كتبه/ أحمد شكري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله -تعالى- ما أنزل الكتب ولا أرسل الرسل ولا فرض الفرائض وشرع الشرائع وحدَّ الحدود لينتفع بشيء من ذلك -سبحانه وبحمده-؛ فهو الغني الحميد؛ وإنما جعل ذلك لنفع عباده؛ حتى تزكو نفوسهم، وتطهر قلوبهم، وتسمو أرواحهم، ويفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (فاطر:18)، وقال في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) (رواه مسلم).
ولذلك فمن أعظم نعم الله -تعالى- علينا أن أرسل إلينا نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل عليه كلامه، وجعل خلاصة دعوته تزكية النفوس، فقال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)، ولذلك فمن الضروري بيان أهمية الجانب التربوي كركن أساس من أركان الشخصية المسلمة المنشودة.
ضرورة الاهتمام بالجانب التربوي وتزكية النفوس:
ربط الله -تعالى- بين الفلاح في الدنيا والآخرة وتزكية النفس؛ فقال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى:14)، وأكد -سبحانه- هذه الحقيقة فأقسم عليها بأطول قسم في القران الكريم، فقال -تعالى-: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا . وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا . وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا . وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا . وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا . وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:1-10).
وتدعو الضرورة الشرعية والضرورة الواقعية إلى الاهتمام بالتزكية:
أما الضرورة الشرعية:
فقد خلق الله -تعالى- الخير والشر وخلطهما في الدنيا، ثم قدّر أن يكون الخير بحذافيره في الجنة، وأن يكون الشر بحذافيره في النار، فمن أفلح أن يُنَقِّيَ نفسه من الشرور التي فيها دخل الجنة لأول وهلة، ومن طغت على نفسه الشرور استحق النار -والعياذ بالله-، ومَن كان فيه مِن هذا وهذا دخل النار بعض الوقت لتتم تنقيته مما بقي فيه من الشرور -إلا أن يشاء الله-، فنجاة العبد من النار وفوزه بالجنة منوط بمدى نجاحه في تزكية نفسه.
بل الأمر أبعد من ذلك؛ فدرجات العبد في الجنة على قدر تزكيته لنفسه؛ فكلما زكَّى نفسه في الدنيا أكثر كلما ارتفعت درجته في الجنة أعلى، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طه:75-76)، وفي هذه الآيات التصريح بكون التزكية إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، وقد ربط الله -تعالى- بين كل خير في الدنيا والآخرة من جهة والإيمان والعمل الصالح من جهة؛ فالعمل الصالح هو سبب دخول الجنة، كما قال -تعالى-: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الزخرف:72).
وكذلك فإن حقيقة التزكية هي الوصول بالنفس إلى التقوى، كما قال -تعالى-: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:8-10)، أي: فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنماها وأعلاها بالتقوى، وخسر من نقصها وأخفاها بالفجور، فربط الله -تعالى- بين التزكية والتقوى كما ربط بين التدسية والفجور، فالعملية التربوية هي تزكية النفس، والمقصد منها تحقيق التقوى، ومن هنا تظهر أهمية تزكية النفس وتربيتها على معاني التقوى؛ حيث ربط الله -تعالى- كل خير في الدنيا والآخرة بتحقيق التقوى؛ فالمتقين يحبهم الله -تعالى-، ويدخلهم الجنة، ويرفع درجاتهم فيها، مع ما يحفظهم في الدنيا ويتولاهم.
وأما الضرورة الواقعية فتفصيلها كالتالي:
أولاً: واقع العالم من حولنا:
وذلك لانتشار الحضارة الغربية العوراء التي تسببت في هذا الطغيان المادي المعاصر، وما نشأ عنه من جفاف الروح والانسياق وراء الشهوات، حتى لقد فقد كل شيء طعمه ومذاقه، ونضرب لذلك مثلاً واحدًا لعدم الإطالة:
خسوف الشمس: هو في الحقيقة رسالة ربانية للعباد لتجديد التوبة واستئناف المسير إلى الله -تعالى- على الوجه الذي يُرضيه، أما الآن فمع التفسير المادي لهذه الظاهرة بأنها مجرد اعتراض القمر بين الشمس والأرض لم يعد لقلوب الناس الآن تلك المقدرة على فهم تلك الرسائل لإيقاظ معاني الخوف من الله -تعالى-، وكأن قدرتهم على التنبؤ بموعد الكسوف تنفي كونه رسالة ربانية لتخويف العباد، مع أن الله -تعالى- هو الذي خلق الأرض والشمس والقمر، وهو الذي قدَّر مسار كل منها، وهو الذي قدر موعد حصول هذا الكسوف.
