السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الإخوة الأعزاء في الألوكة، شَكَر الله جُهُودكم.
تواجهني مشكلة استعصى عليَّ حلها.
أنا فتاة في العشرين من عمري، خُطبت منذ عدة أشهر، وسيعقد عليَّ بعد شهر تقريبًا، خطيبي يعمل في بلدٍ آخر، وسيأتي لمدة أُسْبُوعين أو ثلاثة تقريبًا ليعقدَ، ثم يقْضي معي بعض الوقت قبل أن يعودَ مرة أخرى إلى بلد عملِه.
علاقتي بخطيبي علاقة ممتازة، والحمد لله لَم يحدُث أيُّ تجاوُزات أثناء فترة الخطوبة، فنحن متفاهمان جدًّا ومتحابان، وأشعر مِن تصرُّفاتِه وكلامِه أنه يُحبُّني، وأنا من ناحيتي أرضيه تمامًا، وأستأذنه وأُطيع أمره، حتى اعتدتُ أن أطيعَه حتى فيما تأباه نفسي، وكذلك أهلي يشجعونني على طاعته وبرِّه ويُحبونه جدًّا، كأنه ابنهم.
أنا أحبه جدًّا جدًّا، ولا أستطيع أن أحْيا ولو للحظة واحدة وهو غاضبٌ مني، وهو أيضًا كذلك.
المشكلة أنه بعد العقْد ستكون له حقوقٌ شرعيَّة، وأهلي يرَوْن أنه لا لُزُوم لها، حتى في التزيُّن له، ويرَون أنَّ الأفضل تأجيلها لبَعْد الزواج.
قُمتُ بشراء بعض فساتين "السواريه"، فرفضتْ أمي أن أرتديها أمامه؛ لأنها حمالات - وهي التي اشتَرَتْها لي بالمناسبة، ثم غيَّرتْ رأيها - وقالت: ارتديها له بعد الزواج، وانتهى الأمرُ بأنَّني سأرتدي شالاً فوقها، حتى لا يظهرَ جسدي.
في المقابل أشعر - بشدة - أنه يَتَرَقَّب جدًّا فترة العقد ليستمتعَ بي، وهذا حقُّه، مع العلم بأننا - نحن الاثنين - نعلم جيدًا حُقُوق العاقد قبل وبعد البناء.
شيء آخر:
كذلك أهلي يرفُضُون أية خُلوة بيننا، فأي جلسة سنجلسها معًا سيكون فيها مَحْرم، مع العلم أن أهلي مُتَدَيِّنون ومثقَّفون، وأمي حافظة للقرآن، وتعلم جيدًا حقوقه، إلا أنها ترفُض ذلك خوفًا عليَّ، وتعسُّفًا وليس جهلاً - هكذا أشعر - ولا أعلم كيف سأجلس معه هكذا.
انتظرتُ طويلاً، وحفظتُ نفسي له؛ لأكونَ بقلبي وعقلي وكلي ملْكًا له، ولكنهم الآن يرغبون في حِرْماني مِنْ حقِّي، فبهذا الوضْع سيستحيل أن أسمعَ منه ولو كلمة: "أحبك"!
ولو أنه سيجلس معي طوال الوقت لصبرتُ، ولكنه سيأتي لمدة أسبوعَيْن فقط؛ ليُكتَبَ علينا الفراقُ مرة أخرى، والحمد لله على كل حال.
ففي خلال الأُسبُوعَيْن لا خروج لنا وحدنا، ولا نجلس وحدنا، ولا ألبس ثيابًا مكشوفة، ولا أدري ما القرارات التي ستستجدُّ بعد ذلك؟!
أنا أَتَعَصَّب جدًّا عند الحوار، فعندما أقول لهم: "سيكون زوجي، وهذا حقه"، تردُّ عليَّ أمي بأني بلا حياء! فأَتَأَلَّم كثيرًا.
