كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تداولت وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة خبرًا مفاده أن: "فتاة في صعيد مصر اشتعلت النار في منزلهم في أثناء استحمامها فرفضت الخروج عارية حتى لقيت مصرعها"!
والخبر مُفعم بالمعاني التي تستدعي وقفة.. فإن السعيد من وُعِظ بغيره؛ فأبصر طرق الضلال فاجتنبها، ونظر في كل صاحب همة عالية أو موقف نادر فجعله لنفسه حاديًا، ولهمته محفزًا.
وهذه بعض المعاني المتعلقة بالحدث:
أولاً: الضرورات تبيح المحذورات: فمن رحمة الله لعباده أن شرع لهم حال الضرورة ارتكاب بعض المحرمات حال الضرورة، قال -تعالى-: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة:173).
وحفظ النفس من الهلاك مما يجوز بسببه -إجماعًا- ارتكاب المحرمات كمن غص حلقه ولم يجد إلا زجاجة خمر؛ جاز له الشرب منها، ومن أُكرِهت على الزنا وإلا قتلت؛ جاز لها الاستسلام.
ثانيًا: تختلف أحوال الرخصة بحسب الضرر المتوقع، والفعل الاضطراري؛ فيجب على من غص حلقه بلقمة أن يدفعها ولو بشرب الخمر إذ إن مفسدة شرب جرعة من الخمر مع كراهيته الشرعية لها مفسدة طارئة عارضة لا تقاس بمصلحة حفظ نفسه.
ويكون الأمر اختياريًا في شأن تناول جرعة "بنج" من أجل إزالة عضو يتألم منه، ولكن لا يخاف من عدم إزالته الهلاك.
بينما يستحب الثبات وعدم الاستسلام في حق من تُكره على الزنا، ولو أدى إلى قتلها؛ وإن أخذت بالرخصة جاز لها.
وأما مسألة كشف العورة من أجل حفظ النفس؛ فالأمر فيه أهون، ومع ذلك فالأمر محتمل؛ لاستحباب الصبر، والله -تعالى- أعلم.
ولا نظن أن تلك الفتاة الصغيرة السن تعرف كل ذلك؛ فيبقى أنها جادت بنفسها حفاظًا على حيائها، فنسأل الله أن يسترها في الآخرة كما سترت نفسها في الدنيا، ونسأله -تعالى- أن يتقبلها عنده في الشهداء، ونسأله أن يرزق أهلها الصبر والسلوان.
ثالثًا: معنى الخلق: عرف الغزالي الأخلاق بأنها: "هيئة في النفس راسخة, عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية".
ومثـَّل لها الهروي بقول القائل:
إن الخُلق هو: الهيئة الراسخة التي تتحكم تلقائيًا في أفعال الإنسان؛ بحيث يجد سهولة ويسر في التصرف بمقتضى هذه الأخلاق، بينما يجد عسرًا في التصرف على خلافها.
والأخلاق يُعرف حسنها وقبحها من الشرع، ومَنْ فتش في نفسه فوجد أخلاقًا جبلية حميدة حمد الله عليها، وعمل على تثبيتها في نفسه، كما في حديث أشج عبد القيس حينما قال له -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ: الْحِلْمَ وَالأَنَاةَ). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا تَخَلَّقْتُهُمَا، أَوْ جَبَلَنِي اللهُ عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا). قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
ومَنْ وَجد غير ذلك؛ فليجاهد نفسه على التخلق بالأخلاق الحسنة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنّما العِلْمُ بالتّعَلُّمِ وإنّما الحِلْمُ بالتّحَلُّمِ) (رواه الطبراني والدارقطني، وحسنه الألباني). فمَن واظب على التخلق بالخلق الفاضل يُوشك أن يتحول هذا بالنسبة له إلى خلق.
ولا أجد مثالاً على أن الخلق هيئة راسخة في النفس تتولى قيادة النفس تلقائيًا من حياء تلك الفتاة؛ فقد كانت في حالة استثنائية يتولى فيها هاجس الخوف والهلع قيادة تصرفات الإنسان، ولا يمكن لأحد أن يفكر في أمر ما في تلك اللحظة التي تتصاعد فيها مشاعر الخوف والاضطراب إلا إذا كان هذا الأمر هيئة راسخة في نفس صاحبه.
