاب العلم الشرعي، فلعلَّ هذه الصحوة المباركة التي نعايشها تكون مرتقى ـ بإذن الله ـ لما بعده؛ من ضرورة توجيه جمع من طلبة العلم للاهتمام به، والاجتهاد في نيله، وتحمُّل الصعوبات التي تعترض طالبه.
• خطوات عمليَّة في مشاريع النهضة العلميَّة في فلسطين:
لقد أخرج الشيخان في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عَنْ أَبِي مُوسَى ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِي قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِي قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
فأين هم أهل العلم المشمِّرون عن سواعد الجد، لكي يعلِّموا الناس، ويستخلصوا منهم طلبة علم أذكياء نجباء، يكونوا فيما بعد أهل علم وعمل وفضل وهدى، فعَنْ شُرَحبِيلَ أَبِي سَعدٍ قَالَ: دَعا الْحَسَنُ بَنِيهِ وَبَنِي أَخيهِ فَقَالَ: "يا بَنِيَّ وَبَنِي أَخِي إِنَّكُم صغارُ قَومٍ يوشكُ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ آخَرِينَ، فَتَعَلَّمُوا الْعلْمَ؛ فَمَن لَم يَستطِع مِنكُم أَنْ يَروِيَهُ أَو يَحفَظَهُ فَلْيَكْتُبهُ وَلْيَضَعهُ فِي بيتِهِ".
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَنِيهِ فَيَقُولُ: "يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا؛ فَإِنْ تَكُونُوا صِغَارَ قَوْمٍ فَعَسَى أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ آخَرِينَ وَمَا أَقْبَحَ عَلَى شَيْخٍ يُسْأَلُ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ"، وفي رواية: فما خير في كبير ولا علم له، فعليكم بالسنة.
على أهل العلم أنَّ يدركوا بأنَّ على كواهلهم تلقى الأعباء، وعلى عواتقهم يحملون شريعة ربِّ السماء، فليحسنوا نشرها وبثَّها بين أمَّتهم وخصوصاً في هذه الأرض المباركة، كيف ورسول الهدى عليه الصلاة والسلام أخبرنا عن أهل العلم بأنَّهم: "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"، وإنَّ من خير ما يمكن القيام به في ذلك:
1) الإسهام في نشر العلم الشرعي الرصين المؤصَّل في المساجد إذ بالعلم يصلح الله البلاد والعباد، بل لا شيء من العلوم أفضل من العلم الشرعي، ولقد قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ: "واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم، وأعظمها أجراً عند الله يوم القيامة"، فجدير أن يكون لبيوت الله حقها بأن تعمر بذكره، والإعلان عن دورات متخصصة في الحديث والفقه والعقيدة؛ لعلَّ الله تعالى ينفع بها، وتؤتي هذه الدورات أكلها وثمارها يانعة طيبة.
2) استقطاب طلاَّب العلم الشرعي، وإقناعهم بضرورة تلقي العلم، وإعطائهم مفاتيح التلقي للعلم، وأصوله، ومقترحاً للبدء به، ومتابعتهم في ذلك.
3) بناء المعاهد الشرعية التي تدرس العلم بأسلوب يجمع بين الأسلوب التقليدي والعصري، لكي تتكوَّن لدى طالب العلم الأصالة والمعاصرة على حد سواء.
4) تشجيع الحركة العلمية في فلسطين، وبناء مكتبات علمية ضخمة وكبرى، تكون مرجعاً لأهل العلم والفقه والفتوى وطلاب العلم والدعاة عموما.
5) جلب علماء فلسطينيين جمعوا بين العلم والفقه والحكمة، ويكونوا على درجة كبيرة من التخصص في مجال الشريعة من الجامعات العربية والإسلاميَّة، التي يوجد بها عدد من أساتذة كليات الشريعة من الفلسطينيين المواطنين، لعلَّهم يأتون فلسطين وينشروا العلم فيها في داخل الجامعات والمساجد وغيرها.
6) محاولة جمع المتخصصين من أهل العلم في فلسطين وممن يشهد لهم بذلك، على كلمة سواء ليكونوا نواة علمية ، وتعمل على درجة من الاستقلال العلمي بعيداً عن الحزبية التعصبيَّة أو الرسمية الضاغطة أو الإقليمية العرقية، بل يكون الهدف في ذلك الالتقاء على العلم ونشره، فروح المبادرة لجمعهم ضرورة لازمة، وانضواء العلماء تحت هذا السقف المرفوع أمل مرتجى، وحق مبتغى، فمن لها؟!
7) تشجيع المسابقات العلمية، والأفكار النشيطة التطويريَّة لنشر العلم بشتَّى الوسائل والأساليب.
8) تأثير أهل العلم في الحديث للناس عموماً وطلبة العلم خصوصاً، والتركيز والتطرق إلى إقامة العقيدة الصلبة الصحيحة، وضرورة تهذيب النفوس، وتزكية القلوب ببلسم الإيمان والعمل الصالح، والتربية الأخلاقية والإيمانيَّة، وأدب فقه الخلاف، وطريقة النقاش للمسائل العلمية.
9) اهتمام الوسائل الإعلاميَّة بإبراز أهل العلم ومحاورتهم في التخصصات التي يجيدونها، سواء أكان ذلك في وسائل الإعلام المرئيَّة أو المقروءة أو المسموعة، فإنَّنا نلحظ وفي فلسطين بالذات التركيز على إبراز الطاقات السياسية والفكرية والاجتماعيَّة، أمَّا العلماء فهم في واد والإعلام في واد آخر.
10) إقامة مشاريع ودورات علميَة كبرى، مثل الدورات العلمية في الإجازات الصيفية بشرح متون في الفقه والعقيدة والتفسير، ومشروع : (حفظ صحيح البخاري ومسلم)، ومشروع: (حفظ القرآن الكريم مع تفسير مختصر له)، وأن يقوم على ذلك كادر مهني علمي مؤهل لذلك، وممَّا سرَّني وبثَّ دواعي السرور والبهجة إلى قلبي ، ما قرأته أثناء كتابتي لهذه الرسالة وتفحصِّي في شبكة المعلومات العنكبوتيَّة : (الإنترنت) فقد بدأت جمعية ابن باز الخيريَّة الإسلامية الدورة الأولى من نوعها في فلسطين لحفظ السنَّة النبويَّة المطهَّرة، والتي تقيمها في قطاع غزَّة ويشارك في الدورة سبعة عشر طالباً من حفظة كتاب الله عاقدين العزم على حفظ المتفق عليه من صحيحي البخاري ومسلم، وقد ذكر المشرف على الدورة أنَّ من أهدافهم إنشاء جيل ربَّاني يحفظ كتاب الله وسنَّة نبيه ، وأن يجمع طلبة العلم بين حفظ القرآن والسنَّة، راجياً من الله أن يكونوا ممَّن سنّوا سنَّة حسنة.
ولقد سرَّني ما سمعناه من أخبار طيبة بأنَّ في قطاع غزَّة اليوم ما يقارب عشرين ألفاً من الشباب والأشبال والنساء قد انكبوا على حفظ كتاب الله تعالى بمدة لا تتجاوز الستين يوما، وأنَّ في السنة الماضيَّة تخرَّج في هذه المراكز والمخيمات قرابة خمسة آلاف حافظ لكتاب الله، وهذا بصيص من نور، نتمنَّى أن يزداد وتتوسع فكرته لتشمل أرض فلسطين جميعا.
11) محاولة تواصل أهل العلم في فلسطين مع علماء الشريعة بشتَّى أنحاء العالم الإسلامي؛ لأنَّ فلسطين بحكم الحصار والتضييق عليها، يقلّ فيها العلماء، وفي ظل وسائل الاتصال المتطورة يمكننا تسهيل مسألة التواصل بين العلماء وطلبة العلم، وحبذا لو كانت مراكز متميزة ترعى هذا الأمر وتأخذ على عاتقها التواصل مع أهل العلم، وتقريب وجهات النظر بين العلماء والدعاة في فلسطين على كلمة سواء، ولقد كانت سيرة سلفنا الصالح من أهل العلم تضرب أروع الأمثلة في التواصل العلمي فيما بينهم وفي هذا يقول الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن المعلمي:"كان العلماء في العصور الأولى متواصلين على بعد الأقطار وصعوبة الأسفار، فلا تكاد تطلع على ترجمة رجل منهم إلا وجدت فيها ذكر ارتحاله في أوان الطلب إلى الأقطار النائية للقاء العلماء والأخذ عنهم، وسياحته بعد التحصيل، وكلما دخل بلدة سأل عمن بها من العلماء واجتمع بهم واستفاد منهم وأفادهم وبقي يواصلهم طول عمره بالمكاتبة والمراسلة ، وكانت المكاتبات لا تنقطع بين علماء الأقطار لتبادل الأفكار في المسائل العلمية...".