والله إنِّي حفظْتُ نفسي لزوجي، بل إنَّ الله حفظني له، وبعد ذلك أُوصَف بأنِّي بلا حياء!
كيف أتعامَل مع أهلي ومع زوجي - إن شاء الله - خاصة أنه يسألني كثيرًا: "لو أمرتُك بعد العقْد بشيءٍ، وأَمَرَكِ أهْلُك بشيءٍ آخر، لِمَن الطاعة؟
فلا أستطيع أنْ أجيبَه، أشعر أنني بين فكَّي رحى، فكلاهما لا يراعيني، فحُبُّ خطيبي لي يعميه أن لي أهلاً، فلا يرغب إلا أن أطيعه، وأهلي يعمون أعينهم أن هذا زوجي، فأنا ابنتهم، وتتوجَّب عليَّ طاعتهم.
ما الذي أفعله لأرضي الطرفَيْن، وأجعل زوجي يسافر وهو راضٍ عنِّي، وأرضي أهلي بلا مشاكل بيننا، فأنا أرغب أن تكونَ فترة العقد أسعد فترة تَمُرُّ علي، ووالله عجزتُ عن الحل.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فإن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المشرفة يُقرران وجوب رد جميع المسائل التي يختلف فيها البشرُ إلى الوحي المتضمن حكم الله - تعالى - وألا يتحاكَم إلى غيره، ولا يلتفت لحظةً عنه، ولا يكون للهوى المتقلب في النفس أثرٌ فيما ورد به الشرعُ؛ قال الله تعالى ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [الشورى: 10].
ومن تلك الأمور المقررة في الشريعة الإسلامية مسألة ولاية الزوجة المعقود عليها إذا كانتْ في بيت أبيها، فالطاعة في تلك الفترة للأهل في المعروف، فيُستأذن الأب، كما لا يجب على الزوجِ أن يُنْفِقَ على زوجته ما دامتْ في بَيْت أهلها، فإذا زُففتِ إليه، وانتقلتِ إلى بيت الزوجية، وجَب عليكِ طاعته في المعروف، ووجبتْ عليه النفقةُ عليكِ بإجماع الأمة؛ فالزوجة يلزمها طاعة أهلها، واستئذانهم ما دامتْ عندهم، وبعد البناء حقوق الزوج وأوامره مُقدَّمة على حقوق الوالدين.
وقد سُئل سماحة الشيخ ابن باز:
هل للمرأة المعقود عليها ولَم يدْخُل بها الزوج - يكون للزوج الحق في أن يقول لها: افعلي كذا ولا تفعلي كذا، وهي في بيت والدها؟ أو ذلك في بعض الأمور يكون له الحق؟
فأجاب: "ما دامتْ عند أهلها، فلا حق له عليها، حتى تنتقل عنده، وتصير في بيته، ما دامت عند أهلها، فهي في حكم أهلها يدبرها أهلها، وليس له حقٌّ عليها في هذه الحال حتى تنتقل، إنما هي زوجة ليس لها أن تتزوجَ عليه، بل زواجه ثبَتَ، وهو زوجها، ومتى تيسَّر دُخُولها عليه، أدخلتْ عليه، وعليها أن تخافَ الله وتُراقبه، وأن تبتعدَ عمَّا حرَّم الله، لكن ليس له حقٌّ أنها تستأذن إذا أرادت الخروج، أو يكون له حق أن يمنعها منَ الخروج؛ لأنها عند والديها الآن، فالأمرُ عند والديها حتى تنتقل إليه". اهـ. موضع الشاهد منه، من "فتاوى نور على الدرب".