إنه درس لكل مؤدب ومتأدب تدرك معه متى يكون الخُلق خُلُقًا، ومتى يكون تَخلُّقا؛ فمن كان يشذ عن مقتضى الخلق متى استثير فهو ما زال بعد في مرحلة التخلق، وما زال بعد في حاجة إلى مزيد من المجاهدة؛ لكي يصل إلى حالة الخلق الفاضل -نسأل الله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا هو-.
رابعًا: خلق الحياء: الحياء من الأخلاق الفاضلة التي حض عليها الإسلام، ويكفي في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خصه بالذكر من بَيْن شعب الإيمان في حديث: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) (رواه مسلم).
ومر النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ) (متفق عليه).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ) (رواه البخاري).
أي أن الحياء هو الخلق الحاجز المانع من فعل القبائح، فمن زال حياؤه؛ هان عليه فعل كل القبائح؛ ذلك لأن الحياء يكون: مِن الله، ومِن الناس، ومَنْ ضعف عنده هذا أو ذاك؛ اقتحم المحارم لا يُبالي!
والغرض من الحديث أن مَنْ خاف على نفسه الوقوع في الفحش، وأراد صيانتها من ذلك؛ فعليه أن يتعاهد خلق الحياء في نفسه حتى يكون هو الذي يغلب شهواته، وإلا ركبت الإنسان شهواته وتجارى مع أهوائه.
خامسًا: حياء المرأة: الحياء خلق فاضل يستوي في فضيلته الرجال والنساء، والحياء من انكشاف العورة أحد صور هذا الحياء، بل قد يكون هو المراد عند الإطلاق، وهو حياء جُبِل عليه الأبوين، كما قال -تعالى-: (فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِين) (الأعراف:22).
بيد أن الله -تعالى- فطر الأنثى قبل أن يكلفها شرعًا بأن حدود عورتها أوسع بكثير من حدود عورة الرجل؛ فيلاحظ أن الأنثى أكثر خجلاً في هذا الجانب من الرجل، ثم جاء الشرع فوضع لذلك الحدود الواضحة فيما يجب ستره، وفيما يستحب لكل من الرجل والمرأة مع مراعاة الفروق الوظيفية والبيولوجية بين الاثنين؛ فقد خلق الله الخلق وأبدعه، فخلق الذكر والأنثى، وجعل بينهما تكامل في الوظائف، وجَبَل كلاً منهما على ما يليق بمهمته، وإذا كان الله قد أودع في الجنسين التجاذب فقد جعل المرأة جاذبة والرجل منجذبًا، ثُم شرع طريقة واحدة يسمح فيها بحدوث هذا التجاذب، وهي: "الزواج".
ومِنْ ثَمَّ؛ فقد جبل المرأة على حياء مُضاعف، تصون به جمالها من الظهور على غير الزوج فهي في هذا الجانب أكثر حياء من الرجل حتى ضُرب بها المثل، فقيل: "كالعذراء في خدرها"، وقال الله عن بنت الرجل الصالح شعيب: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (القصص:25).
ويقابِل هذا الخلق عند الرجل النخوة والشهامة، والأمانة التي تمنع الرجل من محاولة الولوغ والنيل ممن لا تحل له، وهو ما كان من موسى -عليه السلام- حتى وصفته تلك الحيية بأنه قوي أمين: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26).
وقال عنترة مبينًا أن المروءة خلق جبلي في الرجال الأسوياء فقال ممتدحًا:
إذن فحياء المرأة أمر فطري وشرعي، وهذه الفتاة الصغيرة السن غالب الظن أنه غلب عليها حياؤها الفطري، وإلا فلو كان الغالب عليها الحياء الشرعي؛ لأخذت بالرخصة غالبًا فإن الشرع الآمر لها بالحياء هو الذي يعطيها الرخصة، والنار تحيط بها من كل جانب، ولكن الحياء الفطري كان أغلب وأرسخ في النفس، وهذا شأنه طالما بقيت الفطرة غير مدنسة، بل إن كثيرًا ممن شوهت فطرتهن يظل صوت الفطرة في قلوبهن -وإن خفَّت-.
