الدعاء بظهر الغيب
ومن لوازم الأخوة: الدعاء بظهر الغيب، أن يدعو بعضنا لبعض في السحر، وأدبار الصلوات، فإن من صفاء القلب، وطمأنينة النفس: أن يدعو المسلم لإخوانه المسلمين، ويبلغ الحسد والغضب والضغينة، ببعض الناس، أن يحرم المسلمين من دعائه، وهو المحروم ليس هم؛ لأن الله سوف يرحمهم بدعوات الآخرين من غيره، لكنه أحرم نفسه فضلاً عظيماً، فقد ثبت في الحديث: {إن المسلم إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، قال له الملك: ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك، ولك بمثل ذلك }.
كظم الغيظ والتسامح والعفو
ومن لوازم الأخوة في الله: كظم الغيظ والتسامح والعفو، يقول الله- تبارك وتعالى-: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
ذكر ابن كثير عن هارون الرشيد : أنه كلف خادماً له أن يصب عليه الماء، فصب عليه ماءً حاراً، ثم أطلق الإناء من يده، فوقع على رأس هارون الرشيد -وهو خليفة- فغضب غضباً شديداً، وقد تغير لونه من الماء الحار، فقال له الخادم: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] قال: قد كظمت، قال: وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ قال: عفوت عنك، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: أعتقتك لوجه الله الحي القيوم.
هذا هو الوقوف مع القرآن وتطبيق أحكامه في الحياة، وهذا هو المطلوب منا تجاه هذا الكتاب العظيم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراًَ } اللهم صل على نبيك وخليلك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، برحمتك يا أرحم الراحمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وآخ بين قلوبهم، وأزل الفرقة عنهم يا رب العالمين، واجمع شتاتهم، واجعل كلمتهم واحدة، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر المجاهدين الأفغان، اللهم ثبت قلوبهم، وأيدهم بنصر منك، وأنزل السكينة عليهم، اللهم اهزم وشرد أعداءهم، ومزقهم كل ممزق، واجعلهم غنيمة للمسلمين، يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين , والحمد لله رب العالمين.
قصة سبأ آيات لكل صبار شكور
الحمد لله حمداً، والشكر لله شكراً، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فعليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العظيم: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19].
ينتقل بنا القرآن الكريم إلى مدينةٍ من مدن اليمن ، قريبة من صنعاء ليتحدث لنا عن أهلها وما كانوا فيه من نعيم، فقد كانوا في رغدٍ من العيش كما نحن اليوم نكون، وكانوا في بسط وفي أمن وسكينة، وفي راحة وطمأنينة.
وكان لهم سد أرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليهم الأمطار الغزيرة ليمتلئ بها هذا السد فيختزن كميات هائلةٍ من الأمطار يصرفونها عن طريق الري والصرف في مزارعهم، وأنبت الله لهم من كل زوجٍ بهيج: من الأشجار اليانعة والأعناب والنخيل والحبوب، حتى قال أهل التفسير: كانت المرأة من نسائهم تذهب بالمكتل على رأسها فتمر من تحت تلك الأشجار المثمرة فيمتلئ هذا المكتل من كثرة ما يتساقط فيه من الثمار، وكان عذق النخلة لا يحمله إلا الفَرَسان من عظمته ومن كثرة ما فيه من الثمار، وكانت المياه صافية، وكان الأمن والسكينة الرغد، وكانت بحبوحة العيشِ كما نعيش فيه نحن الآن.
لكن أهل هذه القرية وسكانها أعرضوا عن أمر الله، وكفروا نعمته، فقابلوا الجميل بالقبيح، وفعلوا المعاصي، وفشا فيهم المنكر فما نهوا عنه ولم يأمروا بالمعروف، وسكت الجميع على الفعل القبيح، وتمردوا على رسالة الله، فسلط الله عليهم حشرة من أضعف حشراته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فأراً واحداً فنقب هذا السد المنيع الهائل المتين، وأتى الماء مع هذا النقب وانهدم هذا السد وفي الأخير بُدِّلوا بعد النعمة نكداً، وبعد الرخاء ضيقاً، وبعد الخصب والمطر والسكينة والأمن فقراً وسخطاً ولعنة، فتفرق أهالي سبأ: وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:19] خرج الغساسنة إلى الشام ، والمناذرة إلى العراق ، والأزد إلى عمان ، والأوس والخزرج إلى المدينة ، وخزاعة إلى مكة ؛ لأنهم لم يشكروا نعمة الله، واسمعوا السياق وعيشوا مع الآيات.
يقول جل ذكره:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ [سبأ:15] آيةٌ على أن هناك إلهاً، وأن هناك رباً يجب أن يعبد: آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ:15] كان لكل إنسانٍ منهم عند بيته جنة -بستانٌ عظيم عن يمين بيته وعن شماله- يقطف الثمار ويأخذ المحصول في أمنٍ وراحةٍ وسكينةٍ وطمأنينة.
