شهرُ رمضان شهْر التَّقْوى والصَّوْم، يُعين العَبْد على نفسه، فيلزمها التقوى، ولقد جاءتْ آيات الصيام في سورة "البقرة" مُفْتتحة بقَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، لذلك كان صومُ رمضان تَهْذيبًا وتدريبًا للمسلم، وتعليمًا وتَمْرينًا له على الصبر وحُسْن الخُلُق، الذي يبقى له مصاحبًا في سائر حياته، لذلك جاءتْ أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تُبَيِّن المعنى التربوي في الصوم، منها ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن لَم يدعْ قَوْل الزُّور والعمَل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»، أخرجه البخاري (1903،6057).
وعنه -رضي اللَّه عنه- من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء فيه: «وإذا كان يوم صَوْم أحدكم، فلا يرفُث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فلْيَقُل: إنِّي امرُؤ صائم»، وكذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبداللَّه بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن استطاع منكم الباءَة فلْيَتَزَوَّج، فإنه أغَضُّ للبَصَر، وأحصن للفرْج، ومَن لَم يستطعْ فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء».
لذلك كان الصَّوْم كفَّارة، لحديث البخاري عن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تُكَفِّرها الصلاة والصيام والصدَقة».
وجعل الله للصائمين بابًا في الجنة اسمه الرَّيَّان، لما أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ في الجنَّة بابًا يُقال له: الرَّيَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِق، فلم يدخل منه أحدٌ».
وفي رواية للبخاري: «في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمَّى الرَّيَّان، لا يدخله إلا الصائمون».
فالصوم تربية للمسلم في دُنياه، وعَوْن له على تملُّك شهواته وضبْطها، وكذلك منْزلة له عند ربِّه، وفتح لبابٍ من أبواب الجنة يدخُل منه، فإن كان الصومُ المفروض في رمضان، فالصَّوم مشروع في غير رمضان، ولا يحرم إلا في العيدين ويوم الشك، ويُكره في أيَّام التشريق، ويُكره إفراد الجمعة وإفراد السبت نافلة لغير صوم مُعتاد.
وينقسم الصوم في غير رمضان إلى قسمَيْن:
صوم نافلة، وصوم فريضة.
أولاً: صوم النافلة:
وهو منَ الخصال المكفِّرة، لحديث حُذَيفة -رضي الله عنه- «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تُكَفِّرها الصلاة والصيام والصدَقة»، ففي مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يُكَفِّر السنَة الماضية والباقية»، قال: وسُئل عن صَوْم يوم عاشُوراء، فقال: «يُكَفِّر السنة الماضية»، وفي حديث الشيخَيْن عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «ما مِن عبد يصوم يومًا في سبيل اللَّه، إلا باعد اللَّه بذلك وجهه عن النار سبعين خريفًا»، وحديث الترمذي عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن صام يومًا في سبيل اللَّه، جعل اللَّه بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض».
أقسام صوم النافلة:
أ- الصوم المُطلَق:
أخرج البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أنه لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أنه لا يفطر منه شيئًا، وأخرجا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا كاملاً قط غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا واللَّه لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا واللَّه لا يصوم.
ب- الصوم المُقَيَّد:
1- صَوْم عاشوراء:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: كان يوم عاشوراء يومًا تُعَظِّمه اليهود، وتتخذه عيدًا، فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «صوموه أنتم»، وأخرج مُسلم عنْ ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- يقول: حين صام رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء وأَمَر بصيامه، قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يوم تُعَظمه اليهود والنصارى، فقال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «فإذا كان العام القابل -إن شاء الله- صُمت اليوم التاسع»، فلم يأتِ العام المقبل حتى توفِّي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم.
2- صوم يوم عرفة:
أخرج مسلم عن أبي قتادة -رضي اللَّه عنه- قال: سُئل رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم عرفة؟ قال: «يُكَفر السنة الماضية والباقية»، وسُئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: «يكفِّر السنة الماضية».
3- صوم ست من شوال:
أخرج مسلم عن أبي أيوب الأنصاري -رضي اللَّه عنه- أنَّ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن صام رمضان، وأتبعه بستٍّ من شوال، كان كصيام الدهر».