ثانيًا: واقع العالم الإسلامي:
يعاني العالم الإسلامي من بُعد شديد عن الإسلام مما يجعل التمسك بالإسلام عسيرًا إلا على مَن يسره الله عليه، وهنا نحتاج إلى بناء أفراد أقوياء قادرين بعون الله -تعالى- على الالتزام بالإسلام وسط هذه الغربة.
ثالثًا: واقع الملتزمين بالإسلام:
انتشر بين الملتزمين ظاهرة "الالتزام الأجوف" أو بتعبير آخر "الالتزام الظاهري"، فتجد بين الملتزمين أنواعًا من السلوكيات المرفوضة مع التقصير الظاهر في النوافل والأوراد فضلاً عن بعض الفرائض أيضًا، وما يقومون به من أنواع الطاعات يؤدونه أداءً روتينيًّا بحيث تحولت العبادة إلى عادة، مما يؤكد ضرورة الاهتمام بالجانب التربوي والتركيز على تزكية النفس؛ لمواجهة ظاهرة التضخم الكمي في أعداد الملتزمين على حساب النمو الكيفي.
رابعًا: واقع الدعاة إلى الله -تعالى- وقادة الصحوة:
كثير من قادة الصحوة ينصبُّ اهتمامهم على الجانب العلمي مع إهمال الجانب التربوي، وليس الخطأ هو في الاهتمام بالجانب العلمي؛ فهو أمر مطلوب؛ وإنما الخطأ في إهمال الجانب التربوي، فتجد من يشرح لبعض الطلبة فروع علم مصطلح الحديث -مثلاً- وهو لم يربيهم على الورع عن الغيبة والنميمة التي قد تهلكهم وتمزق الصف من حوله، وتجد من يظل نهاره أجمع يرد على شبهات الجهمية والأشاعرة في نفي النزول الإلهي، ثم تجده في وقت النزول الإلهي نائمًا، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا بأن الله -تعالى- ينزل إلى السماء الدنيا لا ليرد على الجهمية، ولا ليعلمنا أن صفات الله -تعالى- منها الذاتية ومنها الفعلية؛ وإنما كان هدفه الواضح الذي لا غموض فيه أن يدعونا للقيام في هذه الساعة والاجتهاد في الدعاء فيها، ونسأل الله -تعالى- أن يسترنا ولا يفضحنا، والحق أن طالب العلم هو أحوج الناس إلى تزكية النفس؛ إذ هي أكبر مُعين على حفظ العلم وعمق الفهم، وبها يورثه الله علم ما لم يعلم، ويبارك له في وقته وعلمه.
وبعض الدعاة ينصبُّ اهتمامهم على الجانب الدعوي والحركي مع إهمال الجانب التربوي، وليس الخطأ هو في الاهتمام بالجانب الحركي والدعوي؛ فهو أمر مطلوب؛ وإنما الخطأ في إهمال الجانب التربوي، فتجد من يدعو شابًّا إلى الخروج للدعوة وهو ما زال لا يحسن أركان الإسلام، وتجد من يخرج إلى الدعوة ويرهق نفسه فيها ثم يضيع عليه ورده من القرآن أو حتى بعض الصلوات مع الجماعة، هذا فضلاً عن حب الظهور وغير ذلك من الآفات المهلكة، والحق أن تزكية النفس هي أعظم أسباب نجاح الدعوة وانشراح صدور الناس لها؛ إذ الدعوة بالقدوة قبل الدعوة بالكلمة، والداعية وثيق الصلة بالله يبارك الله -تعالى- في جهده ويضع له القبول في الأرض.