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في امرأةٍ تزوَّجَتْ وخرجتْ عن حُكم والديها، فأيهما أفضل: برها لوالديها؟ أم مطاوعة زوجها؟
فأجاب: "المرأة إذا تزوجتْ كان زوجُها أملَك بها مِنْ أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب" - إلى أن قال -: "فليس لها أن تخرجَ من منزله إلا بإذنه، سواء أمرَها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة". اهـ. من "الفتاوى الكبرى"
وما ذكرناه من الحكم وهو ما تقضي به العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة؛ لأن الفتاة في فترة العقد مقيمة في بيت أهلها، وأبوها هو المسؤول عنها ما دامتْ تعيش معه في بيته، فحق الطاعة ثابتٌ للأب لا للزوج، ومثل ذلك يُقال أيضًا في المنْع من المعاشرة بين الزوج وزوجته خلال فترة العقد وقبل الزفاف، فينبغي منْع إقامة أي علاقة جنسيَّة بينهما؛ لما قد يترتَّب عليها من مفاسد لا تخفى تنعكس سلبًا على الفتاة وعلى زوجها، والمرجع في هذه كله هو العُرْف الصحيح المعتبَر في بلاد المسلمين، أن البنت ما دامتْ في بيت أبيها، فإنَّ حقَّ الطاعة ثابتٌ لأبيها لا للعاقد عليها، وكذلك فإنها تستأذن أباها في الخروج من البيت؛ فهو صاحبُ الأمر والنهي لا العاقد عليها، وكذلك جرى العُرفُ في بلادنا على أنه لا يجري بين العاقدين معاشرةٌ جنسية إلا بعد الزفاف، وكذلك جرى العرف في بلادنا أن الأب هو الذي يُنفق على ابنته المعقود عليها ما دامتْ عنده، ولا يطالَب العاقِد بالإنفاق عليها إلا بعد الزفاف، ويجب شرعًا مراعاة هذه الأعراف الصحيحة والتي لا تعارض الأحكام الشرعيَّة، والعرفُ الصحيح هو الذي لا يُصادم النُّصوص الشرعيَّة، كما نصَّ عليه الإمام القَرَافي في "شرح تنقيح الفصول"، وابن عابدين في مجموعة رسائله.
أما الخلوة بعد عقد الزواج والتحدُّث وغيره فجائز للعاقدين، وقد فُصّل ذلك على موقعنا في الفتويين: "حق العاقد"، "ما الذي يباح للزوج من زوجته بعد العقد وقبل الدخول بها".
ولكن إن اشترط الولي على الزوج عدم الخلوة، أو عدم الخروج فترة العقد، فله ذلك، وعلى الزوج الوفاء به، وعدم الغضب أو التذمر؛ ففي الصحيحَيْن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج))، وهي الشروط المتفق عليها في عقد الزواج، إذا كانتْ لا تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا تتعارض مع أصلٍ شرعي.
أما عدم تقبُّلك لتوجيهات والدتك، أو تفهُّم موقفها وتصوُّره، فجَعَلَك تحسبينه محض تعنُّت وأوامر غير معقولة المعنى، وبغير سبب ملجئ - أو أنهم - كما تقولين - (يعمون أعينهم أن هذا زوجي!) - وما إلى ذلك، والحقيقة خلاف هذا كله؛ فالأم والأب هما أسعد الناس بزواج ابنتهما، بل لا يبعد أن سعادتهما تَفُوق سعادة الزوجَيْن! ولا يحتاج هذا إلى برهان، بل أي عقل لَم يدركه فأحرى ألا يدرك الدليل عليه، كما قال الشاعر:
وقال الآخر:
وأنتِ قد ذكرت: أن أهلك يشجعونكِ على طاعته وبره، ويحبونه جدًّا كأنه ابنهم، فماذا بعد ذلك؟! وماذا تريدين أكثر من هذا؟! فحافظي أنت وخطيبك على ذلك الود من الأسرة واحذرا من أن يتبدل!