ثم قال لهم الله: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ [سبأ:15] فالنتيجة لهذا الرزق هي الشكر وإظهار النعمة لمسديها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، واستعمالها فيما يقرب العبد من الله تبارك وتعالى، لا أن نقابلها بالكفر والجحود، والمعصية والجريمة والتبجح على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وعلى شرعه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].
الذين إن مكناهم بالمال والتأييد، وبالصحة والأمن، وبرغد العيش، وبالسكينة والطمأنينة في بلادهم وأوطانهم وأجسامهم وأولادهم وبيوتهم ماذا يفعلون يا ترى؟ هل يرقصون ويغنون ويطبلون؟ هل يعصون ويقترفون المعاصي ويخرجون على حدود الله؟ لا. قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].
وانظر إلى التعقيب في آخر الآية بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] إليه يرد العمل فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15].
بلدةٌ ذات رخاء، مساكن كثيرة وأمطار غزيرة، وأرزاق وفيرة.
بلدةٌ طيبة، تأتي إليها الثمرات من كل مكان، كما تأتي الثمرات إلينا وإلى بلادنا في هذا الزمان من كل دولةٍ من دول الأرض، اشكروا لله ولا تكفروا نعمة الله، ولا ترضوا بالمعصية بينكم، ولا تتعدوا حدود الله، وتنتهكوا حرماته.
ربٌ غفور: يغفر السيئة ويقبل التوبة، ويستر الخطيئة، ويرضى بالقليل، ما أحسن هذا النعيم الذي نعيشه كما عاشه، أهل سبأ! بلدةٌ طيبة: من أرغد شعوب الأرض ومن آمن بلاد الأرض.
وربٌ غفور: يدعونا صباح مساء لأن نستغفر ونتوب، يدعونا كل يومٍ أن نشكر.
وهذا على الإيهام والتهويل والإجمال أعرضوا هكذا، فهم أعرضوا عن شريعة الله، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم! أعرضوا عن رسالة التوحيد، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!
أعرضوا عن كتاب الله كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!
فتجد الكثير -إلا من رحم الله- أعرض عن كتاب الله إلى المجلات الخليعة السافرة الداعرة، والكتب المتلوثة بالأفكار السيئة، وأعرض عن بيوت الله إلى مجالس اللغو ومجالس التهتك والجريمة، وأعرض عن منهج الله إلى منهج الشياطين ودعاة الإلحاد، وأعرض عن سماع ذكر الله إلى سماع الأغاني الرخيصة الماجنة.
فَأَعْرَضُوا [سبأ:16] ثم سكت الخطاب فقال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ:16] هذا هو التأديب لمن لم يتأدب، وهذا هو الجزاء لمن لم يشكر النعمة، وهذا هو النكال، وينوع تبارك وتعالى في التأديب، يقول عز وجل: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
أرسل الله عليهم السيل فدمر سدهم، وأهلك محصولهم، وعاث ببساتينهم وحدائقهم، فتفرقوا في الأرض.
بكى الأطفال وهم يسافرون ويرون الرحيل من بلادهم الآمنة، وبكت النساء وهنّ ينظرن إلى الخراب والإبادة والتدمير التي حلت بأوطانهم وكأن الخطاب يعنينا نحنُ على لسان القائل:
إياك أعني واسمعي يا جارة.
وما فائدة هذا الخطاب إن لم نتدبر ونتعظ وقد ذهب أهل الخطاب.
انظروا إلى جيراننا الذين أعرضوا عن منهج الله ورسالته، كيف سلط الله عليهم التدمير والإبادة، ينامون على أصوات الصواريخ، ويستيقظون على صيحات المدافع، تتساقط قصورهم على رءوسهم، وتتباكى نساؤهم في شوارعهم، ويموت أطفالهم أمام عيونهم لأنهم تلبسوا بالجريمة، ولأنهم لم يشكروا النعمة، ولأنهم ما عرفوا الله، فلقنهم الله دروساً قاسيةً لا ينسونها مرةً ثانية، يعيشون الخراب والدمار، ويعيشون العذاب والويل، ويعيشون الجوع والتمزق.
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16] ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ:17] هم الذين أساءوا وما أسأنا نحنُ، وهم الذين ردوا على الجميل بالقبيح، وهم الذين كفروا النعمة، وهم الذين تسببوا في هذا التدمير والإبادة، فأعرضوا ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17].