حتى من اتخذوا تيار الجهاد في سبيل الله -تعالى- من أفراد الصحوة لجهاد الأمريكان ومن شابههم في أفغانستان والعراق وغيرها تجد أن إهمال الجانب التربوي أدى بهم إلى انحرافات في غاية الخطورة بدأت باحتقار العلماء، وكذلك قيامهم بأعمال لمجرد إثبات الوجود، إلى أن تحوَّل الأمر عندهم من أعظم القربات -وهو الجهاد- إلى أعظم المنكرات وهي الجرأة على الدماء، نسأل الله -تعالى- أن يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.
والحق أن القران الكريم قد ربط بين نجاح المجاهدين في تزكية أنفسهم وتوفيقهم في النصر على عدوهم، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45).
وقد بين الله -تعالى- السبيل لتغيير هذا الواقع المرير على كل المستويات، وهو يبدأ من إصلاح النفس، كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
وتتجلى أهمية هذا الموضوع من خلال بيان اهتمام السلف الصالح بتزكية النفوس؛ فقد اعتنوا بالجانب السلوكي والأخلاقي علمًا وفقهًا، كما حققوه عملاً وهديًا، فأفردوا كتبًا مستقلة في الزهد والرقائق ونحوهما، وكذلك ضمنوها كتب السنة المرتبة على الأبواب، بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة في ثنايا كتب العقيدة، كما قال الإسماعيلي (ت371هـ) في اعتقاد أهل السنة: "ويرون مجانبة البدعة، والآثام، والفخر، والتكبر، والعجب، والخيانة، والدغل، والاغتيال، والسعاية، ويرون كف الأذى، وترك الغيبة".
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني (ت449هـ) في عقيدة السلف: "ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتوبات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات، ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، ويتحابون في الدين، ويتباغضون فيه".
وهكذا يظهر مدى عناية السلف بالبناء التربوي، وأن المنهج السلفي يشمل الظاهر والباطن والعقيدة والسلوك، ولذلك فمن ضروريات التمسك بالمنهج السلفي أن نعود إلى ما كان عليه السلف من قوة الإيمان وروحانية التعبد وسموّ الأخلاق.
فاللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، واصرف عنا سيئها؛ لا يهدي لصالحها ولا يصرف عن سيئها إلا أنت، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله -تعالى- ما أنزل الكتب ولا أرسل الرسل ولا فرض الفرائض وشرع الشرائع وحدَّ الحدود لينتفع بشيء من ذلك -سبحانه وبحمده-؛ فهو الغني الحميد؛ وإنما جعل ذلك لنفع عباده؛ حتى تزكو نفوسهم، وتطهر قلوبهم، وتسمو أرواحهم، ويفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (فاطر:18)، وقال في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) (رواه مسلم).
ولذلك فمن أعظم نعم الله -تعالى- علينا أن أرسل إلينا نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل عليه كلامه، وجعل خلاصة دعوته تزكية النفوس، فقال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)، ولذلك فمن الضروري بيان أهمية الجانب التربوي كركن أساس من أركان الشخصية المسلمة المنشودة.
ضرورة الاهتمام بالجانب التربوي وتزكية النفوس:
ربط الله -تعالى- بين الفلاح في الدنيا والآخرة وتزكية النفس؛ فقال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى:14)، وأكد -سبحانه- هذه الحقيقة فأقسم عليها بأطول قسم في القران الكريم، فقال -تعالى-: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا . وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا . وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا . وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا . وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا . وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:1-10).
وتدعو الضرورة الشرعية والضرورة الواقعية إلى الاهتمام بالتزكية:
أما الضرورة الشرعية:
فقد خلق الله -تعالى- الخير والشر وخلطهما في الدنيا، ثم قدّر أن يكون الخير بحذافيره في الجنة، وأن يكون الشر بحذافيره في النار، فمن أفلح أن يُنَقِّيَ نفسه من الشرور التي فيها دخل الجنة لأول وهلة، ومن طغت على نفسه الشرور استحق النار -والعياذ بالله-، ومَن كان فيه مِن هذا وهذا دخل النار بعض الوقت لتتم تنقيته مما بقي فيه من الشرور -إلا أن يشاء الله-، فنجاة العبد من النار وفوزه بالجنة منوط بمدى نجاحه في تزكية نفسه.