تقول الكاتبة "هناء الصنيع" في مقال لها على موقع "طريق الإسلام" بعنوان: "الفتاة وملابس البحر": "حدثتني فتاة في العشرين من عمرها من إحدى الدول العربية أنها قبل استقامتها كانت ترتدي "المايوه" على البحر، وكانت تشعر بانقباض في صدرها، وحرارة في جسدها عندما ترتديه، مع أن والدتها ترتديه أيضًا، والأمر عادي بالنسبة لهم، فقد نشأت على ذلك، لكنها لم تكن مرتاحة أبدًا رغم أنها لم تكن تصلي ذلك الحين. قالت لي ذلك بمرارة وحسرة على الماضي، وهي تتمنى أن يهدي الله والدتها كما هداها للحق".
سادسًا: جزار والحياء: إذا كان حياء المرأة فطريًا، فالطبيعي أن تتسم به المرأة، حتى وإن لم تكن مسلمة؛ فإذا كانت مسلمة عضد دينها فطرتها، فصار حياؤها هيئة راسخة فيها بحيث يكون نزع ثيابها عنها أشد من سلخ جلدها، تجد من ألمه المعنوي أشد مما تجده من يُسلخ جلدها من ألم حسي بيد أن هناك شيئًا يُسمى "البنج"؛ يتغلبون به على الألم لمن اضطروا إلى سلخ جلدها، وكذلك يوجد "بنج" يعطونه لمن رغبوا في سلخ ثيابها.
وقد ساق هذا المعنى الأديب مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- في مقالة: "قصيد مترجمة عن الشيطان لحوم البحر"، قال في افتتاحها:
"لكأنما والله تمدد على سيف البحر في الإسكندرية شيطان مارد من شياطين ما بين الرجل والمرأة، يخدع الناس عن جهنم بتبريد معانيها... وقد امتلأ به الزمان والمكان، فهو يرعش ذلك الرمل بذلك الهواء رعشة أعصاب حية، ويرسل في الجو نفحات من جرأة الخمر في شاربها ثار فعربد، ويطلع الشمس للأعين في منظر حسناء عريانة ألقت ثيابها وحياءها معًا، ويرخي الليل؛ ليغطي به المخازي التي خجل نهار أن تكون فيه.
ولعمري إن لم يكن هو هذا المارد، ما أحسبه إلا الشيطان الخبيث الذي ابتدع فكرة عرض الآثام مكشوفة في أجسامها تحت عين التقي والفاجر، لتعمل عملها في الطباع والأخلاق، فسول للنساء والرجال أن ذلك الشاطئ علاج الملل من الحر والتعب، حتى إذا اجتمعوا فتقاربوا فتشابكوا سول لهم الأخرى أن الشاطئ هو كذلك علاج الملل من الفضيلة والدين! ".
إلى أن نظم على لسان الشيطان قصيدة كانت جملتها المتكررة،"يا لحوم البحر، سلخك من ثيابك جزار.....!" ومما قاله فيها:
"يا لحوم البحر، سلخك جزار من ثيابك.
جزار لا يذبح بألم، ولكن بلذة....
ولا يحز بالسكين ولكن بالعاطفة.....
ولا يميت الحي إلا موتا أدبيًا......
إلى الهيجاء يا أبطال معركة الرجال والنساء.
فهنا تلتحم نواميس الطبيعة ونواميس الأخلاق.
للطبيعة أسلحة العري، والمخالطة، والنظر، والأنس، والتضاحك، ونزوع المعنى إلى المعنى.... وللأخلاق المهزومة سلاح من الدين قد صَدِئ؛ وسلاح من الحياء مكسور.. !
يا لحوم البحر، سلخك من ثيابك جزار......".
هل آن الأوان لمن تكشف عن شيء من زينتها قل أو كثر أن تفيق من هذا "البنج" الشيطاني، وأن تستجيب للنداء الرباني تحذيرًا من فتنة الشيطان وبنجه.