ثمّ َوقف يصف حالة العلماء في الوقت الحاضر قائلاً بحسرة: "فأصبح العلماء في هذا العصر متقاطعين، لا صلة بين علماء هذا القطر، وعلماء القطر الآخر، بل ولا بين علماء القطر الواحد، بل ولا علماء البلد الواحد!!
فقد كان علماء البلد الواحد في العصور السابقة لا يكاد يمر عليهم يوم إلا وهم يجتمعون فيه، ويتذاكرون.
وأما الآن فقد تمر على العالم شهور بل سنون لا يجتمع بعالِمٍ آخر قد يكون معدودا من جيرانه!!، وإذا جمعتهما الجماعة أو الجمعة أو العيد فقد يرجعان من المصلى ولم يلتقيا!!، وإذا التقيا تجنب كل منهما فتح باب المذاكرة: إما رغبة عن العلم، وإما استحقاراً لصاحبه، وإما أنفة أن يظن الناس أن صاحبه أعلم منه، وإما خوفاً من أن تجر المذاكرة إلى المنازعة أو غير ذلك !!".
12) مشاركة أهل العلم المتقنين بنشر علمهم في وسائل الإعلام المرئيَّة والمقروءة والمسموعة، فإنَّ في مشاركتهم خيراً كبيراً، ونشراً لأصول العلم الشرعي، وتبييناً لعموم الناس ما يهمُّهم من أمور دينهم، وصدق الله وهو أصدق القائلين: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[سورة الزمر: 9]، فإنَّ انخراط أهل العلم في هذه الوسائل الإعلاميَّة قيام بحق الله تعالى الذي أوجبه على أهل العلم ودورهم الرئيس في تعليم الأمَّة.
13) انتصار علماء الأمَّة في فلسطين لهموم أهل فلسطين، والدفاع عن حقوقهم الشرعيَّة والمشروعة، وقول كلمة الحق في النوازل المعاصرة التي تلمُّ بهم، وتطوف من حولهم.
14) إن ابتعاث الطلبة المتميزين النابهين لاستكمال دراساتهم خارج فلسطين على أيادي العلماء العاملين ومن ثم رجوعهم ليكونوا علماء أفذاذاً لهو أمرٌ في غاية الأهمية، فيا حبذا لو قامت بعض الجامعات أو المؤسسات الإسلامية في الخارج لاستقبال بعض طلبة العلم المتميزين في فلسطين سنوياً، وقامت على تعليمهم حتى إنهاء الدكتوراه، مع القيام بمتابعتهم لتلقي العلم على أيدي العلماء، لكان بذلك بإذن الله تبارك وتعالى خير كبير سيعود بالنفع على أهل فلسطين.
15) لا بد لنا من تقديم توصية للمؤسَّسات الخيرية والثقافيَّة النافعة، أن يكون لها دور بتبني أعمالاً دعويَّة وعلميَّة وإرشاديَّة في فلسطين، وما أروع الساعة التي يتمّ فيها عقد مؤتمرات وندوات ذات صبغة علميَّة راسخة ، ومنهجيَّة دعويَّة واضحة، لإغاثة العقول والقلوب بدروس العلم، كما هو معمول به في إغاثة الجريح والفقير والجائع.
ولقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل أنَّه قال:"الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس".
16) تخصيص وقفيَّة لطباعة الكتب والمطويات في فلسطين، وذلك للاستعانة بها في مجال التعليم الشرعي، والدعوة إلى الله.
17) تسيير رحلات عمرة علميَّة يكون لها برنامج منظم ومنسَّق مع بعض علماء الحجاز؛ لكي يستفيد طلبة العلم خلالها من لقاء العلماء، وسؤالهم، والتعرف على بعض علماء المسلمين، ويزدادوا شيئاً من العلم في ظلال دورات علمية مكثَّفة.
18) إعادة الروح العلميَّة للمسجد الأقصى المبارك، فكم شكا كثير من أهل العلم المتخصِّصين بضعف الاهتمام من إدارة الأوقاف المسؤولة عن المسجد الأقصى بتعيين علماء متخصصين يقوموا بنشر العلم الشرعي في هذه البقعة المباركة، والتي كانت في مدة سابقة تمتلئ فيها مصاطب العلم، ومواكب الطلاَّب لاقتباس العلوم من مشايخهم،وأمَّا في الوقت الحاضر فإنَّ المسجد الأقصى يتحدَّث فيه كلّ من هبَّ ودب، والأصل أن يكون لأهل العلم في القدس وعلى تخومها مما يحاذيها من الضفَّة الغربيَّة ضغط كبير على الأوقاف؛ لكي تضبط الدروس الملقاة، ولا يعني هذا أن يكون التخويل مسبِّباً للمنع من إلقاء الدروس أو التقييد منها، فالمقصد خلاف ذلك من توسعة مجالس العلم لكي يتلقَّى الكثير من شباب الإسلام وفتياته العلم على أيدي العلماء المتخصصين، ويكون هنالك مساعدة من إدارة الأوقاف لدفع العلماء للتحدث، وإقامة الكراسي الخاصة بهم، وثنى من ليس أهلاً لنشر العلم، لتكون هنالك فائدة لعموم طلبة العلم والحضور، ويشعروا ببركة العلم في بيوت الله، فكيف إذا كان بالمسجد الأقصى المبارك، والذي كانت تجتمع فيه حلقات العلم حتَّى تجاوز المائة حلقة، ولهذا نجد الشيخ عبد الله مخلص المتوفَّى سنة 1947وهو يتحدَّث عن علماء بيت المقدس فيقول:"بيت المقدس الذي قلَّ فيه العلماء، ولم يبق فيه من يشار إليهم بالبنان سوى نفر قليل يعدّون على الأصابع"، ثمَّ ذكر عدداً منهم وواصل حديثه قائلاً: "بعد أن كان المسجد الأقصى وحده يضم تحت سقفه وبين جدرانه المئات من العلماء الأعلام، فسبحان محوِّل الأحوال"، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!!
• وأخيراً:
إنَّ أيَّة أمَّة لا تتقدَّم إلا بعلمائها وأهل الفقه والحكمة فيها، وقد كان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية اهتَزَّ ذلك الوزير ارتياحاً، وضرب يمناه على يسراه قائلاً: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.
إنَّ تعظيم العلم وإعطاء رجالاته حقهم ومستحقهم؛ ذخر وفخر لكل من يقوم بالمسؤوليات تجاه بلده وأمَّته ، وإنَّ من لا يعطي العلم قدره، ولا أهل العلم حقهم، فإنه ولو كان لديه من الإدراك لأهمية ذلك ما له، إلاَّ أنَّ ذلك لا يدل إلا على جهل مدقع وخراب في الفكر بلقع، وقد صدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال:
الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهمُ أدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم نسب *** يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
وإنني من هذا المنطلق أنادي أصحاب المسؤوليات، وعلى رأسهم أهل الحل والعقد من رجالات الإسلام الصادقين ؛ بأن يعطوا لنصيب العلم الشرعي عطاءً واسعاً، وأن يسهموا في نشره بكامل الحرية، وأن يتيحوا جميع الفرص لنيله وطلبه وتعلمه؛ فإنَّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً كما نقل البخاري في صحيحه عن عمر بن عبد العزيز، وإنَّ حاجة الأمة المسلمة للعلم الشرعي أشد من حاجتها للطعام والشراب؛ إذ العلم الشرعي هو المحرك الأساس لكل رأي وفكرة وحركة أما الطعام والشراب فلو اكتفي به في اليوم مرة فلا يضير، لكن إن غفل المرء عن العلم في موقف من المواقف اليومية فإنّهَ يصاب بالخلل الشرعي، فما بالنا ونحن نرزح تحت نير الاحتلال الذي ينفث سمومه والشبهات والشهوات فإنَّ الحاجة تزداد أكثر فأكثر لنشر العلم والمساهمة في ذلك والمساعدة في بثه.