فما الذي يدفع أمًّا لتقيِّد حرية ابنتها مع وزوجها الذي تحبه جدًّا وتبره كأنه ابنها، إلا المصلحة الراجحة التي تعارض مصلحة إعطاء مطلق الحرية، كما كانتْ تفعل معكِ وأنت صغيرة في كفك عما لا يليق وما لا يجوز، ليس عقوبة ولا قسوة ولا تعنتًا، ولكن تربية رشيدة، فالحب النافع للأبناء هو مزيج من الحب العقلي والقلبي معًا، الذي يُقَدِّم خير الخيرين وإن فاته خير، ويدفع شر الشرين وإن وقع في شر دونه، كما قيل:
فتحلي بالصبر، وتجملي بالحِلْم والأناة والرِّفق بوالديك، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى رفيق يحب الرِّفق، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العنف))؛ رواه أحمد، وأبو داود.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ومَن يَتَصَبَّر يصبره الله))، ولا بأس بمعاودة مناقشة والدتك بهدوء ولُطف؛ لمحاولة إقناعها أن تعطيكم بعض الحرية تحت الرقابة العامة، ولِتتنازل عن مسألة جلوس مَحْرم معكما وذلك بجلوسكما مثلاً في مكانٍ ظاهر، كحجرة المعيشة أو ما شابه.
كما يَجِب على خطيبك أن يتقبَّل تلك القيود، ويتفهم دوافع الأهل، ولا يتعجَّل، فهو أخذكِ من أسرة لها قيمها ونهجها الخاص في الحياة، فليتقبل ذلك برحابة صدر ونعمى عين؛ ولكن الإنسان – غالبًا - يستعجل حظوظه، ولا يقدر على كبح جماحه، وضبط زمامه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، وقال: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، ومِنْ ثَمَّ فلو استطاع تقصير المدة بين العقد والزفاف لكان خيرًا؛ تجنُّبًا لما قد يحدُث في تلك الفترة من تعارُض وجهات النظر إلا إذا وجدت أعذار ومصالح توجب التطويل.
والله نسأل أن يباركَ لكما، ويبارك عليكما، وأن يجمعَ بينكما على خير، آمين
الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الإخوة الأعزاء في الألوكة، شَكَر الله جُهُودكم.
تواجهني مشكلة استعصى عليَّ حلها.
أنا فتاة في العشرين من عمري، خُطبت منذ عدة أشهر، وسيعقد عليَّ بعد شهر تقريبًا، خطيبي يعمل في بلدٍ آخر، وسيأتي لمدة أُسْبُوعين أو ثلاثة تقريبًا ليعقدَ، ثم يقْضي معي بعض الوقت قبل أن يعودَ مرة أخرى إلى بلد عملِه.
علاقتي بخطيبي علاقة ممتازة، والحمد لله لَم يحدُث أيُّ تجاوُزات أثناء فترة الخطوبة، فنحن متفاهمان جدًّا ومتحابان، وأشعر مِن تصرُّفاتِه وكلامِه أنه يُحبُّني، وأنا من ناحيتي أرضيه تمامًا، وأستأذنه وأُطيع أمره، حتى اعتدتُ أن أطيعَه حتى فيما تأباه نفسي، وكذلك أهلي يشجعونني على طاعته وبرِّه ويُحبونه جدًّا، كأنه ابنهم.
أنا أحبه جدًّا جدًّا، ولا أستطيع أن أحْيا ولو للحظة واحدة وهو غاضبٌ مني، وهو أيضًا كذلك.
المشكلة أنه بعد العقْد ستكون له حقوقٌ شرعيَّة، وأهلي يرَوْن أنه لا لُزُوم لها، حتى في التزيُّن له، ويرَون أنَّ الأفضل تأجيلها لبَعْد الزواج.
قُمتُ بشراء بعض فساتين "السواريه"، فرفضتْ أمي أن أرتديها أمامه؛ لأنها حمالات - وهي التي اشتَرَتْها لي بالمناسبة، ثم غيَّرتْ رأيها - وقالت: ارتديها له بعد الزواج، وانتهى الأمرُ بأنَّني سأرتدي شالاً فوقها، حتى لا يظهرَ جسدي.