4- صوم تسعة أيام من ذي الحجة:
أخرج أبو داود والنسائي عن هنيدة بن خالد ربيب عمر بن الخطاب: أن امرأة دخلت على أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمعتها تقول: إنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم تسعًا من ذي الحجة، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، وخميسين.
وأخرج البخاري عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى اللَّه من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول اللَّه، ولا الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال: ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء».
5- صوم المُحَرَّم:
لحديث مسلم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم- «أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
6- صوم شعبان:
لحديث البخاري ومسلم عن عائشة -رضي اللَّه عنها- لَم يكُن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً، وأخرج النسائي عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول اللَّه، لَم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهْر تُرفَع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحِب أن يُرفَع عملي وأنا صائم».
7- صوم أيام من الأسبوع:
أخرج النسائي، والترمذي، وابن ماجه، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يَتَحَرَّى صيام الاثنين والخميس.
8- صيام أيام البيض من كل شهر:
أخرج النسائي عن ملحان قال: كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا أن نصوم الأيام البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: «هن كهيئة الدهر».
ثانياً صوم الفريضة:
وهو الصوم الذي يلزم المسلم، فيُثاب على فعله، ويُعاقَب على ترْكه، ويلزمه قضاؤُه إذا فسد أو أفطره، وهو الصوم الذي تجب النِّيَّة فيه قبل الفجر، ولا يتوقَّف على إِذْن زوج لزوجته ولا غيره، وهو أنواع:
أولاً: صوم القضاء:
يقول رب العِزَّة -سبحانه-: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
فالمرض الذي يشقُّ معه الصوم أو يزيد معه المرض، أو يتأخر البُرء، رخَّص رب العزة لصاحبِه في الفطر، وكذلك السفَر، وذلك للمشَقَّة في الغالب، ولتحقيق مصلحة الصيام لكلِّ مؤمن أَمَر اللَّه مَن أفطر هذه الأيام من رمضان أن يقضي أيامًا أخر، إذا زال المرض، أو انقضى السفر وحصلت الراحة، والفطر إذا صعب الصوم صار هو الأولى، لقول اللَّه -عز وجل-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وفي السفَر يرْوي البخاري عن أنس قال: كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، والمفطر على الصائم.
وكذلك تفطر المرأة الحائض والنفَساء، وتقضي أيامًا بعَدَد ما أفطرته من رمضان، وتلك الأيام يجوز أن تكونَ في أيام قصيرة مكان أيام طويلة أو معتدلة، في مقابل الأيام الحارة أو الباردة، والعكس جائز.
هذا، ويصِحُّ أنْ تكونَ متَّصلة أو منْفَصِلة، ويجوزُ تأخير القَضاء مع القُدرة، وإن كان الأولى التعجيل به، لحديث عائشة عند البخاري ومسلم قالت: كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان النبي -صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأخَّرَ الصومُ حتى مضى رمضان لغير علّة تمنعه، فقد أوجَب بعضُ أهل العلم القضاء بالصيام والفدية بالإطعام عن كل يوم لَم يقضه حتى دخل رمضان، وإن كان البخاري قد رد ذلك بقوله: ولَم يذكر اللَّه تعالى الإطعام، إنما قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
ثانيًا: صوم النذر
والنذْر ما أوْجَبَ العبدُ على نفسه تبرُّعًا، من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك، قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم:26]، وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270]، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، وقد امْتَدَحَ اللَّه -سبحانه- الموَفِّين بالنذر في قوله تعالى من سورة الإنسان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، ولم يَرِد مدحٌ للناذرين، بل في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم، عن ابن عمر: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النذر، قال: «إنه لا يرد شيئًا، وإنما يُستخرج به من البخيل»، وفيه النهي عن النذر، ذلك إنما لتأكيد الأمر به، والتحذير من التهاوُن به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجرَ عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، ولذا فلقد ورد في البخاري حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن نذر أن يطيعَ اللَّه فليطعه، ومَن نذر أن يعصيَ اللَّه فلا يعصه».