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:26-27)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تداولت وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة خبرًا مفاده أن: "فتاة في صعيد مصر اشتعلت النار في منزلهم في أثناء استحمامها فرفضت الخروج عارية حتى لقيت مصرعها"!
والخبر مُفعم بالمعاني التي تستدعي وقفة.. فإن السعيد من وُعِظ بغيره؛ فأبصر طرق الضلال فاجتنبها، ونظر في كل صاحب همة عالية أو موقف نادر فجعله لنفسه حاديًا، ولهمته محفزًا.
وهذه بعض المعاني المتعلقة بالحدث:
أولاً: الضرورات تبيح المحذورات: فمن رحمة الله لعباده أن شرع لهم حال الضرورة ارتكاب بعض المحرمات حال الضرورة، قال -تعالى-: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة:173).
وحفظ النفس من الهلاك مما يجوز بسببه -إجماعًا- ارتكاب المحرمات كمن غص حلقه ولم يجد إلا زجاجة خمر؛ جاز له الشرب منها، ومن أُكرِهت على الزنا وإلا قتلت؛ جاز لها الاستسلام.
ثانيًا: تختلف أحوال الرخصة بحسب الضرر المتوقع، والفعل الاضطراري؛ فيجب على من غص حلقه بلقمة أن يدفعها ولو بشرب الخمر إذ إن مفسدة شرب جرعة من الخمر مع كراهيته الشرعية لها مفسدة طارئة عارضة لا تقاس بمصلحة حفظ نفسه.
ويكون الأمر اختياريًا في شأن تناول جرعة "بنج" من أجل إزالة عضو يتألم منه، ولكن لا يخاف من عدم إزالته الهلاك.
بينما يستحب الثبات وعدم الاستسلام في حق من تُكره على الزنا، ولو أدى إلى قتلها؛ وإن أخذت بالرخصة جاز لها.
وأما مسألة كشف العورة من أجل حفظ النفس؛ فالأمر فيه أهون، ومع ذلك فالأمر محتمل؛ لاستحباب الصبر، والله -تعالى- أعلم.
ولا نظن أن تلك الفتاة الصغيرة السن تعرف كل ذلك؛ فيبقى أنها جادت بنفسها حفاظًا على حيائها، فنسأل الله أن يسترها في الآخرة كما سترت نفسها في الدنيا، ونسأله -تعالى- أن يتقبلها عنده في الشهداء، ونسأله أن يرزق أهلها الصبر والسلوان.
ثالثًا: معنى الخلق: عرف الغزالي الأخلاق بأنها: "هيئة في النفس راسخة, عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية".
ومثـَّل لها الهروي بقول القائل:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
إن الخُلق هو: الهيئة الراسخة التي تتحكم تلقائيًا في أفعال الإنسان؛ بحيث يجد سهولة ويسر في التصرف بمقتضى هذه الأخلاق، بينما يجد عسرًا في التصرف على خلافها.
والأخلاق يُعرف حسنها وقبحها من الشرع، ومَنْ فتش في نفسه فوجد أخلاقًا جبلية حميدة حمد الله عليها، وعمل على تثبيتها في نفسه، كما في حديث أشج عبد القيس حينما قال له -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ: الْحِلْمَ وَالأَنَاةَ). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا تَخَلَّقْتُهُمَا، أَوْ جَبَلَنِي اللهُ عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا). قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
ومَنْ وَجد غير ذلك؛ فليجاهد نفسه على التخلق بالأخلاق الحسنة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنّما العِلْمُ بالتّعَلُّمِ وإنّما الحِلْمُ بالتّحَلُّمِ) (رواه الطبراني والدارقطني، وحسنه الألباني). فمَن واظب على التخلق بالخلق الفاضل يُوشك أن يتحول هذا بالنسبة له إلى خلق.
ولا أجد مثالاً على أن الخلق هيئة راسخة في النفس تتولى قيادة النفس تلقائيًا من حياء تلك الفتاة؛ فقد كانت في حالة استثنائية يتولى فيها هاجس الخوف والهلع قيادة تصرفات الإنسان، ولا يمكن لأحد أن يفكر في أمر ما في تلك اللحظة التي تتصاعد فيها مشاعر الخوف والاضطراب إلا إذا كان هذا الأمر هيئة راسخة في نفس صاحبه.