وإنَّ من أولى أولويات المسؤولين أن يهتموا بالبناء العلمي الشرعي الصحيح، وأن يتيحوا الحرية الكاملة والواسعة لطلاب العلم وقاصديه ومريديه؛ لكي ينهلوا من هذا المعين الصافي، ويهنؤوا بعلوم الشريعة العذبة، ويستلهموا مواقفهم واتجاهاتهم بناءً على ما يتوصلون إليه من خلال العلم الشرعي الصحيح، وليس بمواقف رعناء وآراء عرجاء.
أحب أن أنبِّه إلى قضية خطيرة للغاية وهي أنَّ العلم حينما نتحدَّث عنه فإنَّنا لا نريد زيادة من نسخ الكتب تمشي على الأرض، أو تكوين كتلة بشرية تحمل العلوم والمعارف فحسب، بل يكون ذلك مندمجاً في خدمة القضيَّة الفلسطينيَّة علماً وعملاً، وتربية ورباطاً، وجهداً وجهاداً، والعلم الشرعي المفيد هو العلم المبني على العمل؛ لأنَّه تكليف، وفي هذا يقول الشاطبي رحمه الله:"وكل علم ليس تحته عمل فهو باطل"، فالله الله في علم يؤزّنا إلى العمل، وفي معرفة تثير فينا الحركة، ليكون العالم منارة إصلاح، ومشعل هداية، وأمَّا إن أعرضنا عن ذلك، فالويل والثبور: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [سورة محمد: 38].
• وفي الختام:
تحيَّة إلى أهل العلم الذين قاموا بواجبهم في فلسطين حقَّ قيام، وعلَّموا الناس أمور دينهم ودنياهم، حفظهم الله وبارك في جهودهم، وأطال في أعمارهم على طاعته، فجزاكم الله عنَّا كل خير، ولا حرمكم الله الأجر، وحشرنا وإياكم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ... اللهم آمين.
يا سَادة العِلمِ الأصيلِ ومَنْ لَهُـمْ ***أبـداً قلـوبُ المؤمنيـنَ تُفَتّـحُ
أنتم هُداةُ الرَّكْبِ في طلبِ العُـلا *** والنّورُ والعِلمُ الأصيلُ الأوضَـحُ
والذُّخْرُ نِعْمَ الذُّخرُ عِنـدَ مُلِمَّـةٍ *** والفخرُ والشرفُ الذي نَتَوَشّـحُ
أنتم وَرَبِّ البيتِ تـاجُ رُؤوسِنـا*** وبِكُم نُباهي العالميـن ونَرْجَـحُ
ياسَادةَ العِلمِ الأصيـلِ مَكانُكُـمْ ***فَـوْقَ الثُّريَّـا بالمَآثـرِ أَفْيَـحُ
والله المسدد، وهو الموفق، سبحانه وبحمده، وصلى الله وسلم على الهادي البشير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم: خباب بن مروان الحمد
مآآآآآجى
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
أمَّا بعد:
تكتسب الأرض المباركة فلسطين ميزة تاريخيَّة ذات معنى ومبنى لدى أهل العلم وفقهاء الشريعة، وذلك على مرِّ العصور وكرِّ الدهور، فلقد كان أهل العلم يفخرون بما وصلت له الديار المقدسية من رخاء علمي قام على سواعد العلماء المقادسة وغيرهم، الذين عاشوا في كنفها وتفيئوا ظلالها، حتَّى نشروا علمهم بين الناس وخصوا به طلابهم بروح تأصيليَّة وخبرة منهجيَّة مبنية على أسس علميَّة سليمة.
لكنَّ المتتبع لأحوال فلسطين في زمننا هذا لا يدور باله أو يسنح خياله، إلاَّ بما يقع في أراضيها من صراعات بين أهلها وبين المغتصبين لأرضها من اليهود، فقد قدَّر الله سبحانه وقضى أن تكون هذه الأرض محطَّ أنظار الغزاة منذ القدم وإلى أن تقوم الساعة، ما يشعرنا بأهمية هذه الأرض المقدَّسة المباركة.
وممَّا يؤسف له أن نجد كثيراً من أبناء المسلمين بل من أهالي فلسطين لا يعلمون عن هذه الأرض فقط إلا حسب ما يتنامى لهم عبر وسائل الإعلام، أو أحاديث المجالس التي تتحدث عن الصراع الدائر بين الإسلام والصهيونية على هذه الأرض المباركة!!
بيد أنَّ فلسطين قد عرفت قديماً بأنَّها مثوى الأنبياء، وسكنى صحابة أجلاء، ومهوى أفئدة طلبة العلم النجباء، ومنها خرج العلماء الفضلاء، الذين كان لهم دور في إحداث نهضة تغييريَّة علمية حضارية في القرون الهجرية الماضية...
ودارت رحى الأيام، وانقلب الحال لأسوأ ما نتصور؛ فصرنا نأسف لخفاء هذا الأثر في هذه القطعة المباركة وانتقاص العلم فيها، وقلَّة إدراك كثير من أبناء المسلمين بل نخبهم الفكرية، حين تسألهم عن علماء فلسطين وتاريخ هذه الأرض المقدسة وما تزخر به من تاريخ علمي عريق، وماض معرفي عميق، أنتجت ثماره، وأينعت أزهاره إلى وقتنا الحاضر وواقعنا المعاصر، فلا تكاد تجد جواباً، أو أن تجد جواباً مبتوراً ناقصا!!
ومع هذا كلِّه لا نجد من يجدِّد مسيرة سلفنا الصالح وعلماء فلسطين الأجلاء القدماء، إلاَّ بجهود فرديَّة ضعيفة للغاية، وقلَّما نجد جهداً جماعياً يعيد لفلسطين نهضتها العلميَّة والتأصيليَّة، إلاَّ بشيء لا يكاد يذكر إن أردنا أن يُحصر!!
ولن ينسى القارئ لتاريخ الحركة العلميَّة في فلسطين، أولئك العلماء الفطاحل الذين ولدوا في فلسطين المباركة وكان لهم نسب طويل يمتد عبر السنين الطويلة بارتباط وجودهم بهذه الأرض المباركة الطيبة، وقد شهد لهم التاريخ بل سجَّل لهم شهادة بسعة علمهم وعمق فقههم وعلو مكانتهم ، فمنهم التابعي الجليل رجاء بن حيوة، ت: (112) والإمام الشافعي، ت: (204) والإمام الطبراني، ت: (360) والحافظ عبد الغني المقدسي، ت: (600) والإمام الفقيه ابن قدامة، ت: (620) والإمام المحدث ابن عبد الهادي، ت: (744) والإمام ابن مفلح الحنبلي، ت: (763) والإمام ابن حجر العسقلاني، ت: (852) والعالم الفقيه المرداوي، ت: (885) والفقيه الحنبلي موسى الحجاوي، ت: (895)، والإمام السَّفاريني، ت: (1188) وغيرهم كثير رحمة الله على الجميع رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جنَّاته.
هؤلاء العلماء الذين ما فتؤوا يعلمون الناس دينهم، ويوضحون لهم أصول الشريعة، ومقاصد هذا الدين العظيم، وقد علت شهرتُهم الآفاق، ووصلت للناس مدوناتهم ومصنفاتهم ومتونهم العلمية، وكتبهم المطوَّلة، حيث برعوا في فنون العلم من عقيدة وتوحيد، وعلوم قرآن، إضافة إلى السنة وعلومها، والفقه وأصوله، والتأريخ والسِّير والتراجم والمعاجم وغيرها فرحمة الله عليهم، وأنالهم الرضوان والثواب.
وقبالة ذلك فإنَّا نجد الحال العلميَّة لبلادنا الغالية فلسطين؛ في هذا الوقت وبالذات ضعيفة للغاية، وقد يكون للاحتلال الصهيوني تأثيره الكبير في ضعف المشروع العلمي التأصيلي، وسجنه لبعض أهل العلم، وطرده لآخرين خارج هذه الأرض، ومنعهم من الرجوع لأراضيهم لكي يقدِّموا لأهلها ما فتح الله عليهم من علوم الشريعة، وهذا كله قد أثَّر تدريجياً وبصورة مباشرة أو غير مباشرة في تقليل اهتمام الشباب المسلم بأصول العلم الشرعي طلباً له واجتهاداً في تحصيله، على الأسس العلمية والقواعد المنهجيَّة المبنية على فقه مصادر التلقي الصحيحة، وإدراك مناهج الاستدلال الرصينة.