وفي البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين -رضي اللَّه عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن».
وصوم النذر إذا مات العبدُ عنه صام عنه وليُّه، لحديث عائشة: «مَن مات وعليه صوم صام عنه وليه»، والحديثُ في البخاري.
ونورد هنا كلام ابن القيم في بيان أن ذلك في صوم النذر، يقول:
"وقد اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يُقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب الأصلي، وهذا ظاهر مذْهب الشافعي، ومذهب مالك، وأبي حنيفة وأصحابه.
الثاني: أنه يُصام عنه، وهذا قول أبي ثور، وأحد قولي الشافعي.
الثالث: أنه يُصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه، وقول أبي عبيد، والليث بن سعد، وهو المنصوص عن ابن عباس، حيث روى الأثرم عنه أنه سُئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر، وعليه صوم رمضان؟ قال: أما رمضان فليطعم عنه، وأمَّا النذر فيُصام.
وهذا أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة، وبهذا يَزُول الإشكال.
وتعليل حديث ابن عباس أنه قال: «لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم عنه».
فإن هذا إنما هو في الفرض الأصلي، وأمَّا النذر فيُصام عنه، كما صرح به ابن عباس، ولا معارَضة بين فتواه وروايته، وهذا هو المرْوي عنه في قصَّة من مات وعليه صوم رمضان وصوم النذر، ففرق بينهما، فأفتى بالإطعام في رمضان وبالصوم عنه في النذر، فأي شيء من هذا مما يوجب تعليل حديثه؟
وما رُوي عن عائشة -رضي اللَّه عنها- من إفتائها في التي ماتت وعليها الصوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض لا في النذر، لأن الثابت عن عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان: أنه يُطعم عنه في قضاء رمضان ولا يُصام، فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارُض بين رأيها وروايتها، وبهذا يظهر اتِّفاق الرِّوايات في هذا الباب، وموافقته فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجبًا بأصل الشرْع، وإنما أوْجَبَهُ العبدُ على نفْسه، فصار بمنْزلة الدَّيْن الذي استدانه، ولهذا شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدَّين في حديث ابن عباس، والمسؤول عنه فيه: أنه كان صوم نذر، والدَّيْن تدخله النيابة.
وأما الصوم الذي فرَضَه اللَّه عليه ابتداءًا، فهو أحد أركان الإسلام، فلا يدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحقِّ العُبُوديَّة التي خلق لها وأمر بها، وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره، كما لا يُسْلم عنه غيره، ولا يُصَلِّي عنه غيره، وهكذا مَن تَرَكَ الحَجَّ عمدًا مع القُدرة عليه حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات، فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلها عنه بعد الموت لا يُبرئ ذمَّته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يُتَّبَع.
وسر الفرْق:
أنَّ النذْر التِزام المُكَلَّف لما شغل به ذمته، لأن الشارع ألْزَمَه به ابتداءًا، فهو أخفُّ حكمًا مما جعله الشارع حقًّا له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسَع المقدور عليه والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلَّف بما لا قُدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرْع، فإنما على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز، فواجب الذمة على نفسه متَمَكِّن من إيجاب واجبات واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرْع، فلا يلزم مِن دُخُول النيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع، وهذا يُبَيِّن أنَّ الصَّحابة أفْقَه الخلْق، وأعمقهم علْمًا، وأعرفهم بأسرار الشرْع ومقاصده وحكمه، وباللَّه التوفيق"، (انتهى كلام ابن القيم).
ثالثًا: صيام الكفَّارات:
الكفَّارة:
قال النوَوي: الكفَّارة أصلها من الكَفر -بفتح الكاف- وهو الستْر، لأنها تستر الذَّنْب وتُذهبه، هذا أصلها، ثم استعملتْ فيما وجد فيه صورة مُخالفة أو انتهاك، وإن لَم يكُن فيه إثم، كالقتل خطأ وغيره.
والكفَّارات المشروعة هي: العتْق، والصِّيام، والطعام، والكِسْوة.