إنه درس لكل مؤدب ومتأدب تدرك معه متى يكون الخُلق خُلُقًا، ومتى يكون تَخلُّقا؛ فمن كان يشذ عن مقتضى الخلق متى استثير فهو ما زال بعد في مرحلة التخلق، وما زال بعد في حاجة إلى مزيد من المجاهدة؛ لكي يصل إلى حالة الخلق الفاضل -نسأل الله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا هو-.
رابعًا: خلق الحياء: الحياء من الأخلاق الفاضلة التي حض عليها الإسلام، ويكفي في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خصه بالذكر من بَيْن شعب الإيمان في حديث: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) (رواه مسلم).
ومر النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ) (متفق عليه).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ) (رواه البخاري).
أي أن الحياء هو الخلق الحاجز المانع من فعل القبائح، فمن زال حياؤه؛ هان عليه فعل كل القبائح؛ ذلك لأن الحياء يكون: مِن الله، ومِن الناس، ومَنْ ضعف عنده هذا أو ذاك؛ اقتحم المحارم لا يُبالي!
والغرض من الحديث أن مَنْ خاف على نفسه الوقوع في الفحش، وأراد صيانتها من ذلك؛ فعليه أن يتعاهد خلق الحياء في نفسه حتى يكون هو الذي يغلب شهواته، وإلا ركبت الإنسان شهواته وتجارى مع أهوائه.
خامسًا: حياء المرأة: الحياء خلق فاضل يستوي في فضيلته الرجال والنساء، والحياء من انكشاف العورة أحد صور هذا الحياء، بل قد يكون هو المراد عند الإطلاق، وهو حياء جُبِل عليه الأبوين، كما قال -تعالى-: (فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِين) (الأعراف:22).
بيد أن الله -تعالى- فطر الأنثى قبل أن يكلفها شرعًا بأن حدود عورتها أوسع بكثير من حدود عورة الرجل؛ فيلاحظ أن الأنثى أكثر خجلاً في هذا الجانب من الرجل، ثم جاء الشرع فوضع لذلك الحدود الواضحة فيما يجب ستره، وفيما يستحب لكل من الرجل والمرأة مع مراعاة الفروق الوظيفية والبيولوجية بين الاثنين؛ فقد خلق الله الخلق وأبدعه، فخلق الذكر والأنثى، وجعل بينهما تكامل في الوظائف، وجَبَل كلاً منهما على ما يليق بمهمته، وإذا كان الله قد أودع في الجنسين التجاذب فقد جعل المرأة جاذبة والرجل منجذبًا، ثُم شرع طريقة واحدة يسمح فيها بحدوث هذا التجاذب، وهي: "الزواج".
ومِنْ ثَمَّ؛ فقد جبل المرأة على حياء مُضاعف، تصون به جمالها من الظهور على غير الزوج فهي في هذا الجانب أكثر حياء من الرجل حتى ضُرب بها المثل، فقيل: "كالعذراء في خدرها"، وقال الله عن بنت الرجل الصالح شعيب: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (القصص:25).
ويقابِل هذا الخلق عند الرجل النخوة والشهامة، والأمانة التي تمنع الرجل من محاولة الولوغ والنيل ممن لا تحل له، وهو ما كان من موسى -عليه السلام- حتى وصفته تلك الحيية بأنه قوي أمين: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26).
وقال عنترة مبينًا أن المروءة خلق جبلي في الرجال الأسوياء فقال ممتدحًا:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يـــواري جارتي مأواهــــا
إذن فحياء المرأة أمر فطري وشرعي، وهذه الفتاة الصغيرة السن غالب الظن أنه غلب عليها حياؤها الفطري، وإلا فلو كان الغالب عليها الحياء الشرعي؛ لأخذت بالرخصة غالبًا فإن الشرع الآمر لها بالحياء هو الذي يعطيها الرخصة، والنار تحيط بها من كل جانب، ولكن الحياء الفطري كان أغلب وأرسخ في النفس، وهذا شأنه طالما بقيت الفطرة غير مدنسة، بل إن كثيرًا ممن شوهت فطرتهن يظل صوت الفطرة في قلوبهن -وإن خفَّت-.