بل الأمر أبعد من ذلك؛ فدرجات العبد في الجنة على قدر تزكيته لنفسه؛ فكلما زكَّى نفسه في الدنيا أكثر كلما ارتفعت درجته في الجنة أعلى، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طه:75-76)، وفي هذه الآيات التصريح بكون التزكية إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، وقد ربط الله -تعالى- بين كل خير في الدنيا والآخرة من جهة والإيمان والعمل الصالح من جهة؛ فالعمل الصالح هو سبب دخول الجنة، كما قال -تعالى-: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الزخرف:72).
وكذلك فإن حقيقة التزكية هي الوصول بالنفس إلى التقوى، كما قال -تعالى-: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:8-10)، أي: فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنماها وأعلاها بالتقوى، وخسر من نقصها وأخفاها بالفجور، فربط الله -تعالى- بين التزكية والتقوى كما ربط بين التدسية والفجور، فالعملية التربوية هي تزكية النفس، والمقصد منها تحقيق التقوى، ومن هنا تظهر أهمية تزكية النفس وتربيتها على معاني التقوى؛ حيث ربط الله -تعالى- كل خير في الدنيا والآخرة بتحقيق التقوى؛ فالمتقين يحبهم الله -تعالى-، ويدخلهم الجنة، ويرفع درجاتهم فيها، مع ما يحفظهم في الدنيا ويتولاهم.
وأما الضرورة الواقعية فتفصيلها كالتالي:
أولاً: واقع العالم من حولنا:
وذلك لانتشار الحضارة الغربية العوراء التي تسببت في هذا الطغيان المادي المعاصر، وما نشأ عنه من جفاف الروح والانسياق وراء الشهوات، حتى لقد فقد كل شيء طعمه ومذاقه، ونضرب لذلك مثلاً واحدًا لعدم الإطالة:
خسوف الشمس: هو في الحقيقة رسالة ربانية للعباد لتجديد التوبة واستئناف المسير إلى الله -تعالى- على الوجه الذي يُرضيه، أما الآن فمع التفسير المادي لهذه الظاهرة بأنها مجرد اعتراض القمر بين الشمس والأرض لم يعد لقلوب الناس الآن تلك المقدرة على فهم تلك الرسائل لإيقاظ معاني الخوف من الله -تعالى-، وكأن قدرتهم على التنبؤ بموعد الكسوف تنفي كونه رسالة ربانية لتخويف العباد، مع أن الله -تعالى- هو الذي خلق الأرض والشمس والقمر، وهو الذي قدَّر مسار كل منها، وهو الذي قدر موعد حصول هذا الكسوف.
ثانيًا: واقع العالم الإسلامي:
يعاني العالم الإسلامي من بُعد شديد عن الإسلام مما يجعل التمسك بالإسلام عسيرًا إلا على مَن يسره الله عليه، وهنا نحتاج إلى بناء أفراد أقوياء قادرين بعون الله -تعالى- على الالتزام بالإسلام وسط هذه الغربة.
ثالثًا: واقع الملتزمين بالإسلام:
انتشر بين الملتزمين ظاهرة "الالتزام الأجوف" أو بتعبير آخر "الالتزام الظاهري"، فتجد بين الملتزمين أنواعًا من السلوكيات المرفوضة مع التقصير الظاهر في النوافل والأوراد فضلاً عن بعض الفرائض أيضًا، وما يقومون به من أنواع الطاعات يؤدونه أداءً روتينيًّا بحيث تحولت العبادة إلى عادة، مما يؤكد ضرورة الاهتمام بالجانب التربوي والتركيز على تزكية النفس؛ لمواجهة ظاهرة التضخم الكمي في أعداد الملتزمين على حساب النمو الكيفي.