هذا، وكفارة الجِماع في رمضان والظِّهار والقتْل مُرَتَّبَة ابتداءا وانتهاءا، يعني: أنه لا ينتقل عن عتق الرقَبة، إلا ألاّ يستطيع، وعدم الاستطاعة إما أن تكون حِسِّية، بمعنى: أنه لا يملك المال، أو يملك المال ولكن لا يستطيع التصرُّف فيه، لغياب أو حجر أو غيره من الموانع الشرعيَّة، وإمَّا أن تكون شرعيَّة، كأن لا يقدر على ثمنها بعد وفاء مؤنة مَن يعول، أو لا توجد الرقبة التي تباع وتشترى، فهذا ينتقل من العتْق إلى صوْم شهْرَيْن مُتتابعَيْن، فإن كان عاجزًا لهرَم أو مرَض أو خاف زيادة مرَض، فعليه إطعام ستين مسكينًا.
وكفَّارة القتْل الخطأ ليس فيها إطعام، بل هي عتق رقبة، فإن لَم يستطعْ فصِيام شهرَيْن متتابعَيْن، وكفارة اليمين فيها التخيير ابتداءا، والترتيب انتهاءا.
والتخيير بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمَن لَم يَجِد فصيام ثلاثة أيام، إذا لَم يجد الحانث في يمينه ما يكفّر به عنها من إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، أو عجز عن ذلك - كان عليه أن ينتقل إلى الصوم، فيصوم ثلاثة أيام، لقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].
وقد اختلف الفُقَهاء في اشتراط التتابُع في الصيام للكَفَّارة، وسبب الخلاف قراءة ابن مسعـود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وهي قراءة شاذة، حيث إن منَ العلماء مَن يعدُّ القراءة الشاذة حديثًا، إنْ صَحَّ كان الأخْذ بها كالأخْذ بأحاديث الآحاد من السُّنَّة.
والأحناف والصحيح عند الحنابلة وقول عند الشافعية وجوب التتابع، أما المالكية والشافعية فيستحبون التتابُع ولا يوجبونه.
اشترط الفقهاء لجواز الصيام في الكفَّارة:
النيّة: فلا يجوز صوم الكفَّارة من غير نية من الليل، لأنه صوم واجب.
التتابع: في صوم كفارة الظهار والقتْل والجماع في نهار رمضان، فإن قطع التتابع ولو اليوم الأخير وجب الاستئناف.
محمد صفوت نور الدين
ماجى
وعنه -رضي اللَّه عنه- من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء فيه: «وإذا كان يوم صَوْم أحدكم، فلا يرفُث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فلْيَقُل: إنِّي امرُؤ صائم»، وكذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبداللَّه بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن استطاع منكم الباءَة فلْيَتَزَوَّج، فإنه أغَضُّ للبَصَر، وأحصن للفرْج، ومَن لَم يستطعْ فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء».
لذلك كان الصَّوْم كفَّارة، لحديث البخاري عن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تُكَفِّرها الصلاة والصيام والصدَقة».
وجعل الله للصائمين بابًا في الجنة اسمه الرَّيَّان، لما أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ في الجنَّة بابًا يُقال له: الرَّيَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِق، فلم يدخل منه أحدٌ».
وفي رواية للبخاري: «في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمَّى الرَّيَّان، لا يدخله إلا الصائمون».
فالصوم تربية للمسلم في دُنياه، وعَوْن له على تملُّك شهواته وضبْطها، وكذلك منْزلة له عند ربِّه، وفتح لبابٍ من أبواب الجنة يدخُل منه، فإن كان الصومُ المفروض في رمضان، فالصَّوم مشروع في غير رمضان، ولا يحرم إلا في العيدين ويوم الشك، ويُكره في أيَّام التشريق، ويُكره إفراد الجمعة وإفراد السبت نافلة لغير صوم مُعتاد.
وينقسم الصوم في غير رمضان إلى قسمَيْن:
صوم نافلة، وصوم فريضة.