ثم عاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليذكرنا بصورٍ من صور النعمة التي عاشوها: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً [سبأ:18] حتى أن أسلوب المواصلات كان ميسراً في عهدهم، يتصلون بمدنهم وقراهم في أيسر وقت وأسهله، في أمانٍ وطمأنينة كما نتصل نحن اليوم بأسباب المواصلات في أمن ورغدٍ من العيش:
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:18] لا تخافون، دماؤكم محقونة، ومساكنكم مأمونة، وأموالكم محفوظة، كما نعيش اليوم:
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19] كأنهم بأفعالهم دعوا على أنفسهم، وإذا رأيت العاصي والمجرم ينتهك حدود الله فكأنه يقول لله: يا رب! نكل بي، ويا رب! عذبني، ويا رب! أبعدني عن ساحتك! قال تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سبأ:19] ما ظلمهم الله، وما اقترف الله بحقهم نكالاً ولا ظلماً، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما كسبت أيديهم: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7] وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) )[سبأ:19] هل نرى لهم ركزاً؟ هل نسمع منهم من أحد؟ هل نرى بساتينهم وحدائقهم؟ لا. إنما بقي حديث السمر من أخبارهم، عظةً وذكرى.. وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ في هذا الأسلوب الغريب الرهيب، مزقناهم كل ممزق: ففرقنا بين الوالد وولده، وبين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، جزاء ما فعلوا، ثم قال تبارك وتعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19] هذا هو الشاهد من القصة ووجه الاستشهاد: أن تدبروا، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تدبروا في مصارع الغابرين، وانظروا كيف فعل الله بالمجرمين، لتأخذوا حذركم:
مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد
وإن لم تتنبهوا فسوف تقعون في ما وقعوا فيه، من التمزق والتدمير والإبادة والجوعِ، ومن المقتِ والنقمة والغضب والسخطِ وسوء المنقلب إلى الله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم........
دعوة إبراهيم عليه السَّلام
الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فاسمع إلى سياق القرآن وهو يتحدث عن إبراهيم عليه السلام، وهو يدعو لهذه البلاد؛ ولهذه الصحراء، ولأهلها، بعد أن أنزل أهله بـ مكة ، في شعابٍ سود لا زروع فيها ولا بساتين، ولا حدائق فيها ولا مزارع، ولا حبوب فيها ولا فواكه، وإنما فيها شوكٌ، وصخورٌ مجدبة، وحرارةٌ متوهجة، يترك أهله هناك ثم يستقبل بوجهه الحي القيوم ويقول: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
هل رأيت أجدب من هذه الصحراء في بلاد العالم التي نعيش فيها؟
وهل رأيت بعد ذاك الجدب أرغد منها معيشة، وآمن منها وطناً، وأحسن منها متاعاً بفضل تلك الدعوة المباركة من النبي المبارك عليه السَّلام؟
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] بوادٍ أجدبَ لا ماء فيه ولا حياة، لا ري فيه ولا رغد، لا ظل ولا أشجار، ولا حدائق ولا بساتين: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37]
ورَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37] فرض عليهم أن يقيموا الصلاة لوجهك، ويقيموا التوحيد، ويطيعوك ولا يعصوك، ربنا إذا فعلوا ذلك: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ واجعل شعوب العالم تأتي إليهم لتؤانسهم وليحيوا بها حضارةً ويبدعوا بها تجارة، أما رأيت الملايين المملينة وهي تموج بهم في مزدلفة وعرفة ومنى ؟
أما رأيت الدعوة كيف تحصنت؟
ولكن هل يا ترى يستمر الشرط مع البركة؟
هل يستمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:37] واستجاب الله لإبراهيم فأتت الثمرات من كل شعوب العالم، أتت الفواكه من دول العالم تحملها الطائرات طازجةً إلى هذه الصحراء، من أوروبا وأمريكا ، وأستراليا والصين ، ومن كل صقعٍ من المعمورة إلى هذه الصحراء، وكأن الله يقول: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15].
هذه هي النعمة التي أسبلها الله وأسدلها علينا تبارك وتعالى، ولكن العار كل العار والشنار كل الشنار أن نخالف ما جعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى سبباً للطاعة، فنرد على الجميل بالقبيح، ونتجرأ على المعاصي كما يفعل السفهاء منا، الذين يلعبون بالنار، وينتهكون حدود الله، والذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويريدون أن يطمسوا بركة هذه البلاد ومعالمها، بما يتجرءون عليه من شرب المسكر، وتناول المخدرات، ومن مزاولة الزنا، والتعامل بالربا، سوف يغضب الله ذاك الغضب الذي لا يرده هواك.
عباد الله: تدبروا من حولكم، وتفكروا كيف فعل الله بهم: ِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [ابراهيم:5].
وصلوا وسلموا على من شرفه الله بالرسالة وأمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً } اللهم صلِّ على نبيك وخليلك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم انصر جندك المجاهدين في أفغانستان وفلسطين وفي كل صقعٍ من بلاد المسلمين، اللهم ارفع رايتهم على التوحيد، واجمع كلمتهم على ما تحبه وترضاه، وثبت أقدامهم يا رب العالمين، وخذ بأيديهم وأنزل السكينة في قلوبهم.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ماكانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ........
الشيخ عائض القرنى
موقع الشبكة الإسلامية