رابعًا: واقع الدعاة إلى الله -تعالى- وقادة الصحوة:
كثير من قادة الصحوة ينصبُّ اهتمامهم على الجانب العلمي مع إهمال الجانب التربوي، وليس الخطأ هو في الاهتمام بالجانب العلمي؛ فهو أمر مطلوب؛ وإنما الخطأ في إهمال الجانب التربوي، فتجد من يشرح لبعض الطلبة فروع علم مصطلح الحديث -مثلاً- وهو لم يربيهم على الورع عن الغيبة والنميمة التي قد تهلكهم وتمزق الصف من حوله، وتجد من يظل نهاره أجمع يرد على شبهات الجهمية والأشاعرة في نفي النزول الإلهي، ثم تجده في وقت النزول الإلهي نائمًا، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا بأن الله -تعالى- ينزل إلى السماء الدنيا لا ليرد على الجهمية، ولا ليعلمنا أن صفات الله -تعالى- منها الذاتية ومنها الفعلية؛ وإنما كان هدفه الواضح الذي لا غموض فيه أن يدعونا للقيام في هذه الساعة والاجتهاد في الدعاء فيها، ونسأل الله -تعالى- أن يسترنا ولا يفضحنا، والحق أن طالب العلم هو أحوج الناس إلى تزكية النفس؛ إذ هي أكبر مُعين على حفظ العلم وعمق الفهم، وبها يورثه الله علم ما لم يعلم، ويبارك له في وقته وعلمه.
وبعض الدعاة ينصبُّ اهتمامهم على الجانب الدعوي والحركي مع إهمال الجانب التربوي، وليس الخطأ هو في الاهتمام بالجانب الحركي والدعوي؛ فهو أمر مطلوب؛ وإنما الخطأ في إهمال الجانب التربوي، فتجد من يدعو شابًّا إلى الخروج للدعوة وهو ما زال لا يحسن أركان الإسلام، وتجد من يخرج إلى الدعوة ويرهق نفسه فيها ثم يضيع عليه ورده من القرآن أو حتى بعض الصلوات مع الجماعة، هذا فضلاً عن حب الظهور وغير ذلك من الآفات المهلكة، والحق أن تزكية النفس هي أعظم أسباب نجاح الدعوة وانشراح صدور الناس لها؛ إذ الدعوة بالقدوة قبل الدعوة بالكلمة، والداعية وثيق الصلة بالله يبارك الله -تعالى- في جهده ويضع له القبول في الأرض.
حتى من اتخذوا تيار الجهاد في سبيل الله -تعالى- من أفراد الصحوة لجهاد الأمريكان ومن شابههم في أفغانستان والعراق وغيرها تجد أن إهمال الجانب التربوي أدى بهم إلى انحرافات في غاية الخطورة بدأت باحتقار العلماء، وكذلك قيامهم بأعمال لمجرد إثبات الوجود، إلى أن تحوَّل الأمر عندهم من أعظم القربات -وهو الجهاد- إلى أعظم المنكرات وهي الجرأة على الدماء، نسأل الله -تعالى- أن يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.
والحق أن القران الكريم قد ربط بين نجاح المجاهدين في تزكية أنفسهم وتوفيقهم في النصر على عدوهم، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45).
وقد بين الله -تعالى- السبيل لتغيير هذا الواقع المرير على كل المستويات، وهو يبدأ من إصلاح النفس، كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
وتتجلى أهمية هذا الموضوع من خلال بيان اهتمام السلف الصالح بتزكية النفوس؛ فقد اعتنوا بالجانب السلوكي والأخلاقي علمًا وفقهًا، كما حققوه عملاً وهديًا، فأفردوا كتبًا مستقلة في الزهد والرقائق ونحوهما، وكذلك ضمنوها كتب السنة المرتبة على الأبواب، بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة في ثنايا كتب العقيدة، كما قال الإسماعيلي (ت371هـ) في اعتقاد أهل السنة: "ويرون مجانبة البدعة، والآثام، والفخر، والتكبر، والعجب، والخيانة، والدغل، والاغتيال، والسعاية، ويرون كف الأذى، وترك الغيبة".
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني (ت449هـ) في عقيدة السلف: "ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتوبات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات، ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، ويتحابون في الدين، ويتباغضون فيه".
وهكذا يظهر مدى عناية السلف بالبناء التربوي، وأن المنهج السلفي يشمل الظاهر والباطن والعقيدة والسلوك، ولذلك فمن ضروريات التمسك بالمنهج السلفي أن نعود إلى ما كان عليه السلف من قوة الإيمان وروحانية التعبد وسموّ الأخلاق.
فاللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، واصرف عنا سيئها؛ لا يهدي لصالحها ولا يصرف عن سيئها إلا أنت، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مآآآآجى