أولاً: صوم النافلة:
وهو منَ الخصال المكفِّرة، لحديث حُذَيفة -رضي الله عنه- «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تُكَفِّرها الصلاة والصيام والصدَقة»، ففي مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يُكَفِّر السنَة الماضية والباقية»، قال: وسُئل عن صَوْم يوم عاشُوراء، فقال: «يُكَفِّر السنة الماضية»، وفي حديث الشيخَيْن عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «ما مِن عبد يصوم يومًا في سبيل اللَّه، إلا باعد اللَّه بذلك وجهه عن النار سبعين خريفًا»، وحديث الترمذي عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن صام يومًا في سبيل اللَّه، جعل اللَّه بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض».
أقسام صوم النافلة:
أ- الصوم المُطلَق:
أخرج البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أنه لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أنه لا يفطر منه شيئًا، وأخرجا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا كاملاً قط غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا واللَّه لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا واللَّه لا يصوم.
ب- الصوم المُقَيَّد:
1- صَوْم عاشوراء:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: كان يوم عاشوراء يومًا تُعَظِّمه اليهود، وتتخذه عيدًا، فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «صوموه أنتم»، وأخرج مُسلم عنْ ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- يقول: حين صام رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء وأَمَر بصيامه، قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يوم تُعَظمه اليهود والنصارى، فقال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «فإذا كان العام القابل -إن شاء الله- صُمت اليوم التاسع»، فلم يأتِ العام المقبل حتى توفِّي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم.
2- صوم يوم عرفة:
أخرج مسلم عن أبي قتادة -رضي اللَّه عنه- قال: سُئل رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم عرفة؟ قال: «يُكَفر السنة الماضية والباقية»، وسُئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: «يكفِّر السنة الماضية».
3- صوم ست من شوال:
أخرج مسلم عن أبي أيوب الأنصاري -رضي اللَّه عنه- أنَّ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن صام رمضان، وأتبعه بستٍّ من شوال، كان كصيام الدهر».
4- صوم تسعة أيام من ذي الحجة:
أخرج أبو داود والنسائي عن هنيدة بن خالد ربيب عمر بن الخطاب: أن امرأة دخلت على أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمعتها تقول: إنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم تسعًا من ذي الحجة، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، وخميسين.
وأخرج البخاري عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى اللَّه من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول اللَّه، ولا الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال: ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء».
5- صوم المُحَرَّم:
لحديث مسلم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم- «أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
6- صوم شعبان:
لحديث البخاري ومسلم عن عائشة -رضي اللَّه عنها- لَم يكُن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً، وأخرج النسائي عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول اللَّه، لَم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهْر تُرفَع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحِب أن يُرفَع عملي وأنا صائم».
7- صوم أيام من الأسبوع:
أخرج النسائي، والترمذي، وابن ماجه، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يَتَحَرَّى صيام الاثنين والخميس.
8- صيام أيام البيض من كل شهر:
أخرج النسائي عن ملحان قال: كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا أن نصوم الأيام البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: «هن كهيئة الدهر».
ثانياً صوم الفريضة:
وهو الصوم الذي يلزم المسلم، فيُثاب على فعله، ويُعاقَب على ترْكه، ويلزمه قضاؤُه إذا فسد أو أفطره، وهو الصوم الذي تجب النِّيَّة فيه قبل الفجر، ولا يتوقَّف على إِذْن زوج لزوجته ولا غيره، وهو أنواع:
أولاً: صوم القضاء:
يقول رب العِزَّة -سبحانه-: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
فالمرض الذي يشقُّ معه الصوم أو يزيد معه المرض، أو يتأخر البُرء، رخَّص رب العزة لصاحبِه في الفطر، وكذلك السفَر، وذلك للمشَقَّة في الغالب، ولتحقيق مصلحة الصيام لكلِّ مؤمن أَمَر اللَّه مَن أفطر هذه الأيام من رمضان أن يقضي أيامًا أخر، إذا زال المرض، أو انقضى السفر وحصلت الراحة، والفطر إذا صعب الصوم صار هو الأولى، لقول اللَّه -عز وجل-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وفي السفَر يرْوي البخاري عن أنس قال: كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، والمفطر على الصائم.