وعودة للحال العلميَّة في فلسطين، فإنَّا نشاهد شيئاً من الضعف في نشر العلم الشرعي في بلادنا المباركة، وقلما أرى اجتهاداً علمياً ملموساً في نشر العلم الشرعي على النمط التأصيلي الذي يبني طلاب علم في حلق علمية خاصة، سواء في المساجد أو في غيرها، وكأنَّ فلسطين ليست بحاجة لهذا النمط التعليمي!!
بل تكاد تكون الدروس الشرعية شبيهة بمواعظ أو دروس خفيفة ملَّ السامع من كثرة سماعها، فصارت الدروس ذات نمط ممل، تجلب الخمول والنوم، ولا تبعث النهضة العلمية وصناعة التأصيل العلمي الذي يبني طلاب علم شرعيين أصحاب أصول منهجيَّة وفهم علمي رصين، والحقيقة أنَّ ذلك القحط في التأصيل للعلوم الشرعيَّة شيء مشاهد وواقع منظور له بمرأى العين، حتَّى بتنا نسمع بعض الناس، لأن يقولوا: أين هم علماء فلسطين؟، ومن هم؟، وكيف نعرفهم؟، وما مشاريعهم العلمية؟، وما مؤلفاتهم التي تدل على سمو علمهم؟... إلى غير ذلك من الأسئلة التي تخطر في بال الكثيرين.
لقد تذكرت حينئذٍ ـ ما رأيته بكل وضوح من القصور العلمي في فلسطين، وقلَّة الفقهاء المتمكِّنين من أصول الشريعة ومحكماتها ومقرراتها وقواعدها ومقاصدها ـ الموقف الذي جرى للإمام الغزالي رحمه الله عندما نظر لأحوال علماء عصره فوجدهم فئاتٍ شتى ما بين محصل للعلم، وتارك له، أو جامع للاثنين مع السعي نحو الشهرة والجاه، والذكر والانتباه، والتوسع في ملذات الدنيا وشهواتها، وربط ذلك بظهور عزة الإسلام وشرف العلم، ومنهم من أوغل في جزئيات العلوم وفروع الفنون، تاركاً وراء ظهره بقية العلوم ومكملات الفهوم بل منهم من عزف عن الحياة زهداً فيها ورغبة عنها، فتركوا ديار الإسلام لكل ناهب وسالب، فما كان منه رحمه الله إلاَّ أن يردد هذين البيتين في تحسر:
فقهاؤنا كذبالة النبراس ** هي في الحريق وضوءها للناس
خبر ذميم تحت رائق منظر ** كالفضة البيضاء فوق نحاس
ونجد بالفعل بعضاً ـ ولا أقول الكل فإنَّ هناك من يبذل نفسه لنشر العلم على قلَّتهم ـ أساتذة كليات الشريعة في جامعاتنا مشتغلين بحالهم وأنفسهم، وصومعتهم الفكرية، أو برجهم العاجي، وقلَّما ينزل أحدهم لواقع المجتمع لنشر العلم والحث على طلبه واستنهاض الهمم في ذلك، والتفرس في وجوه الشباب لعلَّه يعثر من بينهم على من يكون فتىً هصوراً جسوراً على تحمل مشاقِّ العلم الشرعي؛ لكي يقوم هؤلاء الأستاذة والعلماء تجاه طلبة العلم، بدورهم الأصيل؛ وذلك بتأصيلهم علمياً وشرعياً على أسس متينة، وقواعد منهجيَّة قويمة.
أقول هذا لسماعي لكثير من المحبين للعلم، وممَّن عرضوا على بعض الأساتذة والمشايخ أن يدرِّسوهم كتاباً، أو يشرحوا لهم متناً، أو يلقِّنوهم درساً، ولكنَّهم لا يرون إلاَّ البرود في التعاطي معهم، وقلَّة الاهتمام بذلك، بل انعدام التوجيه لهم في المسيرة العلمية، ودعوتهم لاستكمال همَّتهم لطلب العلم والاجتهاد في تحصيله، ولعلَّ هذا يكون أقلَّ واجب على هؤلاء الأساتذة في تلك الكليَّات الشرعيَّة نحو طلاَّبهم، والشعور بالمسؤوليَّة، ونشر العلم الشرعي، كيف وهو سبحانه وتعالى يحثنا على البدار لطلب العلم، فيقول سبحانه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[سورة التوبة: 122].
إنَّ المشاهد للواقع العلمي في فلسطين والمريد لهذه البلاد نهضة علميَّة حقيقيَّة تذكرنا بأمجاد السابقين من علماء فلسطين، فإنَّه ولا شك حينما يشاهد الواقع فسيرجع طرفه خائباً وهو حسير على الضعف الشديد للحركة العلميَّة ، وهي حالة تمقت الصالح وترضي الطالح، وإلا فعلامَ هذا الفتور في الخروج إلى الناس ونشر العلم أمامهم بشكل مدروس ومنهجي؟!
نعم لدينا وعَّاظ وخطباء ودعاة، ولكن قلَّما نجد علماء أصحاب تقعيد علمي، وتمكن منهجي، وخبرة تأصيليَّة، والأمَّة إن كثر بها الخطباء والوعاظ وقلَّ فيها العلماء فإنَّه نذير شؤم عليها، وعلامة إخفاق في مواجهة التحديات التي تنوبها، وقد صحَّ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوله: "إنَّكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وإنَّ بعدكم زماناً كثير خطباؤه والعلماء فيه قليل".
ألا يجب علينا حيال ذلك أن نتنبه لهذا الأمر الذي حذرنا إياه الصحابي الجليل ابن مسعود، وخصوصاً أنَّنا نلحظ موت عدد من أهل العلم في أصقاع الأرض وكذلك في أرض فلسطين واستشهاد بعض أهل العلم كذلك، ألا يكون ذلك داعياً ومحفِّزاً لبقيَّة من العلماء في فلسطين ـ على قلَّتهم ـ أن يستنهضوا همَّتهم، ويرفعوا ألويتهم لنشر العلم، خصوصاً أنَّنا نعلم أنَّ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»[رواه البخاري]، وحقاً فإنَّ موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما تعاقب الليل والنهار.
• اعتذارات قد نسمعها!!
سيأتي من يقول: إنَّ هذه البلاد تعيش تحت عذابات الاحتلال، والوضع العام الذي قد يضيق الخناق على بوادر الخير من حلقات العلم، ودروس الشريعة، وهذا الأمر يجعلنا في أرق وقلق في نشر العلم، ولسنا قادرين على مواجهة أمر كهذا!!
والحقيقة أنني أسلِّم بشيء ممَّا يقوله هؤلاء الفضلاء، ولكني لست مقتنعاً بكامل قولهم؛ وكأنهم يرددون مثلاً قديما بقولهم: (السيل الهادر لا تسده عباءتك)؛ لأننا نجد على قلة فينا وفي علمائنا وفي طلاب العلم من يمكنه أن يقوم بهذا العلم حق قيام نشراً ودعوة وتأليفاً وقياماً بواجباته، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر بعلم ورفق وحلم!
وإنَ عقدة الانتظار، والترقب للشخص الذي يكون له دور في نشر العلم، لا يليق بالشخصيَّة العلميَّة القياديَّة فـ: "إنَّ جلوس الفرد في مكانه منتظراً أن تصبح مشاكله جزءاً من الماضي ليس إلا كجلوس الفرد في موقف السيارات قائلاً لنفسه: (سأقود عندما تتحول جميع إشارات البلد للون الأخضر) وهذا يعني أن يظل قابعاً في مكانه إلى الأبد".