في المقابل أشعر - بشدة - أنه يَتَرَقَّب جدًّا فترة العقد ليستمتعَ بي، وهذا حقُّه، مع العلم بأننا - نحن الاثنين - نعلم جيدًا حُقُوق العاقد قبل وبعد البناء.
شيء آخر:
كذلك أهلي يرفُضُون أية خُلوة بيننا، فأي جلسة سنجلسها معًا سيكون فيها مَحْرم، مع العلم أن أهلي مُتَدَيِّنون ومثقَّفون، وأمي حافظة للقرآن، وتعلم جيدًا حقوقه، إلا أنها ترفُض ذلك خوفًا عليَّ، وتعسُّفًا وليس جهلاً - هكذا أشعر - ولا أعلم كيف سأجلس معه هكذا.
انتظرتُ طويلاً، وحفظتُ نفسي له؛ لأكونَ بقلبي وعقلي وكلي ملْكًا له، ولكنهم الآن يرغبون في حِرْماني مِنْ حقِّي، فبهذا الوضْع سيستحيل أن أسمعَ منه ولو كلمة: "أحبك"!
ولو أنه سيجلس معي طوال الوقت لصبرتُ، ولكنه سيأتي لمدة أسبوعَيْن فقط؛ ليُكتَبَ علينا الفراقُ مرة أخرى، والحمد لله على كل حال.
ففي خلال الأُسبُوعَيْن لا خروج لنا وحدنا، ولا نجلس وحدنا، ولا ألبس ثيابًا مكشوفة، ولا أدري ما القرارات التي ستستجدُّ بعد ذلك؟!
أنا أَتَعَصَّب جدًّا عند الحوار، فعندما أقول لهم: "سيكون زوجي، وهذا حقه"، تردُّ عليَّ أمي بأني بلا حياء! فأَتَأَلَّم كثيرًا.
والله إنِّي حفظْتُ نفسي لزوجي، بل إنَّ الله حفظني له، وبعد ذلك أُوصَف بأنِّي بلا حياء!
كيف أتعامَل مع أهلي ومع زوجي - إن شاء الله - خاصة أنه يسألني كثيرًا: "لو أمرتُك بعد العقْد بشيءٍ، وأَمَرَكِ أهْلُك بشيءٍ آخر، لِمَن الطاعة؟
فلا أستطيع أنْ أجيبَه، أشعر أنني بين فكَّي رحى، فكلاهما لا يراعيني، فحُبُّ خطيبي لي يعميه أن لي أهلاً، فلا يرغب إلا أن أطيعه، وأهلي يعمون أعينهم أن هذا زوجي، فأنا ابنتهم، وتتوجَّب عليَّ طاعتهم.
ما الذي أفعله لأرضي الطرفَيْن، وأجعل زوجي يسافر وهو راضٍ عنِّي، وأرضي أهلي بلا مشاكل بيننا، فأنا أرغب أن تكونَ فترة العقد أسعد فترة تَمُرُّ علي، ووالله عجزتُ عن الحل.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فإن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المشرفة يُقرران وجوب رد جميع المسائل التي يختلف فيها البشرُ إلى الوحي المتضمن حكم الله - تعالى - وألا يتحاكَم إلى غيره، ولا يلتفت لحظةً عنه، ولا يكون للهوى المتقلب في النفس أثرٌ فيما ورد به الشرعُ؛ قال الله تعالى ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [الشورى: 10].
ومن تلك الأمور المقررة في الشريعة الإسلامية مسألة ولاية الزوجة المعقود عليها إذا كانتْ في بيت أبيها، فالطاعة في تلك الفترة للأهل في المعروف، فيُستأذن الأب، كما لا يجب على الزوجِ أن يُنْفِقَ على زوجته ما دامتْ في بَيْت أهلها، فإذا زُففتِ إليه، وانتقلتِ إلى بيت الزوجية، وجَب عليكِ طاعته في المعروف، ووجبتْ عليه النفقةُ عليكِ بإجماع الأمة؛ فالزوجة يلزمها طاعة أهلها، واستئذانهم ما دامتْ عندهم، وبعد البناء حقوق الزوج وأوامره مُقدَّمة على حقوق الوالدين.