تقول الكاتبة "هناء الصنيع" في مقال لها على موقع "طريق الإسلام" بعنوان: "الفتاة وملابس البحر": "حدثتني فتاة في العشرين من عمرها من إحدى الدول العربية أنها قبل استقامتها كانت ترتدي "المايوه" على البحر، وكانت تشعر بانقباض في صدرها، وحرارة في جسدها عندما ترتديه، مع أن والدتها ترتديه أيضًا، والأمر عادي بالنسبة لهم، فقد نشأت على ذلك، لكنها لم تكن مرتاحة أبدًا رغم أنها لم تكن تصلي ذلك الحين. قالت لي ذلك بمرارة وحسرة على الماضي، وهي تتمنى أن يهدي الله والدتها كما هداها للحق".
سادسًا: جزار والحياء: إذا كان حياء المرأة فطريًا، فالطبيعي أن تتسم به المرأة، حتى وإن لم تكن مسلمة؛ فإذا كانت مسلمة عضد دينها فطرتها، فصار حياؤها هيئة راسخة فيها بحيث يكون نزع ثيابها عنها أشد من سلخ جلدها، تجد من ألمه المعنوي أشد مما تجده من يُسلخ جلدها من ألم حسي بيد أن هناك شيئًا يُسمى "البنج"؛ يتغلبون به على الألم لمن اضطروا إلى سلخ جلدها، وكذلك يوجد "بنج" يعطونه لمن رغبوا في سلخ ثيابها.
وقد ساق هذا المعنى الأديب مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- في مقالة: "قصيد مترجمة عن الشيطان لحوم البحر"، قال في افتتاحها:
"لكأنما والله تمدد على سيف البحر في الإسكندرية شيطان مارد من شياطين ما بين الرجل والمرأة، يخدع الناس عن جهنم بتبريد معانيها... وقد امتلأ به الزمان والمكان، فهو يرعش ذلك الرمل بذلك الهواء رعشة أعصاب حية، ويرسل في الجو نفحات من جرأة الخمر في شاربها ثار فعربد، ويطلع الشمس للأعين في منظر حسناء عريانة ألقت ثيابها وحياءها معًا، ويرخي الليل؛ ليغطي به المخازي التي خجل نهار أن تكون فيه.
ولعمري إن لم يكن هو هذا المارد، ما أحسبه إلا الشيطان الخبيث الذي ابتدع فكرة عرض الآثام مكشوفة في أجسامها تحت عين التقي والفاجر، لتعمل عملها في الطباع والأخلاق، فسول للنساء والرجال أن ذلك الشاطئ علاج الملل من الحر والتعب، حتى إذا اجتمعوا فتقاربوا فتشابكوا سول لهم الأخرى أن الشاطئ هو كذلك علاج الملل من الفضيلة والدين! ".
إلى أن نظم على لسان الشيطان قصيدة كانت جملتها المتكررة،"يا لحوم البحر، سلخك من ثيابك جزار.....!" ومما قاله فيها:
"يا لحوم البحر، سلخك جزار من ثيابك.
جزار لا يذبح بألم، ولكن بلذة....
ولا يحز بالسكين ولكن بالعاطفة.....
ولا يميت الحي إلا موتا أدبيًا......
إلى الهيجاء يا أبطال معركة الرجال والنساء.
فهنا تلتحم نواميس الطبيعة ونواميس الأخلاق.
للطبيعة أسلحة العري، والمخالطة، والنظر، والأنس، والتضاحك، ونزوع المعنى إلى المعنى.... وللأخلاق المهزومة سلاح من الدين قد صَدِئ؛ وسلاح من الحياء مكسور.. !
يا لحوم البحر، سلخك من ثيابك جزار......".
هل آن الأوان لمن تكشف عن شيء من زينتها قل أو كثر أن تفيق من هذا "البنج" الشيطاني، وأن تستجيب للنداء الرباني تحذيرًا من فتنة الشيطان وبنجه.
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:26-27)