وفعلاً ؛ فإنَّ المسألة برمَّتها تحتاج إلى عزمة أبيَّة، وهبَّة عمريَّة، لكي يتحقق المقصود، وينال المراد والمطلوب، وصدق من قال:
أيا صاح، هذا الركب قد سار مسرعا *** ونحن قعود ما الذي أنت صانع؟
أترضى بأن تبقى المخلف بعدهم؟ *** صريع الأماني، والغرام ينازع
صحيح أنَّ بلادنا تفتقر للعلماء ولكن هذا لا يعني خلوها من العلماء، وصحيح أنَّ بلادنا تنتشر فيها البدع والأهواء والمخالفات الشرعية لكن هذا لا يفهم منه أنَّ بلادنا لا يوجد بها علماء ودعاة أصحاب منهج صافٍ ومورد عذب نقي، وصحيح أنَّ بلادنا تمتلئ بالكثير من الحزبيات الضيقة، بيد أننا نشهد الكثير من المستقلين ومن المنتمين لبعض الأحزاب الإسلامية الذين نشهد بسعة أفقهم وعلو كعبهم بالعلم الشرعي، وسمو منهجهم المتوازن الرصين.
وعليه فإنَّ هذه الاعتذارات لا يعني إن كانت صحيحة أن نجد لها أذناً صاغية، فإنَّ بناة النهضة العلمية ينبغي عليهم أن تجتمع لديهم هذه الخصال الخمس وهي أن يكونوا: (علماء ـ حكماء ـ مربين ـ أمناء ـ دعاة) باختصار: علماء ربَّانيون... ( ولا تخلو فلسطين منهم)...
ثمّ إن كانوا كذلك فلا بدَّ لهم أن ينزلوا لواقع الناس، ويتفهموا ما لديهم من أفكار ومواقف وآراء، وينظروا في وجوههم حتى إذا رأوا بعض المحبين للعلم، دعوهم لحضور بعض دروسهم التأصيلية، ليكون جيل اليوم الواعد علماء الغد المشرق، ويردد كل واحد منهم ويترنم بما قاله الشاعر:
اطلب العلم ولا تكسل فما *** أبعد الخيرات عن أهل الكسل
لا تقل قد ذهبت أربابه *** كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العدى *** وصلاح القول إصلاح العمل
إن بعض هؤلاء العلماء أو طلاب العلم المتمكنين في فلسطين قد يعتذرون بانشغالاتهم العائليَّة وواجباتهم الوظيفية وضعف إمكاناتهم العلميَّة، ولهؤلاء أقول: إنَّ الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وبما آتاها وبما تطيقه وتستطيعه، إلاَّ أنَّ من الممكن تنظيم الوقت ولو بدرس واحد في الأسبوع يحضره طلاب العلم الشرعي الجادين ولو كانوا خمسة طلاب بشرط أن يكون لديهم قابلية لتلقي العلم، وحفظ المتون التي تشرح، وتحضير الدرس قبل أن يأتوا إليه، وأنا أشهد الله أنَّ هذه الدروس سيشعر العالم والطالب ببركتها أكثر من مائة درس في بعض جامعاتنا في فلسطين التي لو دخلها طالب العلم الشرعي لقسا قلبه من الفتن والمعاصي التي في داخلها، والتي أصبحت عبارة عن عروض أزياء طلابيَّة من كلا الجنسين!!
إنَّ ذلك لا يعني على الإطلاق ترك طلبة العلم للدراسة الجامعيَّة، أو حتَّى التقليل من دراستها؛ فإنَّ هذه الجامعات بحاجة لهم ولعلمهم بعد الاستكمال لدراستهم للتأثير على الطلبة والتلاميذ، بل باتت هذه الجامعات آخر معقل علمي يمكن أن يتعلَّم فيه الطالب في كليَّات الشريعة شيئاً من أمور دينه، ولكنَّ هذا لا يعني الإبقاء والوقوف على الحد والقدر الذي تعلَّمه الطالب، وكذلك فإنَّ شهادة الكثير من أهل العلم في طبيعة المناهج الدراسيَّة في كليات الشريعة بفلسطين فإنَّها ليست بتلك القوَّة العلمية الموجودة في بعض جامعات الدول العربية كالسعودية ومصر والأردن وسورية وغيرها.
فكان لزاماً على طلبة الشريعة أن يتقووا علمياً بدروس شرعيَّة إضافيًّةٍ على بعض العلماء وأساتذة الشريعة، وهو ما نلحظه كذلك من ضعف لديهم في التوجه العلمي، وهو ما يشتكيه بعض أهل العلم في فلسطين من ضعف همم الطلاب في التلقي، أو تقصيرهم بالحفاوة لعلمائهم واحترامهم وتبجيلهم، من خلال نشر علمهم، والثناء عليهم، وحفظ لحومهم أن تنتهك بالقيل والقال، وكذلك بسؤالهم والاستفسار منهم في شؤون دينهم، وهذا ما يذكِّرني بقصَّة سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ حينما (قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان، فقال: "اكروا لي ـ أي استأجروا لي ـ لأخرج من هذا البلد. هذا بلد يموت فيه العلم"، وقد علَّق الإمام الغزالي على ذلك فقال: "وإنَّما قال ذلك حرصاً على فضيلة التعليم واستبقاء العلم به".
فحينما يرى العلماء أنَّ الناس لا تعطيهم قدرهم؛ سواء أكان ذلك من قبيل الاحترام والتبجيل، أو تحريك أذهانهم بالسؤال، والاستمراريَّة في طلب العلم وثني الركب أمامهم والصبر في الاجتهاد في تحصيل العلم؛ فإن لم يجد العلماء ذلك كله فإنَّه سيسبِّب الإحباط لدى بعضهم...
مع أنِّي أرى أنَّ العالم ينبغي عليه أن يكون مشعلاً وداعية إلى الله، وخصوصاً في ظلِّ الوضع الراهن في فلسطين لقلَّة العلماء المتمكِّنين، ومن لا يعاني لم يدرك المعاني؛ كما يقول الحكماء، فلا بَّد من عزيمة ومثابرة للصبر على الطلبة، وقد أدركت بعض مشايخنا ومنهم الشيخ العلاَّمة ابن جبرين ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ كان في بداية تدريسه لطلاَّب العلم لا يجتمع لديه إلاَّ خمسة من طلبة العلم وقد لا يحضرون جميعاً، حتَّى إنَّه في يوم من الأيام وأثناء حرب الخليج!! لم يحضر أحد من طلبته في الدرس فنادى حارس المسجد ـ وقد كان من جنسية هنديَّة ويعرف شيئاً من اللغة العربيَّة ـ وبدأ تعليمه بشيء من آيات الذكر الحكيم، وكان ما كان حتَّى اشتهر ابن جبرين؛ وصارت دروسه يحضرها المئات بل الآلاف إن كان ذلك في دورات علمية.
قال يحيى بن أبي كثير:"لا ينال العلم براحة الجسم، فلا بدَّ من صبر العالم وصبر المتعلم كل منهما على الآخر، فالعالم يصبر في دعوته حتَّى يرى ثمارها يانعة في المستقبل بإذن الله، ويتحرك بعلمه ويبذل من وقته وجهده، ولو كان ذلك على خمسة من طلاَّب العلم يربيهم ويعلمهم، حتَّى يكونوا بعد ذلك خير خلف لزمان ذهب فيه أشياخهم وبقوا هم للناس كي يعلِّموهم أمر دينهم، وأولئك الطلبة يصبرون على تلقيهم العلم،ويقتفون سيرة الجادين من طلبة العلم حتَّى يحصِّلوا العلم المرتجى وينفع الله بهم العباد والبلاد".
تعلم فإن العلم زين لأهله * وفضل وعنوان لكل المحامد
وكن مستفيداً كل يوم زيادة * من العلم واسبح في بحور الفوائد
• دور العلماء في الإصلاح:
لقد شهد الله تعالى بفضلهم فقال: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[سورة آل عمران: 18]، وذكَّر المسلمين بضرورة الرجوع إليهم إن اعترضتهم مسائل مشكلة في أمور دينهم، فقال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[سورة النساء: 83].