وكذلك تفطر المرأة الحائض والنفَساء، وتقضي أيامًا بعَدَد ما أفطرته من رمضان، وتلك الأيام يجوز أن تكونَ في أيام قصيرة مكان أيام طويلة أو معتدلة، في مقابل الأيام الحارة أو الباردة، والعكس جائز.
هذا، ويصِحُّ أنْ تكونَ متَّصلة أو منْفَصِلة، ويجوزُ تأخير القَضاء مع القُدرة، وإن كان الأولى التعجيل به، لحديث عائشة عند البخاري ومسلم قالت: كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان النبي -صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأخَّرَ الصومُ حتى مضى رمضان لغير علّة تمنعه، فقد أوجَب بعضُ أهل العلم القضاء بالصيام والفدية بالإطعام عن كل يوم لَم يقضه حتى دخل رمضان، وإن كان البخاري قد رد ذلك بقوله: ولَم يذكر اللَّه تعالى الإطعام، إنما قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
ثانيًا: صوم النذر
والنذْر ما أوْجَبَ العبدُ على نفسه تبرُّعًا، من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك، قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم:26]، وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270]، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، وقد امْتَدَحَ اللَّه -سبحانه- الموَفِّين بالنذر في قوله تعالى من سورة الإنسان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، ولم يَرِد مدحٌ للناذرين، بل في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم، عن ابن عمر: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النذر، قال: «إنه لا يرد شيئًا، وإنما يُستخرج به من البخيل»، وفيه النهي عن النذر، ذلك إنما لتأكيد الأمر به، والتحذير من التهاوُن به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجرَ عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، ولذا فلقد ورد في البخاري حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن نذر أن يطيعَ اللَّه فليطعه، ومَن نذر أن يعصيَ اللَّه فلا يعصه».
وفي البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين -رضي اللَّه عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن».
وصوم النذر إذا مات العبدُ عنه صام عنه وليُّه، لحديث عائشة: «مَن مات وعليه صوم صام عنه وليه»، والحديثُ في البخاري.
ونورد هنا كلام ابن القيم في بيان أن ذلك في صوم النذر، يقول:
"وقد اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يُقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب الأصلي، وهذا ظاهر مذْهب الشافعي، ومذهب مالك، وأبي حنيفة وأصحابه.
الثاني: أنه يُصام عنه، وهذا قول أبي ثور، وأحد قولي الشافعي.
الثالث: أنه يُصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه، وقول أبي عبيد، والليث بن سعد، وهو المنصوص عن ابن عباس، حيث روى الأثرم عنه أنه سُئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر، وعليه صوم رمضان؟ قال: أما رمضان فليطعم عنه، وأمَّا النذر فيُصام.
وهذا أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة، وبهذا يَزُول الإشكال.
وتعليل حديث ابن عباس أنه قال: «لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم عنه».
فإن هذا إنما هو في الفرض الأصلي، وأمَّا النذر فيُصام عنه، كما صرح به ابن عباس، ولا معارَضة بين فتواه وروايته، وهذا هو المرْوي عنه في قصَّة من مات وعليه صوم رمضان وصوم النذر، ففرق بينهما، فأفتى بالإطعام في رمضان وبالصوم عنه في النذر، فأي شيء من هذا مما يوجب تعليل حديثه؟
وما رُوي عن عائشة -رضي اللَّه عنها- من إفتائها في التي ماتت وعليها الصوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض لا في النذر، لأن الثابت عن عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان: أنه يُطعم عنه في قضاء رمضان ولا يُصام، فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارُض بين رأيها وروايتها، وبهذا يظهر اتِّفاق الرِّوايات في هذا الباب، وموافقته فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجبًا بأصل الشرْع، وإنما أوْجَبَهُ العبدُ على نفْسه، فصار بمنْزلة الدَّيْن الذي استدانه، ولهذا شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدَّين في حديث ابن عباس، والمسؤول عنه فيه: أنه كان صوم نذر، والدَّيْن تدخله النيابة.