وقد سُئل سماحة الشيخ ابن باز:
هل للمرأة المعقود عليها ولَم يدْخُل بها الزوج - يكون للزوج الحق في أن يقول لها: افعلي كذا ولا تفعلي كذا، وهي في بيت والدها؟ أو ذلك في بعض الأمور يكون له الحق؟
فأجاب: "ما دامتْ عند أهلها، فلا حق له عليها، حتى تنتقل عنده، وتصير في بيته، ما دامت عند أهلها، فهي في حكم أهلها يدبرها أهلها، وليس له حقٌّ عليها في هذه الحال حتى تنتقل، إنما هي زوجة ليس لها أن تتزوجَ عليه، بل زواجه ثبَتَ، وهو زوجها، ومتى تيسَّر دُخُولها عليه، أدخلتْ عليه، وعليها أن تخافَ الله وتُراقبه، وأن تبتعدَ عمَّا حرَّم الله، لكن ليس له حقٌّ أنها تستأذن إذا أرادت الخروج، أو يكون له حق أن يمنعها منَ الخروج؛ لأنها عند والديها الآن، فالأمرُ عند والديها حتى تنتقل إليه". اهـ. موضع الشاهد منه، من "فتاوى نور على الدرب".
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في امرأةٍ تزوَّجَتْ وخرجتْ عن حُكم والديها، فأيهما أفضل: برها لوالديها؟ أم مطاوعة زوجها؟
فأجاب: "المرأة إذا تزوجتْ كان زوجُها أملَك بها مِنْ أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب" - إلى أن قال -: "فليس لها أن تخرجَ من منزله إلا بإذنه، سواء أمرَها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة". اهـ. من "الفتاوى الكبرى"
وما ذكرناه من الحكم وهو ما تقضي به العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة؛ لأن الفتاة في فترة العقد مقيمة في بيت أهلها، وأبوها هو المسؤول عنها ما دامتْ تعيش معه في بيته، فحق الطاعة ثابتٌ للأب لا للزوج، ومثل ذلك يُقال أيضًا في المنْع من المعاشرة بين الزوج وزوجته خلال فترة العقد وقبل الزفاف، فينبغي منْع إقامة أي علاقة جنسيَّة بينهما؛ لما قد يترتَّب عليها من مفاسد لا تخفى تنعكس سلبًا على الفتاة وعلى زوجها، والمرجع في هذه كله هو العُرْف الصحيح المعتبَر في بلاد المسلمين، أن البنت ما دامتْ في بيت أبيها، فإنَّ حقَّ الطاعة ثابتٌ لأبيها لا للعاقد عليها، وكذلك فإنها تستأذن أباها في الخروج من البيت؛ فهو صاحبُ الأمر والنهي لا العاقد عليها، وكذلك جرى العُرفُ في بلادنا على أنه لا يجري بين العاقدين معاشرةٌ جنسية إلا بعد الزفاف، وكذلك جرى العرف في بلادنا أن الأب هو الذي يُنفق على ابنته المعقود عليها ما دامتْ عنده، ولا يطالَب العاقِد بالإنفاق عليها إلا بعد الزفاف، ويجب شرعًا مراعاة هذه الأعراف الصحيحة والتي لا تعارض الأحكام الشرعيَّة، والعرفُ الصحيح هو الذي لا يُصادم النُّصوص الشرعيَّة، كما نصَّ عليه الإمام القَرَافي في "شرح تنقيح الفصول"، وابن عابدين في مجموعة رسائله.
أما الخلوة بعد عقد الزواج والتحدُّث وغيره فجائز للعاقدين، وقد فُصّل ذلك على موقعنا في الفتويين: "حق العاقد"، "ما الذي يباح للزوج من زوجته بعد العقد وقبل الدخول بها".