ولهذا كان للعلماء فضل كبير وأي فضل حين جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وارثي علم النبوَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: «العلماء هم ورثة الأنبياء»[رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وللشيخ محمد أبو زهرة رأيٌ في الدور المنوط بالعلماء، حيث يعلِّق على الحديث الوارد ذكره فيقول:"وراثة العلماء للأنبياء هي جهاد في إعلان الإسلام، وبيان حقائقه وإزالة الأوهام التي تلحق جوهره، فيُبديْه للناس صافيًا مشرقًا منيرًا، فَيعْشو الناسُ إلى نوره، ويهتدوا بهديه، وإن تلك الوراثة تتقاضى العالِم أن يجاهد، كما جاهد النبيون، ويصبر على البأساء والضراء كما صبروا، وأن يلقَى العنَت ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لقوا، فليست تلك الوراثة شرفًا إلا لمن أخذ في أسبابها، وقام بحقها، وعرف الواجب فيها".
وإنَّ من فضائل قيام العلماء بهذا الواجب المنعقد عليهم، أن يكونوا من ضمن الطائفة المنصورة التي ورد فيها حديث يبشِّرها بوعد الله ونصره ما دامت على ذلك، فنجد في صحيح الإمام البخاري ذلك الحديث الذي يرويه عن معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمَّتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتَّى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
وقد علَّق البخاري على ذلك بقوله: "وهم أهل العلم"، وهذه رواية من روايات حديث الطائفة المنصورة، والتي امتدحها وأثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يستشعر دوره في نشر العلم الشرعي فليعلم إن احتسب الأجر وأخلص النيَّة في ذلك؛ أنَّه سيكون من هذه الطائفة المنصورة، ومن المجددين لهذا الدين في فلسطين المباركة، ورسولنا الهادي صلى الله عليه وسلم يخبرنا ويقول: «إنَّ الله يبعث على رأس كلِّ مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» [أخرجه أبو داود بسند صحيح].
ولهذا نجد الإمام الجليل ابن قيم الجوزيَّة -رحمه الله- يتحدَّث عن أفضليَّة العلم وأنَّ نشره جزء من الجهاد في سبيل الله حيث يقول:" وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد.
ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان؛ وهذا المشارك فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان؛ وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه"....
ثمَّ قال -يرحمه الله-:"والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذ -رضي الله عنه-: عليكم بطلب العلم؛ فإن تعلمه لله خشية ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد".
إنَّ المراد أن يكون لأهل العلم في فلسطين دورهم الريادي وأسلوبهم القيادي في تبليغ هذا الدين لأهل فلسطين، ولقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[سورة آل عمران: 104]، ولهذا فإذا أردنا بحق إصلاح وضع التعليم الشرعي في بلادنا فإنَّنا بحاجة إلى أن تكون لدينا مجابرة على أنفسنا، واستشعار للمسؤوليَّة المناطة بأهل العلم، ومن لم يعانِ لا يدرك المعاني، والنعيم لا يدرك بالنعيم.
يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم وقال أحد علمائهم:
وأَتْعَبُ إن لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً *** وغيري إن لم يَتْعَبِ الناس يتعبِ
ومن جميل ما اطَّلعت عليه ما قاله الشيخ محمد الخضر حسين:"أهل العلم يرقبون كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة، ولا تعد هذه المراقبة وهذا النقد خارجين عن خطة العالم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه كواجب التعليم والإفتاء. وإذا قص علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قص علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويتلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً".
إنَّ للعلماء الربَّانيين الصادقين عظيم الدور، وكبير الأثر، في إصلاح الأمَّة، والسعي بها نحو الكمال، وعدم المداهنة في عرض الدين، فهم إن لم يقولوا الحق، فيستحيل أن يقولوا الباطل أو يرقعوا له، وها هو الشيخ الذي نقلت عنه آنفاً، وهو الشيخ محمد الخضر حسين أحد علماء تونس المعاصرين الكبار، فإنَّه حين انتقل إلى مصر وأعطي جنسيتها وأسندت إليه إدارة الأزهر في بداية الخمسينيات، وحينما تدخَّلت الحكومة في شؤون الأزهر شعر بالإهانة لعدم احترام حريَّة العلماء واحترام ذلك الصرح الكبير فقدَّم استقالته، رحمه الله رحمة واسعة، وحقيق به قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[سورة الأحزاب: 39]، ولهذا فإنَّا نجد أنَّ (أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر بن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحيةً من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مالٌ موفَّرٌ يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة.
وكان محمد بن عبد الله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وهى منها حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.
وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودَّاً واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً.
أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يَعْرِفون في طائفة من العلماء رجاحةَ الرأي، وصرامةَ العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء.
وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبد الرحمن بن القاسم في القاهرة.
وبهذه الأمثلة ندرك شيئاً كبيراً من الدور الغائب لدى بعض أهل العلم في زمننا هذا، حينما نقارن حالهم بحال كثير من أهل العلم السابقين رحمة الله عليهم.
ولكي لا أظلِمَ أو أُظلَم؛ فإنني أقول لا شكَّ أنَّ الصحوة الإسلاميَّة المباركة بشتَّى أطيافها وأحزابها ومجموعاتها أثَّرت وأثَّرت على الواقع الفلسطيني بالعودة إلى الله، والاهتمام بهذا الدين، وتوجيه الناس نحو هذا الدين، ونقول ذلك مقارنة لما كانت عليه فلسطين قبل عشرين أو ثلاثين سنة من غفلة شديدة عن مظاهر الدين والصلاح، فضلاً عن الأخذ بركاب العلم الشرعي، فلعلَّ هذه الصحوة المباركة التي نعايشها تكون مرتقى ـ بإذن الله ـ لما بعده؛ من ضرورة توجيه جمع من طلبة العلم للاهتمام به، والاجتهاد في نيله، وتحمُّل الصعوبات التي تعترض طالبه.
• خطوات عمليَّة في مشاريع النهضة العلميَّة في فلسطين:
لقد أخرج الشيخان في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عَنْ أَبِي مُوسَى ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِي قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِي قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
فأين هم أهل العلم المشمِّرون عن سواعد الجد، لكي يعلِّموا الناس، ويستخلصوا منهم طلبة علم أذكياء نجباء، يكونوا فيما بعد أهل علم وعمل وفضل وهدى، فعَنْ شُرَحبِيلَ أَبِي سَعدٍ قَالَ: دَعا الْحَسَنُ بَنِيهِ وَبَنِي أَخيهِ فَقَالَ: "يا بَنِيَّ وَبَنِي أَخِي إِنَّكُم صغارُ قَومٍ يوشكُ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ آخَرِينَ، فَتَعَلَّمُوا الْعلْمَ؛ فَمَن لَم يَستطِع مِنكُم أَنْ يَروِيَهُ أَو يَحفَظَهُ فَلْيَكْتُبهُ وَلْيَضَعهُ فِي بيتِهِ".
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَنِيهِ فَيَقُولُ: "يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا؛ فَإِنْ تَكُونُوا صِغَارَ قَوْمٍ فَعَسَى أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ آخَرِينَ وَمَا أَقْبَحَ عَلَى شَيْخٍ يُسْأَلُ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ"، وفي رواية: فما خير في كبير ولا علم له، فعليكم بالسنة.
على أهل العلم أنَّ يدركوا بأنَّ على كواهلهم تلقى الأعباء، وعلى عواتقهم يحملون شريعة ربِّ السماء، فليحسنوا نشرها وبثَّها بين أمَّتهم وخصوصاً في هذه الأرض المباركة، كيف ورسول الهدى عليه الصلاة والسلام أخبرنا عن أهل العلم بأنَّهم: "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"، وإنَّ من خير ما يمكن القيام به في ذلك:
1) الإسهام في نشر العلم الشرعي الرصين المؤصَّل في المساجد إذ بالعلم يصلح الله البلاد والعباد، بل لا شيء من العلوم أفضل من العلم الشرعي، ولقد قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ: "واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم، وأعظمها أجراً عند الله يوم القيامة"، فجدير أن يكون لبيوت الله حقها بأن تعمر بذكره، والإعلان عن دورات متخصصة في الحديث والفقه والعقيدة؛ لعلَّ الله تعالى ينفع بها، وتؤتي هذه الدورات أكلها وثمارها يانعة طيبة.
2) استقطاب طلاَّب العلم الشرعي، وإقناعهم بضرورة تلقي العلم، وإعطائهم مفاتيح التلقي للعلم، وأصوله، ومقترحاً للبدء به، ومتابعتهم في ذلك.