وأما الصوم الذي فرَضَه اللَّه عليه ابتداءًا، فهو أحد أركان الإسلام، فلا يدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحقِّ العُبُوديَّة التي خلق لها وأمر بها، وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره، كما لا يُسْلم عنه غيره، ولا يُصَلِّي عنه غيره، وهكذا مَن تَرَكَ الحَجَّ عمدًا مع القُدرة عليه حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات، فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلها عنه بعد الموت لا يُبرئ ذمَّته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يُتَّبَع.
وسر الفرْق:
أنَّ النذْر التِزام المُكَلَّف لما شغل به ذمته، لأن الشارع ألْزَمَه به ابتداءًا، فهو أخفُّ حكمًا مما جعله الشارع حقًّا له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسَع المقدور عليه والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلَّف بما لا قُدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرْع، فإنما على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز، فواجب الذمة على نفسه متَمَكِّن من إيجاب واجبات واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرْع، فلا يلزم مِن دُخُول النيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع، وهذا يُبَيِّن أنَّ الصَّحابة أفْقَه الخلْق، وأعمقهم علْمًا، وأعرفهم بأسرار الشرْع ومقاصده وحكمه، وباللَّه التوفيق"، (انتهى كلام ابن القيم).
ثالثًا: صيام الكفَّارات:
الكفَّارة:
قال النوَوي: الكفَّارة أصلها من الكَفر -بفتح الكاف- وهو الستْر، لأنها تستر الذَّنْب وتُذهبه، هذا أصلها، ثم استعملتْ فيما وجد فيه صورة مُخالفة أو انتهاك، وإن لَم يكُن فيه إثم، كالقتل خطأ وغيره.
والكفَّارات المشروعة هي: العتْق، والصِّيام، والطعام، والكِسْوة.
هذا، وكفارة الجِماع في رمضان والظِّهار والقتْل مُرَتَّبَة ابتداءا وانتهاءا، يعني: أنه لا ينتقل عن عتق الرقَبة، إلا ألاّ يستطيع، وعدم الاستطاعة إما أن تكون حِسِّية، بمعنى: أنه لا يملك المال، أو يملك المال ولكن لا يستطيع التصرُّف فيه، لغياب أو حجر أو غيره من الموانع الشرعيَّة، وإمَّا أن تكون شرعيَّة، كأن لا يقدر على ثمنها بعد وفاء مؤنة مَن يعول، أو لا توجد الرقبة التي تباع وتشترى، فهذا ينتقل من العتْق إلى صوْم شهْرَيْن مُتتابعَيْن، فإن كان عاجزًا لهرَم أو مرَض أو خاف زيادة مرَض، فعليه إطعام ستين مسكينًا.
وكفَّارة القتْل الخطأ ليس فيها إطعام، بل هي عتق رقبة، فإن لَم يستطعْ فصِيام شهرَيْن متتابعَيْن، وكفارة اليمين فيها التخيير ابتداءا، والترتيب انتهاءا.
والتخيير بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمَن لَم يَجِد فصيام ثلاثة أيام، إذا لَم يجد الحانث في يمينه ما يكفّر به عنها من إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، أو عجز عن ذلك - كان عليه أن ينتقل إلى الصوم، فيصوم ثلاثة أيام، لقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].
وقد اختلف الفُقَهاء في اشتراط التتابُع في الصيام للكَفَّارة، وسبب الخلاف قراءة ابن مسعـود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وهي قراءة شاذة، حيث إن منَ العلماء مَن يعدُّ القراءة الشاذة حديثًا، إنْ صَحَّ كان الأخْذ بها كالأخْذ بأحاديث الآحاد من السُّنَّة.
والأحناف والصحيح عند الحنابلة وقول عند الشافعية وجوب التتابع، أما المالكية والشافعية فيستحبون التتابُع ولا يوجبونه.
اشترط الفقهاء لجواز الصيام في الكفَّارة:
النيّة: فلا يجوز صوم الكفَّارة من غير نية من الليل، لأنه صوم واجب.
التتابع: في صوم كفارة الظهار والقتْل والجماع في نهار رمضان، فإن قطع التتابع ولو اليوم الأخير وجب الاستئناف.
محمد صفوت نور الدين
ماجى