ولكن إن اشترط الولي على الزوج عدم الخلوة، أو عدم الخروج فترة العقد، فله ذلك، وعلى الزوج الوفاء به، وعدم الغضب أو التذمر؛ ففي الصحيحَيْن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج))، وهي الشروط المتفق عليها في عقد الزواج، إذا كانتْ لا تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا تتعارض مع أصلٍ شرعي.
أما عدم تقبُّلك لتوجيهات والدتك، أو تفهُّم موقفها وتصوُّره، فجَعَلَك تحسبينه محض تعنُّت وأوامر غير معقولة المعنى، وبغير سبب ملجئ - أو أنهم - كما تقولين - (يعمون أعينهم أن هذا زوجي!) - وما إلى ذلك، والحقيقة خلاف هذا كله؛ فالأم والأب هما أسعد الناس بزواج ابنتهما، بل لا يبعد أن سعادتهما تَفُوق سعادة الزوجَيْن! ولا يحتاج هذا إلى برهان، بل أي عقل لَم يدركه فأحرى ألا يدرك الدليل عليه، كما قال الشاعر:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ |
وقال الآخر:
طَلَبْتَ عَلَى مَكَارِمِنَا دَلِيلاً مَتَى احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ |
وأنتِ قد ذكرت: أن أهلك يشجعونكِ على طاعته وبره، ويحبونه جدًّا كأنه ابنهم، فماذا بعد ذلك؟! وماذا تريدين أكثر من هذا؟! فحافظي أنت وخطيبك على ذلك الود من الأسرة واحذرا من أن يتبدل!
فما الذي يدفع أمًّا لتقيِّد حرية ابنتها مع وزوجها الذي تحبه جدًّا وتبره كأنه ابنها، إلا المصلحة الراجحة التي تعارض مصلحة إعطاء مطلق الحرية، كما كانتْ تفعل معكِ وأنت صغيرة في كفك عما لا يليق وما لا يجوز، ليس عقوبة ولا قسوة ولا تعنتًا، ولكن تربية رشيدة، فالحب النافع للأبناء هو مزيج من الحب العقلي والقلبي معًا، الذي يُقَدِّم خير الخيرين وإن فاته خير، ويدفع شر الشرين وإن وقع في شر دونه، كما قيل:
وَقَسَا لِيَزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِمًا فَلْيَقْسُ أَحْيَانًا عَلَى مَنْ يَرْحَمُ |
فتحلي بالصبر، وتجملي بالحِلْم والأناة والرِّفق بوالديك، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى رفيق يحب الرِّفق، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العنف))؛ رواه أحمد، وأبو داود.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ومَن يَتَصَبَّر يصبره الله))، ولا بأس بمعاودة مناقشة والدتك بهدوء ولُطف؛ لمحاولة إقناعها أن تعطيكم بعض الحرية تحت الرقابة العامة، ولِتتنازل عن مسألة جلوس مَحْرم معكما وذلك بجلوسكما مثلاً في مكانٍ ظاهر، كحجرة المعيشة أو ما شابه.
كما يَجِب على خطيبك أن يتقبَّل تلك القيود، ويتفهم دوافع الأهل، ولا يتعجَّل، فهو أخذكِ من أسرة لها قيمها ونهجها الخاص في الحياة، فليتقبل ذلك برحابة صدر ونعمى عين؛ ولكن الإنسان – غالبًا - يستعجل حظوظه، ولا يقدر على كبح جماحه، وضبط زمامه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، وقال: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، ومِنْ ثَمَّ فلو استطاع تقصير المدة بين العقد والزفاف لكان خيرًا؛ تجنُّبًا لما قد يحدُث في تلك الفترة من تعارُض وجهات النظر إلا إذا وجدت أعذار ومصالح توجب التطويل.
والله نسأل أن يباركَ لكما، ويبارك عليكما، وأن يجمعَ بينكما على خير، آمين
الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
مآآآآجى