3) بناء المعاهد الشرعية التي تدرس العلم بأسلوب يجمع بين الأسلوب التقليدي والعصري، لكي تتكوَّن لدى طالب العلم الأصالة والمعاصرة على حد سواء.
4) تشجيع الحركة العلمية في فلسطين، وبناء مكتبات علمية ضخمة وكبرى، تكون مرجعاً لأهل العلم والفقه والفتوى وطلاب العلم والدعاة عموما.
5) جلب علماء فلسطينيين جمعوا بين العلم والفقه والحكمة، ويكونوا على درجة كبيرة من التخصص في مجال الشريعة من الجامعات العربية والإسلاميَّة، التي يوجد بها عدد من أساتذة كليات الشريعة من الفلسطينيين المواطنين، لعلَّهم يأتون فلسطين وينشروا العلم فيها في داخل الجامعات والمساجد وغيرها.
6) محاولة جمع المتخصصين من أهل العلم في فلسطين وممن يشهد لهم بذلك، على كلمة سواء ليكونوا نواة علمية ، وتعمل على درجة من الاستقلال العلمي بعيداً عن الحزبية التعصبيَّة أو الرسمية الضاغطة أو الإقليمية العرقية، بل يكون الهدف في ذلك الالتقاء على العلم ونشره، فروح المبادرة لجمعهم ضرورة لازمة، وانضواء العلماء تحت هذا السقف المرفوع أمل مرتجى، وحق مبتغى، فمن لها؟!
7) تشجيع المسابقات العلمية، والأفكار النشيطة التطويريَّة لنشر العلم بشتَّى الوسائل والأساليب.
8) تأثير أهل العلم في الحديث للناس عموماً وطلبة العلم خصوصاً، والتركيز والتطرق إلى إقامة العقيدة الصلبة الصحيحة، وضرورة تهذيب النفوس، وتزكية القلوب ببلسم الإيمان والعمل الصالح، والتربية الأخلاقية والإيمانيَّة، وأدب فقه الخلاف، وطريقة النقاش للمسائل العلمية.
9) اهتمام الوسائل الإعلاميَّة بإبراز أهل العلم ومحاورتهم في التخصصات التي يجيدونها، سواء أكان ذلك في وسائل الإعلام المرئيَّة أو المقروءة أو المسموعة، فإنَّنا نلحظ وفي فلسطين بالذات التركيز على إبراز الطاقات السياسية والفكرية والاجتماعيَّة، أمَّا العلماء فهم في واد والإعلام في واد آخر.
10) إقامة مشاريع ودورات علميَة كبرى، مثل الدورات العلمية في الإجازات الصيفية بشرح متون في الفقه والعقيدة والتفسير، ومشروع : (حفظ صحيح البخاري ومسلم)، ومشروع: (حفظ القرآن الكريم مع تفسير مختصر له)، وأن يقوم على ذلك كادر مهني علمي مؤهل لذلك، وممَّا سرَّني وبثَّ دواعي السرور والبهجة إلى قلبي ، ما قرأته أثناء كتابتي لهذه الرسالة وتفحصِّي في شبكة المعلومات العنكبوتيَّة : (الإنترنت) فقد بدأت جمعية ابن باز الخيريَّة الإسلامية الدورة الأولى من نوعها في فلسطين لحفظ السنَّة النبويَّة المطهَّرة، والتي تقيمها في قطاع غزَّة ويشارك في الدورة سبعة عشر طالباً من حفظة كتاب الله عاقدين العزم على حفظ المتفق عليه من صحيحي البخاري ومسلم، وقد ذكر المشرف على الدورة أنَّ من أهدافهم إنشاء جيل ربَّاني يحفظ كتاب الله وسنَّة نبيه ، وأن يجمع طلبة العلم بين حفظ القرآن والسنَّة، راجياً من الله أن يكونوا ممَّن سنّوا سنَّة حسنة.
ولقد سرَّني ما سمعناه من أخبار طيبة بأنَّ في قطاع غزَّة اليوم ما يقارب عشرين ألفاً من الشباب والأشبال والنساء قد انكبوا على حفظ كتاب الله تعالى بمدة لا تتجاوز الستين يوما، وأنَّ في السنة الماضيَّة تخرَّج في هذه المراكز والمخيمات قرابة خمسة آلاف حافظ لكتاب الله، وهذا بصيص من نور، نتمنَّى أن يزداد وتتوسع فكرته لتشمل أرض فلسطين جميعا.
11) محاولة تواصل أهل العلم في فلسطين مع علماء الشريعة بشتَّى أنحاء العالم الإسلامي؛ لأنَّ فلسطين بحكم الحصار والتضييق عليها، يقلّ فيها العلماء، وفي ظل وسائل الاتصال المتطورة يمكننا تسهيل مسألة التواصل بين العلماء وطلبة العلم، وحبذا لو كانت مراكز متميزة ترعى هذا الأمر وتأخذ على عاتقها التواصل مع أهل العلم، وتقريب وجهات النظر بين العلماء والدعاة في فلسطين على كلمة سواء، ولقد كانت سيرة سلفنا الصالح من أهل العلم تضرب أروع الأمثلة في التواصل العلمي فيما بينهم وفي هذا يقول الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن المعلمي:"كان العلماء في العصور الأولى متواصلين على بعد الأقطار وصعوبة الأسفار، فلا تكاد تطلع على ترجمة رجل منهم إلا وجدت فيها ذكر ارتحاله في أوان الطلب إلى الأقطار النائية للقاء العلماء والأخذ عنهم، وسياحته بعد التحصيل، وكلما دخل بلدة سأل عمن بها من العلماء واجتمع بهم واستفاد منهم وأفادهم وبقي يواصلهم طول عمره بالمكاتبة والمراسلة ، وكانت المكاتبات لا تنقطع بين علماء الأقطار لتبادل الأفكار في المسائل العلمية...".
ثمّ َوقف يصف حالة العلماء في الوقت الحاضر قائلاً بحسرة: "فأصبح العلماء في هذا العصر متقاطعين، لا صلة بين علماء هذا القطر، وعلماء القطر الآخر، بل ولا بين علماء القطر الواحد، بل ولا علماء البلد الواحد!!
فقد كان علماء البلد الواحد في العصور السابقة لا يكاد يمر عليهم يوم إلا وهم يجتمعون فيه، ويتذاكرون.
وأما الآن فقد تمر على العالم شهور بل سنون لا يجتمع بعالِمٍ آخر قد يكون معدودا من جيرانه!!، وإذا جمعتهما الجماعة أو الجمعة أو العيد فقد يرجعان من المصلى ولم يلتقيا!!، وإذا التقيا تجنب كل منهما فتح باب المذاكرة: إما رغبة عن العلم، وإما استحقاراً لصاحبه، وإما أنفة أن يظن الناس أن صاحبه أعلم منه، وإما خوفاً من أن تجر المذاكرة إلى المنازعة أو غير ذلك !!".
12) مشاركة أهل العلم المتقنين بنشر علمهم في وسائل الإعلام المرئيَّة والمقروءة والمسموعة، فإنَّ في مشاركتهم خيراً كبيراً، ونشراً لأصول العلم الشرعي، وتبييناً لعموم الناس ما يهمُّهم من أمور دينهم، وصدق الله وهو أصدق القائلين: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[سورة الزمر: 9]، فإنَّ انخراط أهل العلم في هذه الوسائل الإعلاميَّة قيام بحق الله تعالى الذي أوجبه على أهل العلم ودورهم الرئيس في تعليم الأمَّة.
13) انتصار علماء الأمَّة في فلسطين لهموم أهل فلسطين، والدفاع عن حقوقهم الشرعيَّة والمشروعة، وقول كلمة الحق في النوازل المعاصرة التي تلمُّ بهم، وتطوف من حولهم.
14) إن ابتعاث الطلبة المتميزين النابهين لاستكمال دراساتهم خارج فلسطين على أيادي العلماء العاملين ومن ثم رجوعهم ليكونوا علماء أفذاذاً لهو أمرٌ في غاية الأهمية، فيا حبذا لو قامت بعض الجامعات أو المؤسسات الإسلامية في الخارج لاستقبال بعض طلبة العلم المتميزين في فلسطين سنوياً، وقامت على تعليمهم حتى إنهاء الدكتوراه، مع القيام بمتابعتهم لتلقي العلم على أيدي العلماء، لكان بذلك بإذن الله تبارك وتعالى خير كبير سيعود بالنفع على أهل فلسطين.
15) لا بد لنا من تقديم توصية للمؤسَّسات الخيرية والثقافيَّة النافعة، أن يكون لها دور بتبني أعمالاً دعويَّة وعلميَّة وإرشاديَّة في فلسطين، وما أروع الساعة التي يتمّ فيها عقد مؤتمرات وندوات ذات صبغة علميَّة راسخة ، ومنهجيَّة دعويَّة واضحة، لإغاثة العقول والقلوب بدروس العلم، كما هو معمول به في إغاثة الجريح والفقير والجائع.
ولقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل أنَّه قال:"الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس".
16) تخصيص وقفيَّة لطباعة الكتب والمطويات في فلسطين، وذلك للاستعانة بها في مجال التعليم الشرعي، والدعوة إلى الله.
17) تسيير رحلات عمرة علميَّة يكون لها برنامج منظم ومنسَّق مع بعض علماء الحجاز؛ لكي يستفيد طلبة العلم خلالها من لقاء العلماء، وسؤالهم، والتعرف على بعض علماء المسلمين، ويزدادوا شيئاً من العلم في ظلال دورات علمية مكثَّفة.
18) إعادة الروح العلميَّة للمسجد الأقصى المبارك، فكم شكا كثير من أهل العلم المتخصِّصين بضعف الاهتمام من إدارة الأوقاف المسؤولة عن المسجد الأقصى بتعيين علماء متخصصين يقوموا بنشر العلم الشرعي في هذه البقعة المباركة، والتي كانت في مدة سابقة تمتلئ فيها مصاطب العلم، ومواكب الطلاَّب لاقتباس العلوم من مشايخهم،وأمَّا في الوقت الحاضر فإنَّ المسجد الأقصى يتحدَّث فيه كلّ من هبَّ ودب، والأصل أن يكون لأهل العلم في القدس وعلى تخومها مما يحاذيها من الضفَّة الغربيَّة ضغط كبير على الأوقاف؛ لكي تضبط الدروس الملقاة، ولا يعني هذا أن يكون التخويل مسبِّباً للمنع من إلقاء الدروس أو التقييد منها، فالمقصد خلاف ذلك من توسعة مجالس العلم لكي يتلقَّى الكثير من شباب الإسلام وفتياته العلم على أيدي العلماء المتخصصين، ويكون هنالك مساعدة من إدارة الأوقاف لدفع العلماء للتحدث، وإقامة الكراسي الخاصة بهم، وثنى من ليس أهلاً لنشر العلم، لتكون هنالك فائدة لعموم طلبة العلم والحضور، ويشعروا ببركة العلم في بيوت الله، فكيف إذا كان بالمسجد الأقصى المبارك، والذي كانت تجتمع فيه حلقات العلم حتَّى تجاوز المائة حلقة، ولهذا نجد الشيخ عبد الله مخلص المتوفَّى سنة 1947وهو يتحدَّث عن علماء بيت المقدس فيقول:"بيت المقدس الذي قلَّ فيه العلماء، ولم يبق فيه من يشار إليهم بالبنان سوى نفر قليل يعدّون على الأصابع"، ثمَّ ذكر عدداً منهم وواصل حديثه قائلاً: "بعد أن كان المسجد الأقصى وحده يضم تحت سقفه وبين جدرانه المئات من العلماء الأعلام، فسبحان محوِّل الأحوال"، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!!
• وأخيراً:
إنَّ أيَّة أمَّة لا تتقدَّم إلا بعلمائها وأهل الفقه والحكمة فيها، وقد كان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية اهتَزَّ ذلك الوزير ارتياحاً، وضرب يمناه على يسراه قائلاً: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.
إنَّ تعظيم العلم وإعطاء رجالاته حقهم ومستحقهم؛ ذخر وفخر لكل من يقوم بالمسؤوليات تجاه بلده وأمَّته ، وإنَّ من لا يعطي العلم قدره، ولا أهل العلم حقهم، فإنه ولو كان لديه من الإدراك لأهمية ذلك ما له، إلاَّ أنَّ ذلك لا يدل إلا على جهل مدقع وخراب في الفكر بلقع، وقد صدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال:
الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهمُ أدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم نسب *** يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
وإنني من هذا المنطلق أنادي أصحاب المسؤوليات، وعلى رأسهم أهل الحل والعقد من رجالات الإسلام الصادقين ؛ بأن يعطوا لنصيب العلم الشرعي عطاءً واسعاً، وأن يسهموا في نشره بكامل الحرية، وأن يتيحوا جميع الفرص لنيله وطلبه وتعلمه؛ فإنَّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً كما نقل البخاري في صحيحه عن عمر بن عبد العزيز، وإنَّ حاجة الأمة المسلمة للعلم الشرعي أشد من حاجتها للطعام والشراب؛ إذ العلم الشرعي هو المحرك الأساس لكل رأي وفكرة وحركة أما الطعام والشراب فلو اكتفي به في اليوم مرة فلا يضير، لكن إن غفل المرء عن العلم في موقف من المواقف اليومية فإنّهَ يصاب بالخلل الشرعي، فما بالنا ونحن نرزح تحت نير الاحتلال الذي ينفث سمومه والشبهات والشهوات فإنَّ الحاجة تزداد أكثر فأكثر لنشر العلم والمساهمة في ذلك والمساعدة في بثه.
وإنَّ من أولى أولويات المسؤولين أن يهتموا بالبناء العلمي الشرعي الصحيح، وأن يتيحوا الحرية الكاملة والواسعة لطلاب العلم وقاصديه ومريديه؛ لكي ينهلوا من هذا المعين الصافي، ويهنؤوا بعلوم الشريعة العذبة، ويستلهموا مواقفهم واتجاهاتهم بناءً على ما يتوصلون إليه من خلال العلم الشرعي الصحيح، وليس بمواقف رعناء وآراء عرجاء.
أحب أن أنبِّه إلى قضية خطيرة للغاية وهي أنَّ العلم حينما نتحدَّث عنه فإنَّنا لا نريد زيادة من نسخ الكتب تمشي على الأرض، أو تكوين كتلة بشرية تحمل العلوم والمعارف فحسب، بل يكون ذلك مندمجاً في خدمة القضيَّة الفلسطينيَّة علماً وعملاً، وتربية ورباطاً، وجهداً وجهاداً، والعلم الشرعي المفيد هو العلم المبني على العمل؛ لأنَّه تكليف، وفي هذا يقول الشاطبي رحمه الله:"وكل علم ليس تحته عمل فهو باطل"، فالله الله في علم يؤزّنا إلى العمل، وفي معرفة تثير فينا الحركة، ليكون العالم منارة إصلاح، ومشعل هداية، وأمَّا إن أعرضنا عن ذلك، فالويل والثبور: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [سورة محمد: 38].
• وفي الختام:
تحيَّة إلى أهل العلم الذين قاموا بواجبهم في فلسطين حقَّ قيام، وعلَّموا الناس أمور دينهم ودنياهم، حفظهم الله وبارك في جهودهم، وأطال في أعمارهم على طاعته، فجزاكم الله عنَّا كل خير، ولا حرمكم الله الأجر، وحشرنا وإياكم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ... اللهم آمين.
يا سَادة العِلمِ الأصيلِ ومَنْ لَهُـمْ ***أبـداً قلـوبُ المؤمنيـنَ تُفَتّـحُ
أنتم هُداةُ الرَّكْبِ في طلبِ العُـلا *** والنّورُ والعِلمُ الأصيلُ الأوضَـحُ
والذُّخْرُ نِعْمَ الذُّخرُ عِنـدَ مُلِمَّـةٍ *** والفخرُ والشرفُ الذي نَتَوَشّـحُ
أنتم وَرَبِّ البيتِ تـاجُ رُؤوسِنـا*** وبِكُم نُباهي العالميـن ونَرْجَـحُ
ياسَادةَ العِلمِ الأصيـلِ مَكانُكُـمْ ***فَـوْقَ الثُّريَّـا بالمَآثـرِ أَفْيَـحُ
والله المسدد، وهو الموفق، سبحانه وبحمده، وصلى الله وسلم على الهادي البشير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم: خباب بن مروان الحمد
مآآآآآجى